ذُلُّ المسلمين بين الكتاب والسُّنة والواقع
حيدر قفه
تمرُّ الأمة المسلمة في أوضاع متردية متخلفة، لا يملك المنصف إلا أن يسميها حالة ذُلٍّ، فقد تكالبت عليها قوى البغي والشر من كل مكان، والأمة تُساق من هوان إلى هوان.
هذه الحال تُمضُّ كُلَّ مخلصٍ ومحبٍ لهذه الأمة، وتجعله في حيرة من أمره، فرغم كل الإمكانات التي أعطاها الله لهذه الأمة من رجال، وأموال، وأراض، وخيرات، وثروات... إلخ كل مقومات الرفعة، إلا أنها تعيش الحضيض بكل سلبياته وعفنه.
وقد يتساءل المرءُ عن أسباب التخلف أو أسباب الذل الذي تعيشه الأمة، وقد يولي البعض وجهه نحو الفلاسفة والمفكرين يستطلع ما عندهم من آراء، أو يتجه صوب المصلحين ليستنكه ما بأيديهم من وسائل للنهوض.
ولكني آثرت أن أرجع إلى مصدرين أساسيين وهما عماد المسلم: الكتاب والسُّنَّة، حتى لا نقع في تشعبات الأفكار واختلاف الآراء. ماذا قال الله عن الذل؟ وماذا قال الرسول (r) عن الذل؟ وما هي الأسباب الموجدة له؟ وكيف الخلاص منه؟ وما هو واقعنا المعاصر؟
أسئلة كثيرة في مضامينها، وفي إجاباتها يكون الحل. ولكنني – بداية – أقول: إن بحثي هذا يعني الأمة الإسلامية في مجملها وبجميع أقطارها وشعوبها وأنظمة الحكم فيها، فلا أَتَـقَصَّد قُطراً دون قطر، ولا شعباً دون شعب، ولا جماعة دون جماعة، ولا نظاماً دون نظام.
أسباب الذُّلِّ
عند مراجعتي لآيات القرآن، وأحاديث الرسول (r) استطعت أن أستخلص عدة أسباب، نعايشها صباحاً ومساءاً، اقتصر على أهم ستة منها:
الأول: الابتعاد عن الدين:
وهذه نقطة جوهرية في عملية التخلف والبقاء في ربقة الذُّل، ذلك أن المجتمع الذي يرفع شعار عقيدة ما، عليه طاعة هذه العقيدة والانسجام في السلوك والتفكير معها، وإذا حدث العكس تولد التناقض، والتناقض صراع بين مُخْـتَـلِفَيـْنِِ. وقد سمى الله – تعالى – هذه النقطة بالـمُحَادَّة، قال تعالى: (ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ) [المجادلة: 20]، فالذل ناتج عن صراع بين مختلفين، إيمان بعقيدة، وسلوك يخالف هذا الإيمان فحكم الله عليهم بالذل.
ومن الجدير بالملاحظة في التركيب القرآني هنا، أن الله صَدَّرَ الآية بـ "إن" المؤكدة، الداخلة على الفعل المضارع "يحاد" الذي يفيد الحال والاستقبال، فكأن هذا الحكم الإلهي بالذل واقع لا محالة على كل من عصاه أو تحداه أو خالف هذا الدين من أهله. لأنه لا يُعقل أن يجتمع في قلبٍ واحد التقوى والفسق، الصلاح والفجور، الاستقامة والانحراف... إلخ، فهذا مستحيل عقلاً ومنطقاً.
وواقعنا اليوم ينطق بهذا، فمجتمعات المسلمين تُحادّ اللهَ ورسولَهُ في كل شيء، في الحكم، في الاقتصاد، في التربية، في التعليم، في الأدب، في الفن، في الشوارع، في البيوت... حتى في العبادات حيث دخلتها البدع التي ما أنزل الله بها من سلطان.
