علاقة وعد بلفور بهزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى
كنت أمس أتحدث مع والدي ، أي في اليوم الذي صادف ذكرى الأحد ، الحادي عشر من نوفمبر ، تلك الذكرى التي ما فتئت بريطانيا تجلها عظيم الإجلال . سألني والدي عن سبب نشوب الحرب العالمية الأولى بما أنها على هذا القدر الكبير من العقم وغياب الغاية ، فأجبته : حسنا ، هل سمعت بوعد بلفور ؟!
ثم رحت أشرح له كل شيء عن ذلك الوعد ، وكيف كتب وزير الخارجية البريطانية في نهاية 1916 ، ومعركة السوم الرهيبة الدامية تقترب من انتهائها ؛ رسالة إلى اللورد روتشيلد الذي كان يعمل لحساب الصهيونية العالمية يعده فيها بإعطاء اليهود فلسطين ؛ ذلك الوعد الذي كان الخطوة الأولى لإيجاد إسرائيل في ختام المطاف . وشرحت كيف قصد الصهاينة في البداية قيصر ألمانيا بذات الطلب ، أي أن يعطيهم فلسطين لقاء مساعدتهم له في كسب الحرب إلا أن القيصر كان ، رغم ما يواجهه ذلك الحين من إخفاقات ، رجلا شريفا حصيفا ، فرفض عرضهم بمبرر مصيب تماما ، وهو أن فلسطين تخص حليفه الامبراطورية العثمانية ، ومن ثم هي ليست له ليعطيهم إياها ، وهكذا قصدوا البريطانيين بذات العرض فقبلوه . ويفسر هذا القبولُ إرسالَهم واحدا من خيرة قادتهم العسكريين ، الجنرال اللنبي ، إلى الشرق الأوسط لتولي القيادة في مصر ، ونشرهم الواسع للقوات البريطانية في ذلك المسرح من مسارح الحرب في الوقت الذي كانت فيه الجبهة الغربية تلقي عبئا هائلا على القوى البشرية ، والضرورة فيها فائقة الشدة للجنود المقاتلين . كان القتال في الشرق الأوسط ، قبل وصول اللنبي ، مقتصرا على نجاح البريطانيين في دحر القوات التركية التي توغلت في صحراء سيناء المصرية ، وعلى الكارثة الكبرى التي حلت بحملة الجيش الهندي في العراق ، وانتهت بحصار الأتراك لها حصارا مروعا في منطقة الكوت ، وبأسر كل تلك القوة الهندية البريطانية ، وأيضا في الدعم البريطاني الواسع الصيت ، ولكن المحدود للثورة العربية بإرسال ضابط اتصال تجاوز تجاوزا خطيرا أوامر اللنبي ، وصار لورانس جزيرة العرب الأسطوري . كانت مهمة لورنس مقصورة في الأساس على نسف أجزاء من سكة حديد الحجاز ، وشن غارات على الحاميات العثمانية المعزولة ، وكان لا يزال يتعين على البريطانيين توفير ما يكفي من السلاح والذهب لتحويل الثورة العربية إلى مشكلة خطيرة للعثمانيين . ومع هذا ، فعقب صدور وعد بلفور ، ووصول اللنبي بتعزيزات كبيرة من القوات المقطورة ؛ توفر السلاح والذهب للورنس لزيادة اشتعال الثورة العربية . انظر إلى الفيلم الذي يعرض هذا ؛ فكله مصور موصَف ، ويعد تحفة فخمة في فن السينما . إنه ملحمة سينمائية خالصة . واستلزم اللنبي عامي 1917 و 1918 لشق طريقه شمالا بالقتال ابتداء من سيناء المصرية ، وعبر غزة ، ووادي الأردن ، وتلال " يهودا " ، والسهل الساحلي الخصيب للاستيلاء