الحياةُ وقفةُ عزٍ والمقاومةُ شرفٌ وكرامةٌ
أذكرُ قديماً في سنواتِ الاحتلالِ المباشر للضفة الغربية وقطاع غزة، أن مناطقنا كانت محرمة على جيش العدو، وأنه ما كان يستطيع الدخول بسهولةٍ إلى مخيماتنا وقرانا، ولا إلى مدننا وبلداتنا، بل كان جنوده يخشون التجوال في مناطقنا، ويجبنون عن الدخول فيها أو المرور منها، وهم في دورياتهم الراجلة والمحمولة، رغم أنهم يكونون مدججين بالسلاح، ويحملون إلى جانب بنادقهم الحديثة، خزناتٍ كثيرة مليئة بالطلقات، وقنابل عادية وأخرى دخانية، ويقود الدوريات ضباطٌ مدربون، يحملون خرائط تفصيلية وأجهزة لاسلكي حديثة، ويبقون على ارتباطٍ دائمٍ بوحداتهم، يتلقون منهم التعليمات، ويزودونهم بالمعلومات، وتواكبهم أحياناً سياراتٌ عسكرية مصفحة، تستطلع الطريق لهم، وتزيل من أمامهم المتاريس والحواجز، وتتصدى للمفاجئات ومحاولات الهجوم والاشتباك.
رغم هذه الاستعدادات الكبيرة والاحتياطات الكثيرة، والأسلحة والعتاد وأعداد الجنود الكثيرة، والعربات المصفحة وناقلات الجند والجرافات، والعيون والعملاء والصور والكاميرات والخرائط التفصيلية، والشوارع العريضة المكشوفة، إلا أن العدو كان يخشى مناطقنا، ولا يقوى على اجتياح بلداتنا ومخيماتنا، وكان قادة جيشه وكبار ضباطه يحسبون ألف حسابٍ قبل الإقدام على هذه الخطوة، لعلمهم التام بأنها مغامرة ومجازفة، وأنها قد تعرض حياة جنودهم للخطر، ولهم على ذلك سوابق وعندهم شواهد، فقد قتل لهم عشرات الجنود خلال المداهمات والاجتياحات، وأثناء الملاحقة وخلال عمليات الاعتقال.
أما الليل فقد كان عدوهم الأكبر وهاجسهم المخيف، فما إن تظلم الدنيا ويرخي الليل سدوله المعتمة، حتى يرحل الاحتلال ويختبئ، ويخاف ويجبن، ويلجأ إلى مراكزه المحمية وثكناته المحصنة، وما كان جنوده يستطيعون الدخول إلى مناطقنا، أو يفكرون باجتياح مخيماتنا، وقد كانت غزة تعرف قديماً بأنها محررة ليلاً، حيث كان جيش العدو ينشط فيها نهاراً، ويتبختر فيها مستعرضاً قوته وسلاحه في فترات النهار، بينما كان يلوذ بالفرار ويختبئ من رجال المقاومة ليلاً، الذين كانوا يوجعونه ضرباً، وينالون منه قتلاً، ويحرمون عليه الدخول إلى المناطق بالقوة والسلاح، وقد كان المقاومون الجدد والفدائيون القدامى يشعرون بالقوة والمنعة، وبالشرف والكرامة، ويرفعون رؤوسهم عزةً وشموخاً، ولا يطأطئون الرأس للعدو ولو كان مسلحاً وقادراً، ولا يسمحون له بالنيل منهم ولو كان أقوى منهم عدةً وأكثر عدداً.
بحزنٍ وأسى أتذكر هذه الأيام الخوالي، التي كنا فيها أعزةً رغم قلة السلاح، وكنا فيها أحراراً رغم سيطرة الاحتلال، وحصار السكان وفرض أنظمة حظر التجوال، إذ كنا نمنع العدو من اجتياح مناطقنا، ونحول بينه وبين اعتقال شبابنا، ونكبده خسائر كبيرة إن غامر، ونذيقه المر إن جازف، وكان أهلنا يتكاثفون معاً، ويلتفون حول بعضهم البعض، يحمون أنفسهم، ويحولون دون اعتداء جنود الاحتلال عليهم، وكانت النساء تتحلق حول الشبان، وتصنع من أجسادها حولهم جدراناً حصينة، تحول دون اعتقالهم، وتمنع أي اعتداءٍ عليهم، وقد سقط العديد من النساء شهيداتٍ وهن يدافعن عن الشباب، أو يحاولن صد جنود الاحتلال.
اليوم بتنا نملك سلاحاً وعتاداً، ولدينا سلطةً وحكومة، ونعزف موسيقى الشرف ونمشي على السجادة الحمراء، وعندنا سجونٌ ومعتقلاتٌ، ونصدر أحكاماً ونفرض غراماتٍ، ولدينا وزاراتٌ ومقراتٌ، وسياراتٌ رسميةٌ فخمةٌ وبطاقاتُ مهمةٍ للشخصيات، ونستقبل الوفود والزوار، وغير ذلك مما لم يكن عندنا، يوم كنا نصد الاحتلال ونمنعه بحجارتنا وأيدينا، ونواجهه بقبضاتنا الصلبة وصدورنا العارية.
