ثُوروا تصحّوا
في عام 1919، بمدينة كريمنشوك الروسية، ولد ألكسندر بيتشيرسكي، الذي نشأ وتعلم في مدينة روستوف بمدرسة الموسيقى والمسرح. وفي عام 1941 انضم كريمنشوك للجيش الروسي الذي كان يحارب النازي، برتبة ملازم ثان، إلا أنه أسر في تشرين الأول/ أكتوبر من العام نفسه، ليودع في واحد من أشرس المعتقلات النازية، معتقل "سوبيبور" الواقع شرق بولندا.
تقول محاضر جلسات نورنبيرج، وكذا مذكرات من حضروا المحاكمات من شهود العيان، على المجازر التي كانت ترتكب بعد فترة ليست بالقصيرة من تعذيب الأسير، واستعباده بتشغيله في أعمال لصالح جيش النازي، أن الأسرى كانوا يساقون إلى مكان شديد إحكام الغلق، تتدلى منه ما يشبه "دش الحمام"، وكان الجنود يُقنعون الأسرى بأنهم يأخذونهم للاستحمام، ويدخل الأسرى بعد أن يخلعوا ملابسهم، فتضخ تلك المواسير غازا ساما يقضي على الأسرى بعد دقائق من فتحه عليهم. ولأنه أحد الناجين القلائل من هذا المعتقل، فقد روى، وأكد جنود النازي روايته عما حدث، ولأن بيتشيرسكي لم يقبل منذ اللحظة الأولى الاسترقاق وخدمة النازي، فإنه حرض الأسرى على الثورة على الجنود، فاقتنع بالفكرة العشرات من أصل آلاف وُضعوا خلف أسوار المعتقل العتيدة. ونفذ بيتشيرسكي وزملاؤه ثورة على الجنود، وقتل البعض منهم، لكن الباقين نجوا، نجوا ليحاكموا سجانيهم الذين ساموهم سوء العذاب.
لقد أثبت بيتشيرسكي شيئا واحدا، إلا أنه جوهري، أثبت أن الخوف هو الدافع الحقيقي لاستعباد الإنسان نفسه، ورضوخه للمستبد، فإذا ما كسر حاجز الخوف، فإن المستبد ينكشف، وتظهر حقيقته الضعيفة التي طالما غلفها بقوة مزيفة، يفرضها على أناس ارتضوا الخضوع بوهم هم صنعوه لأنفسهم.
لقد كانت كلمات قائد الانقلاب في مصر منذ أيام عن كلفة التغيير (وهو يعني الثورة) أكبر بكثير من نتائجها، وهي محاولة لقتل ما يمكن أن يولد في نفوس المصريين الذين باتوا على قناعة كاملة بأن الرجل يعمل؛ لا للقضاء على الثورة، بل لتدمير مصر نفسها. ولأنه رجل مخابرات في دولة بوليسية، فإن حسه الأمني دفعه للشعور ببوادر غليان المرجل، فأراد أن يطفئ النار باستخدام عبيد الاستقرار.
ولأن الثورة هي دين، ولأن الثورة عبادة، وقربة إلى الله، فإن أداءها أصبح فرض عين، وأن توحيد الصفوف واجب الوقت، ونبذ الشقاق شرط من شروط صحة الثورة، بعد ما تأكد لكل ذي عينين أن رأس النظام يأخذ مصر إلى الهاوية.
لكن الحديث عن كيفية أداء تلك العبادة (الثورة) خلاف الأولى، وهو مرتبة بين المكروه (عسكرة الثورة) والمباح (تكرار سيناريو يناير).
أما الأولى، فإن نتائجها عكسية، وهي ما تمناه النظام وسعى إليه منذ أول يوم في الانقلاب؛ بأن يجر الثوار إلى ساحة السلاح التي يتقنها، كما أن عسكرة الثورة ستكون مبررا قويا لا يمكن أن يلومه عليه أحد، إذا ما قضى على الثوار، وهو حلمه الساعي إليه حتى الآن، كما أن الحاضنة الشعبية التي مالت للثورة في كانون الثاني/يناير، أو صمتت وترقبت، ستكون في صفه، لما يعرف عن المصريين من نبذهم العنف وعدم قبوله. بل على العكس، يؤيدون الباطش لو برر بطشه بتحقيق أمنهم واستقرارهم، كما أن المجتمع الدولي الذي يحمي الكيان الصهيوني سيقف في صفه؛ خوفا على أمن الكيان اللقيط.
أما الثانية (تكرار سيناريو يناير) فهو بعيد المنال، فلا يظن ظان أن النظام من أول يوم لم يُجلس رجالاته بالأيام والليالي لدراسة ما حدث في كانون الثاني/يناير على كل المستويات، أمنية أو شعبية أو خارجية، وحتى سيكولوجية الشعب وانطباعاته؛ قد حللها، فطول المدة (خمس سنوات) كافية لتأمين كل الثغرات التي نفذت منها ثورة يناير، وهو في ذلك مجتهد، ويكفي مشاهدة قنواته يومين متتالين لتتأكد الفكرة.
لذا، فالواجب الآن هو البحث عن بدائل إبداعية لإسقاط هذا النظام المجرم الساعي لإسقاط مصر. ولتكن البداية بتوعية الناس وإفهامهم ما هم ذاهبون إليه، وكيف يدبر النظام لهم المصير. فقول رأس النظام إن مصر شبه الدولة هو الحلم الذي يسعى لتحقيقه، فإفشال مصر بالمعنى الاصطلاحي هو هدف النظام.
إن السعي لمعرفة العدو والتدبير له على أسس علمية هو واجب المعارضة الآن، كما أن على المعارضة العمل على تكوين رأي عام عالمي لتصبح القضية المصرية ورقة ضغط من المعارضة في تلك البلدان على حكوماتها، ولن يكون ذلك إلا بحدث كبير يحرك الشارع؛ تصنعه ثم تستثمره، فعلى الجميع العمل على تثوير الشارع لنكون كبيتشيرسكي الذي ثار فنجا، وحاكم سجانه.
وسوم: العدد 799