وقد يقول قائل: هذه أمريكا وأوروبا واليابان وغيرها من دول العالم تعصي الله ورغم ذلك عندهم تقدم!! نقول: هذا الكلام لا يُسَلَّمُ به من زاويتين:
الأولى: أن الحكم على الحضارة الغربية لا يتم اليوم، ولكن عندما تستتم فصولها وتؤول إلى الأُفول، رغم أن الدلائل تشير – منذ اليوم – إلى هذا الأفول، فحضارة تقوم على التقدم المادي فقط، بينما الجوانب الأخرى الروحية، والسلوكية، وبناء الأسرة... إلخ في تردٍ مستمر، وحسبنا أن نعلم أن أكبر معدل للانتحار في العالم في السويد، وأن أكبر معدلات الجريمة في أمريكا، وأن التفكك الأسري في هذه المجتمعات لا تنكره العين، وأن المحرمات لا قدسية لها عندهم بتأييد الكنيسة والمجالس النيابية، فزواج المتماثلين حاصل بمباركة بعض الكنائس وبتأييد المجالس النيابية، والزواج بين المحارم (الرجل وحماته) والعمل على الإقرار بالشذوذ والشاذين وعدم احتقارهم وعودٌ انتخابية جارٍ إقرارها من قبل الناجحين في الانتخابات.
الثانية: أن هذه المجتمعات قد تجد انسجاماً بين السلوك والعقيدة عندهم – لا سيما في بعض البيئات اللادينية – لهذا فهم ينطلقون بغير صراع نفسي، سيجدون مغبة هذا الانطلاق فيما بعد لمصادمته للفطرة. أما نحن فالعقيدة والفطرة في توافق، فإذا جاء السلوك معارضاً وقع التصادم، والتصادم يُوَلِّد الصراع الذي ينشأ عنه الإحباط، والتقييد والعرقلة.
ومن الجدير بالانتباه أن الإسلام يجب أن يؤخذ كُلاً متكاملاً، لا يؤخذ منه جوانب وتترك أخرى، ولعل في هذا الحديث ما يؤكد ذلك. قال رسول الله (r):
"بُعثتُ بين يدي الساعة بالسيف، حتى يُعْبَدَ الله – تعالى – وحده لا شريكَ له، وجُعلَ رزقي تحت ظل رمحي، وجُعل الذُّلُّ والصَّغَارُ على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم"([1])، فما الذي يجمع بين الجهاد، وكسب الرزق، ومخالفة أمر الرسول (r)، والتشبه المؤدي إلى الانتساب؟! قد تبدو هذه الأمور متنافرة لكنه إذا أُعيد النظر فيها لعُرف أن الإسلام يؤخذ ككل متكامل، لا شذور متفرقة لأنه لو فُعل به هكذا لما أنتج عزة وكرامة، فهو دين يعمل وحده، يرفع التميز ويرفض الاختلاط بغيره من العقائد والنِّحَلِ والقوانين والأنظمة. وقد نعى الله على أقوامٍ فعلهم هذا، وحكم عليهم بالذل أيضاً، قال تعالى: (ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ...)([2]).
الثاني: تغييب إرادة الجهاد:
والكلام هنا ليس عن حالة فردية، أو جماعة محددة باسم وأعضاء، أو دولة مؤطرة باسم وأرض وحدود، ولكن المقصود الأمة بأسرها. فقد مورست على هذه الأمة سياسة إبعاد مفهوم الجهاد عن حياة الناس، رغم أن الإسلام جعل الجهاد قمة الأعمال التي يقوم بها المسلم أو يتقرب بها إلى الله. قال رسول الله (r): " ألا أُخبركم برأس الأمر كُله، وعمودِه، وذِرْوَة سنامه؟ "قلت: بلى يا رسول الله، قال: "رأسُ الأمرِ الإسلامُ، وعمودُهُ الصلاةُ، وذُروةُ سنامِهِ الجهادُ "([3])، وقال (r): " من مات ولم يَغْزُ، ولم يُحدث نفسَه بغزوٍ، مات على شُعبةٍ من نفاق"([4])، وقال (r): "إذا تبايعتم بالعينة([5]) وأخذتم بأذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذُلاًّ، لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم"([6])، ومجمل الحديث أَنَّ من انشغل بتثمير الأموال في مقابل ترك الجهاد أصابه الذل.