أولا على القدس ، وإنهاء الحرب في دمشق . وهكذا غزيت فلسطين لصالح الصهاينة ، ولبدء مشروع إقامة إسرائيل . وكونت القوات الأسترالية عصب الجيش الغازي ، ويستحق فيلم " الفرسان السريعون " المشاهدة لإدراك طبيعة هذا الغزو ، ولأنه فيلم فائق الروعة ، ويوفر متعة المشاهدة السينمائية . هذا ما فعله البريطانيون لتنفيذ بيان بلفور ، فماذا فعلت الصهيونية لتنفيذ الشق الخاص بها من الصفقة وضمان فوز بريطانيا في الحرب ؟! كانت خطتها مزدوجة ، أولا : قامت بقطع إمدادات المواد الأساسية عن ألمانيا بما في ذلك تمويل هذه المواد ، ثانيا : جرت الولايات المتحدة للاشتراك في الحرب ، وبهذا وفرت لها عدة ملايين من الجنود الأميركيين القادمين من الغرب الأوسط الأميركي والجيدي التغذية بخبزالقمح ؛ للانضمام للحلفاء في فرنسا ، والتغلب على الألمان بكثرة العدد الصرفة . ولابد أن الذين لهم اهتمام بالأمر رفعوا حواجبهم تعجبا من قولي إن إمدادات ألمانيا قطعت ، والسبب بسيط وواضح ، وهو أن قلة قليلة تعلم أن ألمانيا إنما كانت قادرة على مواصلة القتال طالما كانت تحصل على تلك الإمدادات ، وأنها لم تكن قادرة داخليا على إنتاج ما تحتاجه لإلباس وإطعام وتسليح جنودها ، فالجنود الألمان كانوا يعيشون على اللحوم المستوردة ، وكانت الملابس التي تكسو ظهورهم مستوردة ، ومتفجراتهم كانت تصنع من مواد كيماوية مستوردة . كيف كانت تلك المستوردات تصل إلى ألمانيا ؟! على كل حال ، يعلم الجميع أن الأسطول الملكي البريطاني حاصر ألمانيا ، ونجح في منع وصول كل أنواع البضائع إلى الموانىء الألمانية مثل هامبورج وكيل ، وجواب السؤال بسيط واضح : كانت تلك المستوردات تحمل على سفن محايدة ، وسفن ترفع العلم البريطاني ؛ إلى موانىء الدول المحايدة مثل هولندا والدنمارك والسويد ، ومنها تنقل إلى ألمانيا ، وبهذا تبقي على دوران آلتها الحربية .
ولولا هذه التجارة الخفية لأشبهت الحرب العالمية الأولى سائر الحروب الأوروبية التي سَلَفتها :
يتقاتل الطرفان شهورا ، ثم ينهكان ويفلسان ، ويذهبان إلى مائدة مفاوضات سلام ، ويوقعان معاهدة من المألوف أن تؤدي إلى التوسع في مقاطعة أو اثنتين مثلما فعل الفرنسيون في 1870 حين سلموا الإلزاس واللورين إلى ألمانيا بعد هزيمتهم في الحرب الفرنسية _ الروسية ، ولهذا ، وبفضل الإمداد الخفي لألمانيا بالمواد من الباب الخلفي المحايد تطاولت الحرب إلى خمس سنوات تقريبا حَفْلى بالدماء . وهذا يردنا إلى عنوان المقال ( العنوان الأصلي هو : " كان هتلر محقا : ألمانيا طعنت في الظهر" ) ، وما فيه من إشارة إلى زعم هتلر السيء الصيت ( أي الزعم ) بأن ألمانيا خسرت الحرب العالمية الأولى لطعن الصهاينة لها في الظهر . ومن المسلم به أن التاريخ المتشدد يصر على أن هذا كذبة كبرى ، ولكن دعوني اجزم لكم بأنه حقيقة خالصة ، وسأبين كيف كانت الطعنة .