لكننا اليوم ما بالنا أصبحنا أضعف قوةً وأسوأ حالاً، وأقل حيلةً وأعجز مواجهةً، وباتت مناطقنا مستباحة، يجتاحها ويعتقل منها أبناءنا، وغدت مقراتنا للعدو مفتوحة، يدخلها عنوةً متى يشاء، يصادر منها ما يريد، ويتلف ويخرب ما لا يرى له منه نفعاً، وعيوننا تراقبه، وأجهزتنا الأمنية ترصده، وطواقمنا الإعلامية تصوره.
ما يحدث هذه الأيام في مدن وبلدات ومخيمات القدس والضفة الغربية شيءٌ محزنٌ ومبكي، لا نكاد نصدقه وما كنا يوماً نتوقعه، ونحن بالتأكيد نرفضه ولا نقبله، ولا نوافق عليه ولا نرضى به، وهو ينافي قيمنا ويتعارض مع شيمنا، إذ ما تربينا على الخنوع، ولا نشأنا على الخضوع، ولا تعودنا على تجرع الإهانات والقبول بالإساءات.
ما يحدث في الضفة الغربية على أيدي سلطات الاحتلال ممارساتٌ تبعث على الذل وتؤدي إلى الهوان، وتزرع فينا الخسة وتؤسس في نفوسنا النذالة، فالعدو بجيشه ومخابراته يجتاح مناطقنا، ويجوس خلال ديارنا، ويهتك أعراضنا، ويفضح أسرارنا، ويعتقل خيرة أبنائنا، ويلاحق ويقتل رجالنا وأبطالنا، دون أن نصده أو نمنعه، أو نقاومه ونعيق حملاته الأمنية والعسكرية، وقد كان حرياً بنا أن نؤذيه إذا أغار علينا، ونبطش به إذا اعتدى علينا، ونصده إن حاول المساس بنا أو اعتقال أحدٍ منا.
لا أظلم شعبنا في الضفة الغربية ومدينة القدس، فهم أحرارٌ أشرافٌ، نسل مقاومين وأبناء مجاهدين، أثبتوا أنهم رجالٌ وأبطالٌ، ومقاومون ومقاتلون، يصدون العدو ويفشلون خططه ويحبطون مؤامراته، ولا يضعفون أمامه ولا يجبنون عن مواجهته، فقد أجبروا العدو على فتح بوابات المسجد الأقصى، وأكرهوه على إزالة البوابات الإليكترونية، وهم يصدون كل يومٍ محاولات اقتحام الحرم القدسي ويمنعون المستوطنين من العبث فيه، وهم صناع ثورة السكاكين وأبطال عمليات الدهس والقنص، وفي كل يومٍ يبتدعون في مواجهته سبلاً جديدة تحيره وتربكه، ويزيد في خوفه وقلقه نجاح المقاومين في الفرار، وتمكنهم من الاختباء والتواري عن الأنظار، فلا يقوى على اعتقالهم، ولا يستطيع منعهم من مواصلة المقاومة واستمرار الهجوم والمباغتة.
المشكلة ليست في الشعب الثائر، ولا في الأهل المقاومين، فهم الصامدون في القدس، والثائرون في جبل النار، والمقاتلون في جنين، والمغاوير في الخليل، والقناصون في رام الله، والمتسللون إلى المستوطنات في بيت لحم، وهم الشبان الذين يحملون السكاكين والمدى، والرجال الذين يقتحمون الجنود والتجمعات الإسرائيلية بالسيارات والشاحنات، والجرافات والعربات، إنهم إخوان غزة الحرة وأهل المقاومة الأبية.
المشكلة هي في السلطة التي قبلت بالهوان ووافقت على التبعية والارتهان، وارتضت أن تكون مطيةً وأداةً، تنسق أمنياً، وتساعد ميدانياً، وتغض الطرف عن الاعتداء، وتمهد للعدوان والاجتياح، وتقدم المعلومات وتسهل الاقتحام وتضمن الاعتقال، فيرتكب العدو كل جرائمه بحقنا والسلطة ترى وتشاهد، وتراقب وتتابع، لكنها لا تعارض ولا تحرك ساكناً.
المشكلة في السلطة التي ترفض استخدام السلاح، وتحارب وتعتقل من يستخدمه، وتتهم كل من يدعو إليه ويحرض عليه بالخيانة، فتعتقله وتعذبه، وتسيء إليه وتحاكمه، بينما كان بمقدورها أن تهب وتثور، وأن ترفض وتستنكر، وأن تقاوم وتقاتل، وأن تؤوب إلى شعبها وتركن إلى أهلها، فتصنع معهم العزة، وتصون وإياهم الكرامة، وتجبر العدو على الخيبة والتراجع، ولكنها آثرت غير ذلك فذلت وأذلت شعبها، وضعفت وأضعفت شعبها، وما علمت أن كرامتها في وقفة عزٍ، وأن شرفها في المقاومة والقتال، وأن موتاً بعزٍ أشرف ألف مرةٍ من حياةٍ بذلٍ وخنوعٍ.
وسوم: العدد 802