وسياسة تغييب الجهاد عن حياة الأمة مورست منذ عقود، إلا أنها استعلنت في الآونة الأخيرة تحت ضغط النظام العالمي الجديد، بقوته ونفوذه، وتسلط إعلامه حتى جعلوا الجهاد يقترن في أذهان الناس بالإرهاب، فينفر منه الناس، ويتبرأ منه المسلمون، وما هو كذلك. ثم استحكمت حلقات المؤامرة على الأمة عندما بدأت التحركات المشبوهة تشتد، والاجتماعات الحقودة تمتد، والمؤتمرات الموبوءة تحاول إلغاء الجهاد بجرة قلم، وما مؤتمر الدول الإسلامية في دكار منذ ثلاث سنوات – تقريباً – عنا ببعيد.
لكن هذه التحركات المشبوهة، والضغوط المتواصلة، والتآمر على الأمة من الداخل – كل هذه الأمور – لا تستطيع إلغاء الجهاد من حياة الأمة، لأنه ركن مهم من عقيدتها، فالله تعالى يقول: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ)([7]) ، وكُتب بمعنى فُرض. لذا بَوَّبَ البخاري – رحمه الله – في صحيحه باباً سماه "باب الجهاد ماض مع البَرِّ والفاجر" وأورد فيه حديث رسول الله (r): "الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، الأجر والمغنم"([8]).
صحيح، أن هذه التحركات المشبوهة، والمؤامرات الخارجية والداخلية المحبوكة قد تُضْعف العزيمة، أو تصرف الناس عن الجهاد، لكنها لا تُلغيه، فبمجرد أن تتغير الظروف الخارجية والداخلية ويَنْبُتَ في هذه الأمة "صلاح الدين" من جديد، ستجد جذوة الجهاد قد اتقدت من جديد، واندفعت النفوس العطشى إلى جنان ربها.
الثالث: عدم الأخذ بأخلاقيات الإسلام في السلوك:
كثيراً ما يقتصر سلوكنا على الأخذ بالمظاهر والشكليات، والاحتفال بالعواطف والأمنيات دون الغوص إلى لب الأشياء، والتخلق بما يليق لما نرفع من شعارات، وهناك أمثلة عديدة سأكتفي ببعضها:
في مجال الجهاد الذي تحدثنا عه منذ قليل، منذ أكثر من خمسين سنة ونحن نقاتل عدواً شرساً، دخلنا معه معارك، وانتصر فيها علينا، لأننا لم نقاتل مجاهدين حقيقيين، ولا تحت راية واضحة، بل تعددت الرايات العَمِيّة من حزبية إلى قومية، إلى اشتراكية، إلى وطنية، وكان أسوأ هذه الريات النفعية، فاختلط المقاتلون ولم يتميز المجاهدون، وكنا نخرج من المعارك بهزيمة تلو هزيمة ثم تُـجَيَّـرُ هذه الهزائم إلى انتصارات وهمية، فطالما أن العدو لم يتمكن من زلزلة النظام، وزَحْرَحَةِ الزعيم من سدة الحكم إذن فنحن انتصرنا، أما ضياع الأوطان، وفقدان الأراضي، وانتهاك الأعراض... فلا يهم، لأن الزعيم الأوحد الذي أفلت من مؤامرة العدو سيعيد لنا ذلك كله مع المكتسبات العظيمة التي حققها للأمة والتي يزعق بها الإعلام ليل نهار. وتوالت هزائمُنا- التي هي انتصارات لحكامنا وأنظمة الحكم عندنا- حتى وصلنا إلى حالة الركوع الكامل تُملى علينا شروط السلام الذليل: الأرض مقابل السلام، وصَفَّقْنَا للشعار الجديد، وتشبثنا به بأسنانا وأظافرنا وحناجرنا.
حتى بعض المجاهدين، ظنوا أن العملية مجرد رفع راية الإسلام، وهذا يكفي، ولكن الله يأبى إلا التوافق الكلي والانسجام الفعلي. فإذا نظرنا إلى آية الجهاد في سورة الحج نجد قبل الأمر بالجهاد، مجموعة من الأوامر لا بد من الالتزام بها كمقدمة، وتهيؤ، واستعداد، وتربية قبل ملابسة الجهاد نفسه. قال تعالى: (ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ .....)([9]) فسبق الجهاد مجموعة من السلوكيات الإسلامية النظيفة.
