الاستعمار العقائدي

هذه مقالة تناولت فيها موضوعا رأيت أنه يشغل بال العراقيين خاصة والعرب عامة

يعّرف المؤرخون الاستعمار بأنه سيطرة دولة قوية من الدول على بلد آخر أو أكثر، لا يمتلك القدرة للدفاع عن نفسه، بهدف السيطرة على شعبه، والتحكم بطريقة عيشه، واستغلال ثرواته بعد كسر إرادته، وتحطيم مثله العليا، وقيمه الوطنية والدينية.

 وقد صنّف أولئك المؤرخون الاستعمار إلى أنواع عدة:

أولها : الاستعمار القديم، وهو النوع الذي انطلق مع بدء اندفاع الدول الأوربية من بداية القرن الخامس عشر ثم تعزز وجوده في القرن السادس عشر، وكانت أقاليم آسيا وأفريقيا وأمريكا (الشمالية، والجنوبية)، واستراليا أبرز ضحايا هذا التوسع الاستعماري، وكان مبرر هذا الاندفاع نحو العالم الخارجي لما وراء البحار، هو إشباع رغبة بعض المغامرين بالاستكشاف بحثا عن الذهب، ومصادر الطاقة، والمواد الأولية وبقية الثروات في المجتمعات البكر، ومما يمكن تأكيده أن هناك علاقة تناسبية بين التطور الصناعي وبين سعة الأقاليم الجديدة المختزنة للثروات الطبيعية وأسواق تصريف السلع الصناعية، ومما كان يساعد على سهولة احتلال الأقاليم الجديدة، الرغبة الجامحة للدول في التخلص من أقلياتها المذهبية أو أعداد من القتلة والمجرمين بنفيهم إلى الخارج مقابل حكم بإطلاق سراحهم وتوفير مستلزمات عيشهم في مجتمعاتهم الجديدة، هذا فضلا عن معالجة الاكتظاظ السكاني في بعض الدول الأوربية وعدم توفر مصادر للثروة فيها تكفي لإشباع البطون الخاوية، فاختارت بعض الدول الأوربية إرسال الآلاف من أبنائها للإقامة في البلدان المحتلة كي يصبحوا أدوات ضغط على السكان الأصليين أو العمل في المشاريع الزراعية وغيرها من المصالح التابعة لبلدانهم التي انتدبتهم للعمل، مع نشر لغات البلدان الاستعمارية في قارات العالم مما يعني المزيد من التقارب والتفاهم بين طرفي المعادلة.

   كانت هذه الأساليب معتمدة على نطاق واسع في بداية عصر الاستعمار بأشكاله القديمة، لكن الاستعمار أخذ أبعادا أخرى أكثر تنظيما وتواؤما وتطابقا مع أهداف الدول التي انطلقت أساطيلها في كل الاتجاهات بحثا عن الأراضي والمجتمعات البدائية، وكان هذا مع بدء عصر الثورة الصناعية التي انطلقت في أوربا في القرن التاسع عشر، حيث صارت الحركة الاستعمارية ضمن خطط متكاملة للدول الباحثة عن أسواق لتصريف منتجاتها وتأمين المواد الأولية لإدامة دوران عجلة اقتصادها التي صارت تدور بقوة أكبر كلما زاد عدد الأسواق أو عدد المناجم التي تستخرج منها المواد الأولية، فتم استثمار أموال كبيرة هناك فكانت بداية نشوء الشركات الرأسمالية الكبرى أو المتعددة الجنسية.

   وبدأت أولى الموجات الاستعمارية مع عصر الاستكشافات العلمية وقوة الدولة في كل من البرتغال وإسبانيا وبريطانيا وفرنسا، وقد كان لاكتشاف قوة البخار كمحرك للمكائن وخاصة في مجال الملاحة البحرية الدور الأكثر حسما في فتح شهية الدول الأوربية للتنافس من أجل الوصول إلى الأقاليم الجديدة قبل غيرها، وتأسيسا على هذا الصراع المبكر بين دول أوربا فإن بعض المؤرخين يرون أن أول مستعمرة عرفها التاريخ الحديث كانت مستعمرة سبتة في شمال المغرب التي احتلها الاستعمار البرتغالي عام 1415 وتقع سبتة على البحر الأبيض المتوسط مقابل مدينة الجزيرة الخضراء الإسبانية، ومن مفارقات الاستعمار أن سبتة وكذلك مليلية المغربيتين ما زالتا تحت السيطرة الإسبانية حتى اليوم، لقد كان ذلك الاحتلال أول خروج رسمي للدول الأوربية من قارتها، هذا إذا تركنا الحروب الصليبية جانبا، وهكذا دشن الأوربيون أول مشروع استعماري توسعي لهم خارج القارة، وصارت أساطيل الدول الأوربية تجوب البحار شرقا وغربا بلا انقطاع حتى تم الوصول إلى القارتين الأمريكيتين من قبل مغامرين أوربيين تلقوا الدعم من ملوكهم وحكوماتهم، وهذا ما فجّر نزاعات عميقة بين الدول الأوربية لتوسيع سيطرتها على أهم الثروات وعلى أوسع الأراضي، ثم التقدم نحو مواقع متقدمة على حساب الدول الاستعمارية الأخرى في المجتمعات المحتلة، مما فاقم من حدة التنافس بين تلك الدول وأدخلها في سباق محموم لاحتلال موقع الدولة الأقوى في موازين القوى الدولية ومن أجل السيطرة على الممرات البحرية وطرق المواصلات البحرية خاصة، لكن الأراضي البكر والغنية بالثروات الطبيعية وقليلة السكان كانت ذات إغراء أقوى للدول المتنافسة، فشهدت القارة الأمريكية وأستراليا حروب إبادة واستئصال للسكان الأصليين ما زالت تداعياتها الأخلاقية والقانونية ماثلة حتى يومنا هذا.

