ما مستقبل الأمة العربية أمام واقع التشرذم ومخطط التجزئة؟

شكل تلاشي و انحسار النفوذ العثماني، واكتشاف البترول بالخليج العربي، أهم العوامل المستقطبة و المثيرة للاهتمام الاستعماري بالوطن العربي عبر تاريخه الحديث و المعاصر، ومن هذا المنطلق يمكن  القول: إن معاهدة سايكس – بيكو عام 1916م، ليست سوى ترجمة للصراع الغربي حول مصادر الثروة العالمية الجديدة المتمثلة في البترول.

 وبناء على هذا الطرح، فتواجد تلك الثروة النفطية بوطن يتمتع بالوحدة الجغرافية والدينية والمصير المشترك كمقومات غالبة، و العرقية و اللغوية والتاريخية، كمقومات وحدوية نسبية، لا شك أنه سوف يشكل تهديدا قويا مستمرا للغرب ككيان سياسي و اقتصادي صاعد في تلك الفترة، وهذا ما أدركته القوى الاستعمارية التقليدية، فجاءت بالتالي تلك المعاهدة المشئومة كترجمة نصية وروحية لنوايا الغرب السيئة المبيتة تجاه العرب.

 فمعاهدة سايكس- بيكو شكلت منعطفا خطيرا في مسار العلاقات العربية الغربية، حيث أبانت و فضحت نوايا الدول الاستعمارية، بل وأبرزت للوجود مخطط تقسيم مبيت جعل من الوطن العربي هدفه الرئيس، في وقت كانت فيه تلك الدول الغربية تغدق وعودها على العرب بمساعدتهم على إنشاء دولتهم، وهو ما يجد تفسيره في مراسلات السير مكماهون مع الشريف حسين بن علي،  و هنا يطرح السؤال عن السبب الذي دفع بالبلاشفة إلى فضح تلك المعاهدة السرية؟.

 إن هذا المؤشر لن يتضح جوابه إلا بعد استقلال البلدان العربية و بروز الخط القومي العربي كاتجاه فكري وسياسي جديد، اتضحت معالمه بتغلغل النظام الاشتراكي الشمولي في بعض البلدان العربية، التي نصبت نفسها رائدة للقومية العربية، بل و مساندة للحركات التحررية في الوطن العربي و إفريقيا بشكل خاص و العالم بوجه عام، و هي نفسها التي ستعيش على وقع التحولات التي أعقبت  ما يسمي  " بالربيع العربي" عربيا ، و" بالفوضى الخلاقة" أمريكيا، و هو ما سيتحول فيما بعد إلى خريف حارق لتلك الأنظمة و شعوبها على السواء.

 إن هذا الوضع المزري للبلدان القومية الرائدة في الوطن العربي هو الذي يفرض التساؤل عما إذا كان للغرب مخطط جديد لإعادة تفتيت بلدان العرب، أم أن ما يشهده الوطن العربي في الوقت الراهن، لا يعدو أن يكون مخاضا عسيرا لوحدة ظلت تراود الشعوب اليائسة من أنظمة شمولية مستبدة ؟، وكيف سنفسر التدخل الروسي الإيراني و التركي الأمريكي فيما يجري بهذا الوطن العليل؟. 

ولعل ما يثير اهتمام المتتبع للشأن العربي، هو ما يروج من خرائط جديدة لبعض البلدان العربية توصف بالمسربة، و تنسب لأجهزة الاستخبارات المركزية الأمريكية، كخريطة تجزئة ليبيا إلى ثلاث دويلات على سبيل المثال و ليس للحصر، و هذا الأمر ليس بالشيء المثير للاستغراب، و لا بالشيء الجديد في السياسة الصهيونية الأمريكية تجاه العرب.