جاء رجل إلى ابن عمر (رضي الله عنهما) وكان متحمساً للجهاد فقال الرجل: أريد أن أبيع نفسي من الله، فأجاهد حتى أُقتل!! فقال له ابن عمر: ويحك، وأين الشروط؟ أين قوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ) ([10]) ([11]) .
وفي مجال السلوك الاجتماعي يكتفي كثير من الناس بشعار الإسلام: اللحية، الدشداشة القصيرة، المسبحة، أو عند النساء: غطاء الرأس، الجلباب، وربما الخمار... بينما السلوك الإسلامي من الاستقامة الحقيقية، والورع ، والتقوى، والعيش للإسلام فهذا خلف الآذان.
ما القول في امرأة تلبس الخمار إلا أنها إذا خرجت من بيتها تعطرت؟؟ أو لبست جلباباً وغطاء للرأس وكشفت وجهها لكنها صبغته وزينته فكانت أكثر فتنة من السافرات؟ وما القول في رجل التحى، ولبس الدشداشة وما زال يدخن بشراهة الحشاش؟ هذه بعض سلبيات في الشكل، لكن القول في المسلم (أو المسلمة) الذي يرفع شعار الإسلام ويقع في جرائم يحاسب عليها الشرع وإن كان القانون لا يحاسب عليها كالغيبة والنميمة والهمز واللمز وجر الدنيا إليه بالحق وبالباطل... لقد دُعيت إلى الإفطار في أحد أيام رمضان وكان الحضور كلهم من كبار السن، ومن قضى في الدعوة سنين تجاوزت ربع قرن فوجدتهم – قبل المغرب بخمس دقائق!!- يغتابون إمام مسجد الحي!! وقس على هذا الأمر أموراً كثيرة في مخالفة تعاليم الإسلام لو كان الذي يتراءى لهم نفعاً أو سفراً قاصداً.
الرابع: تربية الشعوب على الخنوع وقبول الضيم والرضى بالذل
فرغم الشعارات التي ترفع في كل إقليم من أقاليم الإسلام، ويتغنى بها النظام الحاكم من الاهتمام بالمواطن والحرص عليه من وزن "ارفع رأسك يا أخي فقد مضى عهد الاستعمار" وهي تُقَالُ في كل بلد بصيغ مختلفة، إلا أن الممارسات الفعلية واليومية التي تمارسها الحكومات ضد الأفراد والجماعات ممارسات قمعية المقصود منها إذلال الأفراد، وجعلهم يقبلون بما تريد الحكومات، وبالتالي لا يرتفع صوت للمعارضة مهما ارتكبت الحكومة من مخالفات وأخطاء قاتلة، والحرية التي يتغنون بها إنما هي حرية المؤيدين فقط، وفي مجال تأييدهم للزمرة الحاكمة والتصفيق لها، والتغني بأمجادها.
ولعبة الديمقراطية التي بدأت تظهر بوضوح بعد منتصف الثمانينات لعبة ذكية قُصِدَ بها قتل مروءة الناس باسمها، ونفي الآخر باسمها، وإلباس الظلم لباساً براقاً كما قال الشاعر:
لقد كان فينا الظلمُ فَوضى فَهُذِّبَتْ
|
|
حواشيه حتى صار ظُلماً منظماً
|
وتكاد آراء المراقبين السياسيين تُجمع على أن الدول الإسلامية والعربية منها الديمقراطية فيها ديمقراطية مزيفة، اكتفت الأنظمة بلباس الديمقراطية، وفَرَّغَتْها من المحتوى، فلا زالت الذاكرة تعي تماماً نسبة النجاح المعروفة في الاستفتاءات العربية ذات الخمس تسعات 99.999% فضلاً عن التزوير الفاضح في الانتخابات البرلمانية التي تأتي إلى هذه المجالس بأعضاء الحزب الحاكم أو مؤيدي السلطة. وأصبحت النتيجة: سلطة تأتي بنواب يوافقونها على ما تريد، ونواب يمررون قوانين تخدم السلطة فبقيت الأمة تدور في حلقة مفرغة لا تخرج منها، تراوح في الذل سنين طويلة.
