سورية بين نظام سادي وثورة شعب (مراكز القوى في حزب البعث القيادة القومية) 18

الحلقة الثامنة عشر

الواقع أن الاتجاه البعثي الذي يوصف بـ(الاتجاه القومي).. أي الاتجاه الذي تقوده القيادة القومية للحزب، كان في حقيقة الأمر يسعى إلى إيجاد جو من التفاهم مع القاهرة.. ويميل أيضاً إلى تحقيق شكل من الوحدة الاتحادية بين مصر وسورية والعراق.. على أن تضمن هذه الوحدة الاستقلال السياسي لكل قطر من الأقطار الثلاثة، وكذلك حرية تشكيل الأحزاب السياسية. وهذا الاتجاه يتمثل عملياً بالأمين العام للحزب ميشيل عفلق وبرئيس الوزراء صلاح الدين البيطار.

بالرغم من اعتدال هذا الاتجاه وصدقه في نواياه الوحدوية.. إلا أن القاهرة كانت تتهم القيادة القومية بالطريقة التي تقدم بها الوزراء البعثيون استقالاتهم من الحكومة سنة 1959م، والتي اعتبرها عبد الناصر من مقدمات الانفصال، بل ذهب إلى أبعد من ذلك باتهامهم بمسؤوليتهم عن حدوث الانفصال. ومن جهة ثانية استياء عبد الناصر من موقف القيادة القومية اللامبالي عند حدوث حركة الانفصال وتوقيع صلاح الدين البيطار على بيان السياسيين السوريين الانفصالي، أضف إلى ذلك الأحداث الأخيرة التي وقعت بين الناصريين والبعثيين، وتصفية البعثيين لكل الناصريين.

هنا وجدت القيادة القومية أنها جرَّت نفسها إلى مواقع الاتهام سواء من الناصريين الذين يتهمونهم بالخيانة، أم من بعض قواعد الحزب والضباط البعثيين الذين يتهمونهم بأنهم باعوا الحزب لعبد الناصر. يقول منيف الرزاز: (إن تهمة الناصرية توجه للبعثيين الوحدويين للتخلص منهم وإبعادهم)(1) _ الاتهام كان من قبل القطريين _ ويضيف الرزاز قائلاً: (ويبدو أن خطيئة صلاح الدين البيطار في توقيع وثيقة الانفصال، وفي سعيه حتى يقبل الحزب الاشتراك في وزارة الدكتور بشير العظمة أيام الانفصال، قد جرحته أمام الحزبيين الوحدويين جرحاً لم يسهل عليهم نسيانه، بالرغم من أنه قاد بعد ذلك الحملة الوحدوية في الحزب، وكان له كبير الأثر في الضغط من أجل البدء في مباحثات الوحدة الثلاثية بعد الثورة. ولكن هذه الجمل الوحدوية قد أساءت إليه عند الحزبيين القطريين والعسكريين والحاقدين على عبد الناصر، ففقد بذلك عطف الطرفين معاً)(2).

ويتضح لنا من كل هذا أن علاقة القيادة القومية بحكم البعث السوري، وتحديدا بالعسكريين، بقيت عائمة وغير واضحة. فضعف القيادة القومية وعدم جدارتها منعاها من أن تقيم تنظيماً قوياً وأن تفرض سلطتها على الضباط البعثيين، وبالتالي من أن تمسك بيدها زمام الحكم، كذلك لم تستفد القيادة القومية من الدعم غير المحدود الذي منحتها إياه القيادة البعثية في العراق. مما دفع العديد من كادرات الحزب وأكثرية أعضائه تستنكر أبوتها، وترفض وصايتها.

ويقول منيف الرزاز حول هذا الموضوع: (فقد كان من عادة القيادة القومية أن تترك الأمور تسير، ثم تشكو من أنها سارت في طريق خاطئ. وتحاول أن تبادر إلى الإصلاح حين يكون وقت الإصلاح قد فات، تركت للجنة فرعية منها زمن الانفصال، أن تعيد تنظيم الحزب. ثم شكت من أن اللجنة قد أساءت استعمال صلاحياتها.. أشركت العسكريين في قيادة الحزب دون أن تعطي نفسها حق الإشراف على الحزب في الجيش، ثم شكت من أن العسكريين قد استولوا على الحزب. ولكن أكبر خطيئة ارتكبتها قيادة الحزب في هذه المرحلة، انقطاعها التام عن قواعد الحزب.. فلا اتصال ولا اجتماعات ولا نشرات. حتى جريدة الحزب لم يكتب فيها أحد من قيادة الحزب.. وتركوها جريدة لا تمثل رأي الحزب في شيء)(3).

وفي تقرير حزبي، وصف أمين المكتب التنظيمي العسكري لحزب البعث الحالة التي وصل إليها الحزب فقال: (لقد وصل التنظيم إلى حالة من التشويه، لم يعد من الممكن تحملها من قبل الرفاق، وحل الولاء الشخصي والتكتلي محل الولاء الحزبي)(4).

القيادة القطرية

بعد نجاح انقلاب 8 آذار بوقت قليل، جرت الانتخابات الحزبية في سورية، وانتخب على أثرها قيادة قطرية للحزب، مرتبطة رسمياً بالقيادة القومية، وكانت تتألف من خمسة أعضاء مدنيين: (حمودي الشوفي - أمين سر القيادة القطرية - ومحمود نوفل وخالد الحكيم ومحمد بصل ونور الدين الأتاسي، إضافة إلى أربعة أعضاء عسكريين: حافظ الأسد ومحمد رباح الطويل وحمد عبيد وأحمد أبو صالح)(5). وهذه القيادة ممثلة في المجلس الوطني لقيادة الثورة بشخص واحد هو أمين سر قيادة القطر حمودي الشوفي. وهذه هي المرة الأولى التي يحتل فيها الضباط البعثيون مراكز قيادية في الحزب.

ومع وقوع القطيعة بين حكم البعث في دمشق ونظام عبد الناصر، عادت ودخلت إلى الحزب أعداد كبيرة من أعضاء وكادرات التيار البعثي السابق لرياض المالكي أو حتى لأكرم الحوراني. ويوصف هؤلاء بالقطريين ويحملون لواء خط متطرف ومعاد لعبد الناصر.

لقد تبنى بعض أعضاء القيادة القطرية الجديدة، وفي مقدمتهم حمودي الشوفي اتجاهاً سياسياً يسارياً أو متطرفاً. واخذوا يظهرون معارضتهم لبعض القادة البعثيين وفي مقدمتهم عفلق والبيطار.. ويرفضون سلطتهم الأبوية عليهم. كما أقاموا علاقات وثيقة الصلة بالتيار البعثي اليساري في العراق، الذي يقوده علي صالح السعدي. ومن جهة ثانية، أخذوا يتقربون في نفس الوقت من بعض أعضاء اللجنة العسكرية الذين عرفوا بمواقفهم السياسية المتطرفة(6).

1-ص(100)منيف الرزاز-التجربة المرة.

2-ص(109-110)نفس المصدر.

3-ص(345/1)دندشلي-المصدر السابق.

4-حزب البعث العربي الاشتراكي، القطر السوري، المكتب العسكري، مشروع تقرير عن واقع

الحزب في التنظيم العسكري، 19/10/1965م

5-ص(112-113)منيف الرزاز-المصدر السابق.

6-ص(345-346/1) دندشلي-المصدر السابق.

وسوم: العدد 807