سلف مني بيان أن اليهود الصهاينة قاموا بعملين مزدوجين ضد ألمانيا في آخر 1916 ردا منهم لجميل البريطانيين الذين أصدروا بيان بلفور . العمل الأول : جرهم الولايات المتحدة إلى الحرب ، والثاني : قطع إمدادات ألمانيا ، ومثلما بينت ، كانت ألمانيا تتزود بالمواد من خلال موانىء دول محايدة ، ولكم ألا تقبلوا بياني ، وفي وسعكم عِوضَه قراءة كل ما يتعلق بهذه التجارة في تفصيل موسع ، بما في ذلك الأرقام الحقيقية للمواد التي شحنت إلى ألمانيا ؛ في كتاب " انتصار القوات غير المسلحة 1914 _ 1918" للعميد البحري م . و . و . ب . كونست ، سي . م . يو . لندن : ويليام ومرجيت . ففي هذا الكتاب الصغير يكشف العميد البحري مونتاجو ويليام ووركب بيتر ونست كيف كانت الحرب العالمية الأولى خدعة وتلفيقا كاملين ، وأنها طُوِلت قصدا من خلال التجارة الخفية، ويقدم كل الأرقام لبرهنة ما يقول ، والمدهش أن هذا الكتاب الفائق الخطورة يعاد طبعه الآن ، ومتاح على موقع أمازون . ويبين كونست أن هذه التجارة الضخمة تواصلت في السنتين الأوليين ونصف السنة من الحرب ، وتوقفت فجأة تقريبا آخر 1916 ، أي عقب صدور بيان بلفور مباشرة ، ولهذا يحوي الكتاب الصغير البرهان على أن طعن ألمانيا في الظهر كان حقيقيا تماما . ففجأة نفدت كل أنواع المواد لدى الألمان ، وصارت جبهتهم الداخلية مسرح مجاعة ، وصار شتاء 1917 _ 1918 يسمى غذائيا في ألمانيا " شتاء اللفت " ؛ لأنه لم يبقَ للألمان ما يقتاتونه سوى اللفت ، ذلك النبات الذي ما كان يؤكل في ألمانيا قبل الحرب لنظرة الألمان إليه بأنه لا يصلح إلا علفا للماشية . وحتى في خطوط الجبهة نفدت المواد الأساسية نفادا مشهودا ، ومنها قماش الضمادات الذي استبدل به نسيج ورقي لا فاعلية له ، واستبدل بمواد غذائية مثل البن بدائل مصنعة من نبات الهندباء وجوز البلوط ، وندر اللحم ، وتعين على الجنود شد الأحزمة على البطون ، وصار الجيش الألماني في آخر الحرب مؤلفا من جنود سيئي التغذية ؛ فهم جلد على عظم .
ومن الأسباب القليلة الذيوع لفشل هجوم الربيع الألماني العظيم في 1918 مجاعة الألمان البطيئة ، ولكن المتواصلة . فحين اخترقت قوات العاصفة الألمانية خطوط الحلفاء وساحت في مناطقها الخلفية وجدت تلك القوات كميات ضخمة من الأغذية والتموين مكدسة في كل مكان بوفرة لا تصدق . كان هناك كل أنواع الأشياء التي لم يرها الألمان في بلادهم منذ سنين : دخان حقيقي ، وأشربة من الجن والرم المسكرين مستوردة من بلاد بعيدة ، وويسكي سكتلاندي ، وخمر فرنسية ، وكميات كبيرة جدا من الكعك ، وبسكويت ، ومربى ، وشوكولاتة ، وجبنة ، ولحم من كل صنف . كان شيئا يصعب على الألمان الجوعى مقاومة إغرائه ، وببساطة طرح كثيرون منهم أسلحتهم جانبا ، واستلوا سكاكينهم وشوكهم ، وراحوا يلتهمون ويعبون نهمين من تلك الأطعمة والأشربة متجاهلين توسلات ضباطهم بمواصلة الهجوم حتى أكلوا وشربوا كفايتهم . وكسر هذا زخم عنف الهجوم الألماني ، ومنح الحلفاء وقتا ذهبيا لحشد دفاع فعال في عمق خطوط جبهتهم .
