العادات السبع للدكتاتور
ثمّة خصائص يتّسم بها القادة الدكتاتوريّون عبر التاريخ، وقد تتوافر كلّها أو بعضها في سلوك الدكتاتور حسب النظام الذي يمارس سلطته في ظلّه، وحسب السياقات المكانيّة والزمانيّة. إجمالاً، هذه أبرز العلامات التي يُعرف بها الدكتاتور:
1. *الحكم الفردي*:
"السلطة المطلقة مفسدة مطلقة"، كما قال السياسي البريطاني لورد آكتن في القرن التاسع عشر، ويصف المفكّر السوري، عبد الرحمن الكواكبي، هذا النوع من الحكم بأنه التصرّف "في شؤون الرعية... بلا خشية حساب، ولا عقاب محققين"، فالدكتاتور "يتحكّم في شؤون الناس بإرادته لا بإرادتهم، ويحكمهم بهواه لا بشريعتهم، ويعلم من نفسه أنّه الغاصب المتعدّي، فيضع كعب رجله على أفواه الملايين"، وهو يفعل ذلك لأنّه "يودّ أن تكون رعيته كالغنم درّاً وطاعة، وكالكلاب تذلّلاً وتملّقاً"، ولهذا، كان الاستبداد، حسب الكواكبي، "أعظم بلاء؛ لأنّه وباءٌ دائمٌ بالفتن، وجَدْبٌ مستمرٌّ بتعطيل الأعمال، وحريقٌ متواصلٌ بالسلب والغصب، وسيلٌ جارف للعمران، وخوفٌ يُقطّع القلوب، وظلامٌ يُعمي الأبصار، وألمٌ لا يفتر، وصائلٌ لا يرحم، وقصّة سوء لا تنتهي".
2. *استغلال الدّين*:
يريد الدكتاتور أن يظهر تقيّاً يخاف الله، ويؤدّي الصلاة، ويرفع يديه إلى السماء داعياً بخشوع، وقد تذرف عيناه، ويحجّ ويعتمر، وينظر في المصحف، ويحضر مجالس العلم، ولا بدّ أن تُلتقط له الصّور وهو يتحدث إلى فقهاء، أو يوزّع جوائز على حفظة القرآن، وربّما استشهد بنصوص شرعيّة أو أحداث تاريخيّة لتبرير سياسات أو برامج أو مواقف.
صدّام حسين خاض حرباً ضروساً ضد إيران في الثمانينيات وسمّاها "قادسيّة صدّام" مستدعياً بذلك معركة "القادسيّة" التي قادها الصحابيّ سعد بن أبي وقّاص في صدر الإسلام؛ أنور السادات استشهد بآية "وإن جنحوا للسَّلم فاجنح لها"، لإضفاء الشرعيّة على معاهدة "كامب ديفِد"، وخرج من الأزهر، المؤسّسة الدينيّة الرسميّة، من يشبّه المعاهدة بصلح الحديبية.
ولمّا اجتمع القادة العرب في "قمّة بغداد" عام 1978، والتي رفضت المعاهدة وعدّتها استسلاماً، صوّر السادات حاله مع العرب بحال النبيّ نوح مع قومه مستشهداً بالآيات: "ربّ إنّي دعوتُ قومي ليلاً ونهارا، فلم يزدْهم دعائي إلّا فرارا، وإنّي كلّما دعوتُهم لتغفرَ لهم، جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصرّوا واستكبروا استكبارا، ثمّ إنّي دعوتُهم جهارا، ثمّ إنّي أعلنتُ لهم وأسررتُ لهم إسرارا". الزعيم الفلسطيني، ياسر عرفات، وصف مساعيه للصلح مع الكيان الصهيوني بـ "سلام صلاح الدّين"، وهو ربط تاريخي لا يهتم صانعه بمدى مطابقته للواقع بقدر ما يهتم بتضليل الجماهير عن حقيقة ما يجري، وإيهامها بأنّه لم يفرّط في حريّاتها وحقوقها
3. *حجب المعلومات*:
لا يطيق الدكتاتور أن يرى الجماهير تنهل من المعلومات، لأنّ ذلك سيمّكنها من إدراك حقيقة حاضرها، واستشراف مستقبلها. يدرك الدكتاتور أنّ قبضته على السلطة ستستمر فقط إذا ظلّت الجماهير "مغيّبة" عن واقعها، ولذا، يلجأ إلى تضليلها وتجهيلها بماكينة دعاية ضخمة تجعلها أكثر تجانساً وأسلس قياداً.