 فليبيا ليست بالمستهدف الوحيد في المشروع الصهيوني الأمريكي، بل مخطط التفتيت سوف يشمل كل الدول العربية بما فيها السعودية واليمن و العراق و سوريا و الجزائر و المغرب، وأيضا جمهورية مصر العربية باعتبارها المستهدف الرئيس، خاصة و أن بعض الدراسات ما فتئت تذكر بالمخطط الإسرائيلي لتوطين فلسطيني الشتات بسيناء المصرية كوطن بديل، و هو المشروع القديم الجديد منذ الخمسينات، و الذي قدمه مستشار الأمن القومي الإسرائيلي الجنرال احتياط جيؤوا أيلند عام 2004، وتم نشره في كتاب بمعهد بيكر- السادات في واشنطن عام 2010.

و للتذكير فمضمون مشروع التوطين السالف ذكره عبارة عن اقتراح تتنازل مصر بموجبه عن 750 كيلومترا مربعا من سيناء لتوطين الفلسطينيين، مقابل منح مصر 600 كيلومترا مربعا في صحراء النقب الإسرائيلية.

 وللإشارة فهذا المشروع سبقته مشاريع أخرى: كمشروع سيناء ما بين 1951م و 1953م، ثم مشروع حاييم ياحيل عام 1956م  بعد احتلال قطاع غزة ، فمشروع ييجال ألون الذي جاء ما بعد عام 1967م، إلا أنها جميعا لم تلق القبول من قبل الحكومات المصرية المتعاقبة، و بالتالي فلن نستغرب الخطة الجديدة  التي جاء بها المخطط المعروف باسم المستشرق اليهودي الأمريكي برنارد لويس لتقسيم مصر إلى ثلاث دويلات، وهو ما يلزمنا أن نذكر بأن تقسيم مصر أخطر بكثير من تقسيم أي بلد عربي آخر، و ذلك لسبب بسيط يكمن في كون بلاد الكنانة هي القلب النابض لأمتنا العربية، فبتقسيمها ينتهي حلمنا العربي، بعد أن تمكنت الأقدام السوداء من وطئ أرض الفيحاء ومدينة المنصور رمزا الشموخ العربي .

ومن هذا المنطلق يمكن القول أن تفتيت مصر لا يمكن أن يتم بمعزل عن تجزئة بقية البلدان العربية، و إنما التقسيم سيشمل كل الوطن العربي دون استثناء،  وبالتالي فإن ما يجري تنفيذه حاليا في سوريا و العراق و اليمن و ليبيا، هو الذي  سوف يشمل لاحقا بقية البلدان العربية، و بشكل خاص الدول الخليجية، و لكن من بعد انجازها للمهمة الموكولة إليها في حرب الوكالة لتفتيت أخواتها، ليسري عليها فيما بعد  نص الحكم المنفذ على الثور الأبيض.

إن كل ما سبق ذكره يعطي انطباعا واضحا أن الوضع العربي أصبح أكثر تعقيدا حتى قبل معاهدة سايكس و بيكو، خاصة و أن حربي الخليج الأولى و الثانية، ثم احتلال العراق، فرضا متغيرات جديدة على الساحة العربية، كانت نتائجها كارثة مهولة على جميع المستويات، فقد بلغ الاحتقان بين العرب مستويات لم تعهدها أوطانهم و شعوبهم  حتى في عز خلافاتهم المذهبية و السياسية على خلافة الرسول الأكرم عليه السلام.

و قد زاد من حدة ذلك الاحتقان بروز فاعلين جدد بخلفية دينية تاريخية مبنية على رؤية استشرافية توسعية، تريد إعادة بناء دورها التاريخي على حساب الشعب العربي،  و هو ما تمثله كل من دولتي إيران الشيعية و تركيا السنية، كمؤثرتين على الساحة العربية سياسيا و دينيا، و اللتين استغلتا عاملي الدين و التاريخ لتقوية تأثيرهما و نفوذهما بالمنطقة العربية، لتبررا بذلك ممارساتهما السياسية تجاه العرب، وهو ما يعكسه موقع الوطن العربي في السياسة الخارجية لكلتا الدولتين، بحيث نجحتا في خلق كيانات تابعة لهما في جل الدول العربية، فكانت محصلة ذلك خلق تجاذب وتنافر بين طوائفها السياسية و الدينية، حتى بين أبناء الشعب الواحد كما هو حال العراق و اليمن و غيرهما، مما أدى إلى بروز صراعات ذات ولاءات سياسية خارجية قائمة على الطائفية المذهبية.