وكان هتلر في خنادق الجبهة ، وعاش كل ذلك ، وعرف أولا مبلغ الألم وهو يرى قوة الجيش الألماني تنضب في بطء بازدياد هزال جنوده ، وتفشي الأمراض بينهم ، وتناقص ذخيرتهم . كان في الجبهة يشهد الانهيار المرعب للجيش الألماني في الشهور الأخيرة من الحرب في وجه هجوم الحلفاء المتواصل ، وعرف بالتجربة الشخصية المرة أن هذا الجيش ما كان قادرا على فعل أكثر مما فعل ، أو قادرا على التضحية بدماء أكثر مما ضحى دفاعا عن قضيته ، ومن ثم أدرك أن سبب انهياره أنه قُوِض ، وأن يدا خفية استنزفت قوته ، وشعر الجيش الألماني نفسه أنه لم ينهزم في الجبهة ، وإنما طعن في ظهره . وكان محقا في هذا ؛ فقد طعن في ظهره ، وكان هتلر محقا أيضا حين شخص اليهود بأنهم من دبر الخنجر الذي طعنه . وإليكم ملخصا لكتاب كونست : العميد البحري كونست أول كاتب عالج معالجة كاملة قائمة على الإحصاء الطريقة التي حصلت بها ألمانيا في الحرب على تلك الإمدادات التي كان الاستخدام التام لقوتنا البحرية كفيلا بمنعها من الوصول إليها . وهذا موضوع كبير الأهمية ، وإن كان في مقدورنا إضافة موضوع آخر إليه شديد التعقيد . ونحن ممتنون للعميد البحري كونست لتصنيفه هذا الكتاب الذي لا غنى عنه البتة في المناقشات المستقبلية للموضوع لما فيه من أدلة موثقة . وذلك أنه ما من أحد في وضع خير من وضع العميد كونست لتتبع الإمدادات التي وصلت إلى ألمانيا عبر اسكندنافيا وهولندا في السنتين الأوليين ونصف السنة من الحرب لعمله ملحقا بحريا في اسكندنافيا بين عامي 1912_ 1919 . والملهاة الساخرة والمأساة الفاجعة هنا أن جانبا كبيرا من تلك الإمدادات قدم من بريطانيا العظمى ذاتها . والحقيقة أننا اجتهدنا في إمداد عدونا وتغذيته . ويرى كونست أن ألمانيا كان من الممكن أن تنهار قبل عامين من انهيارها المعروف لولا مساعدة تلك الإمدادات التي لم تحلم بأن نقدمها لها أو نسمح بوصولها إليها . والذي يرون هذه المسألة ببساطة من زاوية فشلنا في تطبيق القوة التي امتلكناها سيرون بداهة أن الحكومة البريطانية اقترفت جريمة إلا أن المسألة في الواقع ليست بهذه البساطة ، فقلة من الناس في حاجة إلى التذكير بالطريقة التي عظمت بها أميركا دور الدول المحايدة في بداية الحرب . وجاءت أوقات بدا فيها أن المستقبل القبيح الذي قد يتعين علينا مجابهته هو أن أميركا قد تكون خصمنا عِوض أن تكون صديقنا القوي إذا فُرِضت قيود إضافية على تجارة الدول المحايدة ولو قليلة . * كان ممكنا أن توقف تزويدنا بالذخيرة ، ولم يكن العميد كونست بغافل عن هذه المشكلة ؛ فقد تناولها ، وإن كنا نرى أنه لم يولِها حقها من الاهتمام . وهو يعترف بأن اسكندينافيا كانت تعتمد على إمداداتها من وراء البحار ، فهل كان في وسعنا التخلي عنها وعن هولندا من بداية الحرب على قاعدة أن ما تبتاعانه منا سيذهب إلى ألمانيا لا مناص ، ونسأل : هل كان في وسعنا أن نغفل هذا دون أن نحول تعاطف العالم المحايد الذي استأهلناه بالتأكيد والذي تمتعنا به إلى أقصى درجة بحاله التي كان عليها ؟! ويقول العميد ونست إن اسكندينافيا توقعت دائما أن تعاني في حالة نشوب حرب أوروبية تشترك فيها بريطانيا العظمى ، وإنها اندهشت حين طالبناها أن تقلل كثيرا من معاناتها . وبرهانه في هذه النقطة أقل إقناعا لنا من برهانه عن الإمدادات التي لا ريب في أنها وصلت إلى ألمانيا . إن المناخ السياسي الذي يخلقه المحتربون لأنفسهم في الحرب ذو معنى أخلاقي لهم أكبر مما يظن بعض الناس . وثمة نقطة تستحق التنويه هي أن اسكندينافيا استوردت بالضرورة بصورة مباشرة مواد كثيرة قبل إيصاد موانىء كبيرة مجاورة مثل ميناء هامبورج . ورأينا أننا ملزمون ببيان هذه التحفظات قبل أن نأتي إلى الحقائق التي وردت في كتاب كونست ، ونحن بعد أن بيناها صرنا أحرارا في تلخيص ما يقول ، وفي توكيد أهميته .