تزدهر الدعاية في أجواء القمع، وتخاطب النّاس بوصفهم جماعة لا أفراداً، فهي تستميل الروح الجماعية، وتتجنّب مناشدة الفرد. الدعاية "آلية ضبط اجتماعي" كما يخبرنا أستاذ الاتصال السياسي، دان نيمو، ولذا، فهي تعتمد على العاطفة لا المنطق، وتضيق ذرعاً بالتفكير النّقدي.
ومن اللافت أن الأمر لا يقتصر فقط على المجتمعات الشموليّة، بل حتى المجتمعات الديموقراطية الليبرالية كالمجتمع الأميركي تقع ضحيّة للدعاية، لكنّها ليست دعاية مباشرة وتقليدية كالتي تشهدها المجتمعات المغلقة، بل دعاية معقّدة مستترة قائمة على إيهام الجماهير أنّه لا يجري التلاعب بهم، وأنّهم يتعرضون لرسائل واقعية ومتوازنة.
تبثّ وسائط الإعلام (الميديا) وقائع الحملات الانتخابية وطقوسها وأغنياتها وبرامج المرشحين وفضائحهم، كما تبثّ الإعلانات والمناظرات واحتفالات الترشيح ومراسم التنصيب، وكلها مشاهد تعتمد على الإبهار، وتعزِّز قناعة الرأي العام بنجاعة العمليّة السياسيّة السائدة. يواكب ذلك ترويج أساطير مهمّة لتخليد هذه الدعاية كأسطورة "الحلم الأميركي"، وأسطورة "مجتمع الصَّهر/البوتقة"، وأسطورة البلد "المحبّ للسلام" الذي يحمي حقوق الإنسان، ويسعى لجعل العالم أكثر أماناً.
وحسب نعوم تشومسكي، فإنّ الدعاية في أميركا تُمارس من خلال "سيطرة على التفكير" (thought control) ، تهدف إلى تضليل الجماهير بـ "خُدع ضرورية" necessary illusions) )، وعندما تنكشف هذه الخُدع، وتظهر الممارسات غير القانونية، يجري اللجوء إلى تكتيك دعائي آخر هو "السيطرة على الضرر" (damage control)، يتمثّل في لجان التحقيق، أو جلسات الاستماع، التي لا تُسفر في الغالب عن تغييرات تُذكر.
وقد يلجأ الدكتاتور، عندما يفشل في وقف انتشار معلومات عن انتهاك ارتكبه، أو فضيحة تورّط فيها، إلى شن "عمل عسكري" خارج الحدود، ليصرف الانتباه عن مأزقه، معيداً تركيز الاهتمام الشعبي على عدو خارجي.
4. *الكذب*:
يلجأ الدكتاتور إلى الكذب حتى عند مواجهته بالحقائق. في الواقع، يعتقد معظم الساسة أنّ الكذب وسيلة ناجعة لتحسين صورتهم الذّهنيّة، أو لتحقيق ما يرون أنّها حماية للأمن القومي لبلدانهم، أو لصناعة القبول بحملاتهم العسكريّة، وسياساتهم القمعيّة. يستوى القادة السلطويّون والقادة "الديموقراطيون" في ممارسة الكذب، حتى أصبح هذا السلوك لازمة من لوازم السياسة. الحملات الانتخابية سوق رائجة للكذب، ويعلم الناخبون أنّ الوعود التي يقطعها المرشّحون على أنفسهم في سياق الحملات ليست إلا وسيلة لكسب الأصوات.
يعتقد الدكتاتور محقّاً أنّه بتكرار الكذب سوف يدفع قطاعاً من الجمهور إلى التشكّك في الحقيقة، واعتناق الخرافة التي تدعم أهدافه. لكنّ الكذب يقود إلى نتائج مدمّرة. جورج بوش الثاني ردّد أكاذيب متوحشّة لكنّ الضخّ المستمر لها عبر مؤسسات إدارته والصحافة السائدة المؤيّدة لها، أدّى إلى إضعاف مقاومتها وتحييد معارضيها: "شارون رجل سلام"، "امتلاك العراق أسلحة دمار شامل"، "حماس منظمة إرهابيّة"، مجرّد أمثلة. قد يبني دكتاتور ما سياسته على كذبة مؤدّاها أنّ جماعة ما "إرهابيّة"، وتدريجاً تصبح الكذبة جزءاً من الخطاب العام، وتصبح مساءلتها ضرباً من العبث، وقد يتعرّض المشكّكون فيها إلى حملة تخوين مكارثية أو حملة "صيد ساحرات".