فالنفوذ الإيراني أصبح يشمل خمس دول عربية، بل و أصبح يهدد دولا بعيدة عن المجال الحيوي لدولة المرشد الخميني، مما يفسر المشاركة المغربية و المصرية في الحلف العربي الذي أعلنته السعودية في حربها على مليشيات عبد المالك الحوثي باليمن، دون أن نغفل المصالح المشتركة التي تجمع بين الدول الثلاث مصر و السعودية و المغرب،  و موازاة مع هذا الوضع  تسعى  تركيا إلى إحياء أمجاد العثمانيين، بطرق شتى و ذلك بدعم الحركات و الأحزاب السنية في الوطن العربي كالأردن و مصر و تونس و غيرها ، و قد تجلى هذا بوضوح في حالة مصر إبان عهد حكم الإخوان، وهو ما يعكس الصراع السياسي الحالي بين مصر و تركيا.

و إذا كانت الحرب في اليمن محدودة النتائج في الوقت الراهن لأسباب أملتها ظروف انشغال إيران بتثبيت نفوذها في سوريا من جهة، و من ناحية أخرى بصراعها مع القوى الغربية لفك العزلة الدولية عنها،  فالوضع في سوريا  و العراق ستكون له نتاجه سلبية، إن لم نقل شاذة،  سواء على الخليج العربي بشكل خاص، أو على الوطن العربي بوجه عام، مما يعني أن ما آلت إليه أوضاع سوريا و العراق لا يعدو أن يكون بداية نهاية لبعض الأنظمة العربية والخليجية، خاصة  إذا ما استحضرنا مخطط التقسيم و التفتيت الأمريكي الصهيوني،  و قد يتطور الأمر لما هو أسوأ من ذلك  إذا ما احتدم الصراع و تعقدت المصالح بتدخل القوى الاستعمارية التقليدية في مستنقع سوريا – العراق إلى جانب أمريكا،  مما سيحول المنطقة بشكل خاص، و الخليج عموما  إلى بركان عالمي ملتهب تصلى ناره كل أصقاع الكون.

و ختاما و من كل ما سبق يمكن القول، إن حالة التشرذم التي يعشها الوطن العربي، ليزكيها غياب الرؤية المستقبلية الوحدوية لدى ساسته، ذووا الإيديولوجيات الفكرية والسياسية المختلفة المنطلقات والمتناقضة الأهداف، مما أدى إلى إذكاء الخلافات و النزاعات البينية الموروثة عن المستعمر الغربي، الذي عمل على تنميتها و إذكائها حتى بعد فترة ما يسمى بالاستقلال.

 و إذا كانت بعض الدول العربية  قد  استفادت بعض الشيء من الصراع القائم  بين القوى العظمى إبان الحرب الباردة زمن الثنائية القطبية، فإن تلك المعادلة سرعان ما تغيرت نتائجها لصالحه الولايات المتحدة الأمريكية، الداعم الرسمي للعدو العربي المشترك إسرائيل، و بالتالي فلن تكون المخططات الأمريكية الصهيونية العاملة على إزالة الدول  العربية القومية، المحسوبة على المعسكر الشرقي بزعامة الاتحاد السوفيتي، بالشيء الغريب، خاصة وأنها تمثل التهديد الرسمي و المستقبلي لأمن إسرائيل، و هذا هو السيناريو الذي تجري أحداثه حاليا في الشرق العربي.

 ولعل هذا الوضع المزري و المخزي في آن واحد،  هو الدافع بالمتتبع العربي إلى التساؤل عن النتائج و الآثار المستقبلية  لهذا التشرذم على الأمة و الوطن العربيين،  في ظل تدخل أجنبي سافرو بمساهمة عربية متميزة؟

وسوم: العدد 797