وحقائقه مذهلة حقا ، فاسكندينافيا وهولندا وعدتا بأن البضائع التي تستوردانها منا ستعتمل في البلد المستورد لها ، ولن تنقل إلى ألمانيا .
ويقول العميد كونست إن وعودهما كانت بلا قيمة ، ويبين بجلاء تام ما نقر بأننا لم نقيمه تقييما حقيقيا من قبل ، وهو أن جانبا كبيرا من الحنق الأميركي علينا في أول الحرب أساسه حقيقة أن بريطانيا العظمى ، ولنقلها صريحة ، كانت تنافس أميركا في إرسال البضائع إلى دول أوروبا المحايدة . واشتكت أميركا من أن بريطانيا مع كونها منافسا فرضت على منافستها أميركا ضوابط وقواعد لا موجب لها ، وانتهت الحال إلى أن منافسا كان يعيق منافسا . وأحاط الغموض والتعتيم بذلك الموقف الغريب في ذلك الزمان بتأثير التناقضات في بيانات الحكومة البريطانية ، وهكذا أعلن اللورد روبرت سيسيل في 26 يناير 1916 في البرلمان البريطاني أنه " لا تمر بضائع كثيرة من الدول المحايدة " إلى ألمانيا . ومع ذلك ، وفي رسالة في نفس الوقت إلى أميركا ردا على إحدى شكاواها قالت الحكومة البريطانية : " المعلوم الشائع أن كميات كبيرة من الإمدادات ذهبت إلى أعدائنا عبر الموانىء المحايدة " ، واستطردت الرسالة تقول إن الموانىء كانت في الواقع " الطرق الأساسية التي وصلت الإمدادات عبرها إلى العدو " ، وكان طبيعيا أن ترد أميركا غاضبة " وماذا عن الإمدادات التي ترسلونها أنت بأنفسكم ؟! " . ومع ذلك في وسعنا أن نجزم بأن سلوك بريطانيا الذي كان ضارا بها في نواحٍ كثيرة إنما قام إجمالا على مراعاة التزامات كثيرة قدمتها أو تعهدت بها ضمنا ، وكذلك على مراعاة قوانين الرسوم الجمركية وقت الحرب ، وهنا تصرفت بريطانيا كأن معاهدة لندن التي لم تكن صُدِقت نظرا للتدخل الحصيف من مجلس اللوردات ؛ قد اكتسبت كامل صلاحيتها ، وهذا مثلما يعرف الجميع قلل بصورة خطيرة من قدرتنا لجعل الحرب من ناحيتنا فعالة ضد ألمانيا .