وقد تنبه عمر بن الخطاب (t) لخطورة التسلط في الحكم وأثره في إذلال الناس وبالتالي إرتكاس الأمة في حمأة التخلف والضعف والهوان. فقد قال يوماً: " ألا إني والله ما أرسل عمالي إليكم ليضربوا أبشاركم، ولا ليأخذوا أموالكم، ولكن أرسلهم إليكم ليعلموكم دينكم، وسنتكم، فمن فُعل به شيء سوى ذلك فليرفعه إليّ، فوالذي نفسي بيده إذاً لأُقُصَّنَهُ منه. فوثب عمرو بن العاص فقال: يا أمير المؤمنين، أو رأيت إن كان رجل من المسلمين على رعية، فأدب بعض رعيته، أإنك لمقتصه منه؟! قال: أي والذي نفس عمر بيده إذاً لأقصنه منه، وقد رأيت رسول الله (r) يقص من نفسه، ألا لا تضربوا المسلمين فتذلوهم، ولا تجمروهم فتفتنوهم، ولا تمنعوهم حقوقهم فتكفروهم، ولا تنزلوهم الغياض فتضيعوهم"([12]).
فالمواطن الذي يعيش خائفاً خانعاً ذليلاً في وطنه يتمنى زوال دولة الظلم، ولا يتعاون معها ولا يحميها، وإذا جاء عدو من الخارج تخاذل عن نصرة حكومة تظلمه، وهكذا كان حال نصارى الشام مع الرومان – رغم الأخوة في الدين الواحد – إلا أنهم لما جاءهم المسلمون – وقد سمعوا بعدلهم وإنصافهم – سهلوا لهم الفتح فعدوٌ عادلٌ خيرٌ من أخٍ ظالمٍ.
والنظام الذي يعمل على تعبيد الشعب له، نظام فاسد يعمل على ضياع الأمة، لأن العبيد لا يقاتلون، إنما الذي يقاتل الأحرار، أصحاب المروءات الواضحة، والنخوات المستعلية والأُنوف الشم، والجباه المرفوعة.
الخامس: عدم ترتيب الأولويات:
وترتيب الأولويات مسألة مهمة في الحياة حتى لا تضيع الجهود سُدى، وتذهب الأموال بددا. والنبي (r) أرسى قاعدة ترتيب الأولويات في أمرين من أهم أمور المسلمين، وأنا أسوقهما هنا كمثال أو نموذج، وإلا فالإسلام أصلاً أبو هذه المسألة.
المعلوم – وكما قدمنا آنفاً – أن الرسول (r) اعتبر الجهاد في سبيل الله ذروة سنام الإسلام، ورغم ذلك قَدَّمَ عليه أموراً لأنه رأى أنها أولى منه في حياة المجتمع إذا كان الجهاد فرضاً كفائياً.
الحالة الأولى: طاعة الوالدين ورعايتهما:
فعن عبد الله بن عمرو (رضي الله عنهما) قال: جاء رجلٌ إلى رسول الله (r) فاستأذنه في الجهاد. فقال: "أَحَيٌ والداك؟" قال: نعم. قال:
"ففيهما فجاهد" متفق عليه. وفي رواية: " فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما "([13]).
الحالة الثانية: صيانة الحريم ورعايتهن:
فعن ابن عباس (رضي الله عنهما) أنه سمع النبي (r) يقول: "لا يخلون رجل بامرأة، ولا تسافرن امرأة إلا ومعها محرم" فقام رجلٌ، فقال: يا رسول الله! اكْتُتِـبْتُ في غزوة كذا وكذا، وخرجتْ امرأتي حاجَّةً. قال:
"اذْهب فحُجَّ مع امرأتِك"([14]).