5. *استدعاء الزّبانية*:
يلجأ الدكتاتور إلى تمكين موالين دعائيّين في مواقع حسّاسة من أجل الترويج لأفكاره، والدفاع عن سياساته الداخليّة والخارجيّة، ويحرص على أن يتمتّع هؤلاء بقدرات خطابيّة وشخصيات آسرة (كاريزما). مثلاً، كذبة الدكتاتور المشار إليها في آخر الفقرة السابقة (إعلانه أنّ منظّمة ما إرهابيّة)، يتلقّفها الزبانية، ويعيدون إنتاجها، منتهين إلى تصديقها، ثم تبرير تبعاتها، لأنّها ليست مجرّد كلام، لتصبح الأفعال القمعيّة، والمحاكمات الصوريّة، والانتهاكات واسعة النّطاق ضروريّة أو مفهومة على الأقل.
ينبّه الكواكبي إلى خطر هذه الفئة التي يسمّيها "المتمجّدين" (ربّما تنطبق عليهم أسماء محكيّة مثل "البلطجية" و "الشبّيحة")، ويصوّرهم بوصفهم "جذوة نار من جهنّم كبرياء المستبد، يحرق بها شرف المساواة في الإنسانية"، مضيفاً أنّ الدكتاتور يريد من خلال تمكين هؤلاء دفع الأمّة إلى "إضرار نفسها تحت اسم منفعتها، فيسُوقها مثلاً لحرب اقتضاها محضُ التجبّر والعدوان على الجيران، فيوهمها أنّه يريد نصرة الدين، أو يسرف بالملايين من أموال الأمّة في ملذاته وتأييد استبداده، باسم حفظ شرف الأمة وأبّهة المملكة، أو يستخدم الأمة في التنكيل بأعداء ظُلمِه، باسم أنّهم أعداءٌ لها، أو يتصرّف في حقوق المملكة والأمّة كما يشاء هواه، باسم أنّ ذلك من مقتضى الحكمة والسياسة".
الدكتاتور، يضيف الكواكبي، لا يعدو كونه محتاجاً إلى "عصابة تعينه وتحميه، فهو ووزراؤه كزمرة لصوص".
6. *اتّخاذ كبش فداء*:
يلجأ الدكتاتور إلى إلقاء مسؤولية إخفاقاته على جماعة أو دولة أو شخص في محاولة لتخفيف اللوم عنه، أو لتوجيه مشاعر الإحباط الشعبي إلى جهة أخرى غيره: المهاجرين، الأقليات، الملوّنين، الإسلاميين، من تسمّيهم الدعاية "الإرهابيين".
هتلر قال إن اليهود كانوا يحاولون امتصاص دم ألمانيا، ترمب يقول إن المهاجرين المسلمين والمكسيكيين يهدّدون الشعب الأميركي اجتماعياً واقتصادياً، السيسي يقول إن الإخوان المسلمين إرهابيون ويريدون بيع السويس وسيناء لقوى أجنبية. قد يعلّق الدكتاتور فشله في جانب ما على مستشار أو وزير، فيعزله من منصبه.
اللجوء إلى "كبش فداء" سياسة قذرة، وضحاياها عادة هم الأبرياء والضعفاء الذين يسهل استهدافهم من دون خوف من انتقام. لسوء الحظ، تنجح هذه السياسة لا سيما في ظلّ سطوة الدعاية، وغليان المشاعر العنصرية، وتخلّي حرّاس الديموقراطية عن واجبهم في المساءلة والرقابة.
7. *رفض الاعتراف بالأخطاء*:
يتوقف الدكتاتور عن دكتاتوريّته إذا اعترف بخطئه. الاعتراف بالخطأ علامة ضعف لا قوّة، و "تنازل" لا يُعرف به سوى المغفّلين، ورضوخ للضغط يتعارض مع حزم السلطة وهيبتها. لا شيء يدمّر الدكتاتورية أكثر من الاهتمام بالرأي العام. وُلدتْ الدكتاتوريّة من رحم العنف، ولذا، فهي تسمح بولادة ثقافة العنف التي تتنكّر للقانون والنظام والتسامح والمحاسبة.
يعتقد الدكتاتور أنّه "أبو" الأمّة، وربّما "ربّها الأعلى" الذي يجب أن يكون بمنأى عن الأخطاء، وبمنأى حتى عن النصح. الدكتاتور لا يحبّ النّاصحين، لأنّه ينظر إلى السلطة بوصفها غاية لا وسيلة، كما يقول جورج أورويل، الذي يضيف: "لا أحد يؤسّس دكتاتوريّة ليحافظ على ثورة، بل يصنع الثورة ليؤسّس دكتاتورية".
إذا قُدِّر لك أن تكون زعيماً ذات يوم، فاحذر أن تقع في إحدى هذه العادات، وحاول أن تضرب مثلاً في العدالة.
قد يعيش الدكتاتور طويلاً، لكنّ التاريخ سيلعنه حتماً.
مدونات الجزيرة
وسوم: العدد 813