ويبين العميد كونست أن الزيادة على صادراتنا العادية إلى اسكندينافيا غالبا ما وصلت إلى 200 % و 300 % ، وأحيانا إلى 1000 % ، وبذلك صارت ألمانيا قادرة على اجتثاث مد المجاعة واجتيازها في عامي 1916 و 1917 . ويقول إنه في الشهور السبعة الأولى من 1916 كان " تصدير اللحم وحده في هذه المدة ، والبالغ 62561 طنا يكفي لإعداد قرابة مليون وجبة غذائية يوميا في سبعة شهور بمعدل التغذية الحالي للجيش الألماني ". ولا نستطيع هنا إعطاء أمثلة كثيرة على أرقام العميد كونست إلا أننا يجب أن نورد قليلا منها على سبيل التمثيل النموذجي . فخلال الشهور الأربعة الأولى من 1915 كانت الزيادة في صادرات الكاكاو من بريطانيا العظمى إلى اسكندينافيا وهولندا وإيطاليا تضاعفت تقريبا عشر مرات مقارنة بنفس المدة في 1913 . والواضح أن الفحم أرسل إلى اسكندينافيا دون قيود ، ونقل بحرية إلى ألمانيا . وصدرت الدنمارك الخيول والمواشي والطعام إلى ألمانيا بينما كنا نحن نزودها بالعلف والمخصبات للحصول على نتاج تلك الخيول والمواشي . وزودناها كذلك بآلات صيد السمك . وتلزم الإشارة أنه نتيجة لتصرفنا ، أو نتيجة جزئية له على كل حال ، أرسلت الدنمارك والسويد إلى ألمانيا 46 ضعفا زيادة على ما أرسلتاه إلى بريطانيا من السمك . وزادت بريطانيا العظمى إلى أكثر من الضعف كمية البذور والدهن الحيواني ودهن الخنزير وزيت السمك والزيوت الحيوانية والشحوم التي أرسلتها إلى اسكندينافيا ، وذهبت هذه إلى ألمانيا لتصنيع الجليسرين الذي يستعمل في صناعة المتفجرات الشديدة .
وفي 1913 أرسلت بريطانيا العظمى إلى الدنمارك 150 طنا من زيوت التشحيم ، وفي 1915 أرسلت 500 طن ، فما السبب ؟! وتضاعف تصدير النحاس إلى السويد ، وفي نفس السنة تضاعف تصدير النحاس من السويد إلى ألمانيا ثلاثة أضعاف . وفي الأسابيع الستة الأولى من 1916 سمحنا بتصدير 20 ألف طن من حديد الزنك إلى روتردام في هولندا ، ثم انتقلت هذه إلى لييج في بلجيكا . وفي 1915 أرسلنا إلى السويد من النيكل ما يساوي اثني عشر ضعفا من النيكل الذي أرسلناه إليها في 1913 ، ولم نعلن القطن سلعة محظورة التصدير إلا في أغسطس 1915 ، وكنا في 1913 أرسلنا 1940 طنا منه إلى السويد ، وفي 1915 أرسلنا إليها 10300 طن ، وارتفع في نفس المدة إرسالنا منه إلى النرويج والدنمارك . كما زادت صادراتنا من الكتان والجوت والفوسفات والبيريت وسلفات الأمونيا والمطاط وغيرها من السلع زيادة عظيمة . ويقول العميد كونست إن الإسمنت هو السلعة الوحيدة التي كانت موضوع نقاش حين أثيرت المسألة العامة لتجارتنا في الحرب . والاهتمام بموقف الدول المحايدة ، على وجوبه في رأينا سياسيا وأخلاقيا ، ليس عذرا لهذه الزيادات الهائلة في تصدير المواد أكثر من المعتاد . وفي وسعنا التقدير أن الشيء الواضح الذي كان يجب عمله هو تزويد اسكندينافيا بالمواد الغذائية ، وجعل صادراتنا إليها في العام السابق على الحرب الرقم الأقصى المأذون به . وقد أخذ بنصيحة كونست بعد عامين ونصف من الحرب ، وتصرفنا وفق مبدأ تقنين تصدير المواد الغذائية ، ولكن لماذا لم يحدث التقنين قبل ذلك ؟! علما بأنه كان المتوقع أن ترحب أميركا بأي قيود نفرضها على أنفسنا بدلا من معارضتها لها .
*إيان جرينهالج . موقع ( في .تي ) الأميركي .
وسوم: العدد 801