ونحن في حياتنا المعاصرة نخالف هذه القاعدة، ولا نراعي الأوليات، فقدمنا المهم على الأهم والكماليات على الضرورات على المستوى الفردي، وعلى مستوى الدول والحكومات فعلى المستوى الفردي، إرضاء الأصحاب والأصدقاء مقدم على رضى الوالدين، وشراء الكماليات في الأفراح أهم من الأساسيات، والاعتناء بالمظهر أهم من تجويد المخبر. وعلى مستوى الحكومات والدول في عالمنا الإسلامي، إقامة الملاعب الضخمة، والإنفاق على المسيرات، والعروض العسكرية، والاحتفالات بأيام وطنية – تعني قفزهم على السلطة – فضلاً عن أعياد الجلوس والميلاد وما شابه من مهرجانات أهم من التنمية الحقيقية لموارد الأمة... والأمثلة على ذلك كثيرة تدركها حتى العيون الرمدة، ولا ينكرها إلا مكابر.
السادس: الإغراق في حب الدنيا:
الله – سبحانه وتعالى – لم يُحَرِّمْ علينا حب الدنيا، ولكنه بَغَّضَ إلينا الإغراق في حبها، والانصراف إليها كلياً، حتى قال بعض العارفين: حُبُّ الدنيا رأس كل خطيئة. وبعضهم اعتبره ذنباً وأي ذنب. وهذا الحب المغرق هو الذي ذكره رسول الله (r) كسبب من أسباب التخلف والذل. قال (r): "يوشِكُ أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق، كما تدعى الأَكَلَةُ إلى قصعتها، قيل: يا رسول الله! فمن قلة يومئذٍ؟ قال: لا، ولكنكم غُثاءٌ كغثاء السيل، يُجعلُ الوهن في قلوبكم، ويُنزعُ الرعب من قلوب عدوكم، لحبكم الدنيا، وكراهيتكم الموت"([15]).
قال الحسن البصري: لو لم يكن لنا ذنوب نخاف على أنفسنا منها إلا حبنا
الدنيا لخشينا على أنفسنا منها، إن الله عز وجل يقول: (ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ)([16]) ، أريدوا ما أراد الله عز وجل([17]).
وقال بلا بن سعد (t): والله لكفى بنا ذنباً أن الله يزهدنا في الدنيا، ونحن نرغب فيها([18]).
وبعد، هذه ستة أسباب رئيسية لحالة الذل التي يتردى فيها المسلمون اليوم، والأمر يحتاج إلى عزائم قوية للتخلص من هذه السلبيات، والصعود في مراقي العز والرفعة، والله من وراء القصد.
([1]) حديث صحيح. صحيح الجامع الصغير وزيادته ج 1 ص 545 – ص 546 رقم 2831.
([2]) البقرة: 85.
([3]) قطعة من حديث معاذ بن جبل (t). سنن الترمذي ج 4 ص 124 – ص 125 رقم 2749. وقال عنه الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
([4]) حديث صحيح. رواه مسلم وغيره. صحيح الجامع الصغير وزيادته ج 2 ص 1115 رقم 6548.
([5]) بيع العينة نوع من التحايل على الربا. ويتم الشراء بثمن مؤجل، ويباع الشيء المشترى إلى صاحبه الأول بثمن حال في المجلس نفسه ولكنه بأقل من ثمن الشراء.
([6]) حديث صحيح. صحيح الجامع الصغير وزيادته ج 1 ص 136 رقم 423.
([7]) البقرة: 216.
([8]) صحيح البخاري، كتاب الجهاد، باب الجهاد ماض ج 4 ص 34.
([9]) الحج: 78.
([10]) التوبة: 112.
([11]) عبد الله بن عمر لمحي الدين مستو ص 158 – 159.
([12]) رواه أحمد في المسند ج 1 ص 41.
([13]) مشكاة المصابيح ج 2 ص 354 رقم 3817.
([14]) اللؤلؤ والمرجان ص 310، رقم 850.
([15]) حديث صحيح. صحيح الجامع الصغير وزيادته ج 2 ص 1359 رقم 8183.
([16]) الأنفال: 67.
([17]) الزهد: لأحمد بن حنبل ص 283.
([18]) سير أعلام النبلاء ج 5 ص 92.