  وبناء على هذا يمكن تقسيم الاستعمار إلى عدة أقسام، وهي:

أولا: الاستعمار القديم، والذي يتمثل بالاحتلال العسكري المباشر والسيطرة على مقدرات البلد الخاضع للاحتلال سياسيا واقتصاديا وعسكريا وإلغاء وجوده المعنوي من الخارطة السياسية.

ثانيا: الاستعمار الجديد، والذي يختفي من الواجهة السياسية والعسكرية ويختبئ وراء واجهات براقة، ويركز على المصالح الاقتصادية، إذ يربط إرادة البلد بعجلة المؤسسات الاقتصادية والمالية الأجنبية، والتحكم بسياسته، وعادة ما يطلق على هذا الاستعمار مصطلح الإمبريالية.

لكن الاستعمار أخذ أشكالا مختلفة منها:

 الاحتلالي، ومنها الاحتلالي الإجلائي، والأخير يطلق عليه اسم الكولونيالية، والأول: ما كان سائدا في جنوب أفريقيا وروديسيا (زيمبابوي) قبيل نيلها استقلالها وتخلصها من حكم الأقلية العنصرية.

أما الثاني: فتجسده إسرائيل كحالة احتلال وتهجير للفلسطينيين بعد الاستيلاء على أرضهم ونزع ملكيتها.

ثالثا: الاستعمار العقائدي، ربما يتبادر إلى الأذهان أن الاستعمار من حيث الأصل اللغوي هو طلب الإعمار أو التعمير، هذا المفهوم استخدمته الدول الغربية لتقديم مبرر لتوسعها على حساب أراضي الدول المتخلفة، في محاولة لدغدغة مشاعرهم وتسهيل احتلال اراضيهم بحجة أنهم يعيشون في بلدان في غاية التخلف وتحتاج إلى من ينتشلها من ذلك الوضع المزري ويغير أحوالها، وهكذا انطلت الحيلة على شعوب لا تعاني من التخلف الاقتصادي والعلمي فقط وإنما تعيش أزمة مركبة من التخلف الفكري وحتى العقلي، وفي النهاية تبين أن ذلك الاستعمار لم يكن إلا لمزيد من السيطرة ونهب الثروات والامساك بالممرات الملاحية الدولية وتنشيط تجارة البلدان الاستعمارية بعد حصولها على المواد الخام من البلدان المحتلة، أما هذا المفهوم اللغوي للاستعمار في حال الاستعمار العقائدي، فإنه في واقع الحال متناقض بل متصادم تمامًا حتى مع المفهوم الأخير، ولنأخذ خطوات إيران مثلا في زحفها نحو العراق وسوريا على سبيل المثال، ففي أي مرفق كانت إيران أكثر منهما تطورا فهي تريد نقل تجربتها في التطوير والتحديث إليهما؟ لا توجد نقطة واحدة كانت إيران أكثر تطورا من العراق لا في التكنولوجيا ولا في الزراعة ولا في العلوم ولا في الصناعة ولا في الزراعة، وكذلك الحال بالنسبة لسوريا وبدرجات متفاوتة، بل إن إيران كانت أكبر مستودع للخرافة والجهل والتجهيل، ولا تستطيع الانتشار في مجتمع متنور ويعيش ازدهارا ثقافيا ومعرفيا ويستظل تحت أجواء تعليم متطور ومجتمع مثقف، من هنا نستطيع أن نجزم أن مصطلح الاستعمار العقائدي هو مصطلح خاطئ من الأساس ومع ذلك فإننا نستخدمه للدلالة والقياس لا غير، فهو استدمار وتخريب للمعرفة والثقافة التي لا يستطيع عالم الأسطورة والخرافة العيش معهما في أي حال، ومع ذلك فإن هذا الاستعمار فاق في مخاطره كل الأشكال التي عرفتها البشرية وعانت منها الشعوب نعم هو السيطرة العقائدية على معتقدات السذج والبسطاء من الناس، فما هي صيغته وبم يختلف عن الأشكال الأخرى؟

   الاستعمار العقائدي: هو مزيج من كل أشكال السيطرة الاستعمارية القديمة منها والجديدة، وهذا الطراز من الاستعمار لا يرسل جيوشه لاحتلال أراضي الدول الأخرى، ولا أساطيله البحرية أو طيرانه كما فعل المستعمرون الذين أذاقوا الشعوب ويلاتهم لقرون عدة، إذ أنه يمتلك فائضا من القوات العسكرية وشبه العسكرية المحلية الموالية له والجاهزة والمدربة لتكون رهن إشارته في تنفيذ المهمات الموكلة لها، واستطاع توظيف تجارب الدول الاستعمارية التي سبقته فتجنب شعاراتها، واستبدلها بشعار الدفاع عن أمن دول صديقة استنجدت به تارة، وتارة أخرى تحت لافتة الدفاع عن مقدس ديني أو خط سياسي يتجسد في الدفاع عن خط الممانعة والمقاومة والدفاع عن القدس، وجيوش هذا الاستعمار تتحرك تحت واجهة المكاتب السياحية أو المراكز الثقافية أو المراكز الصحية، وتارة أخرى تحت لافتة التدخل الإنساني لحل مشاكل وأزمات ثنائية أو جماعية بين دولتين أو أكثر، ولو دققنا في جوهر تلك المشاكل لاكتشفنا أن قوة إثارتها الحقيقية هي الاستعمار العقائدي نفسه.

   فهذا الصنف يتدخل في أدق تفاصيل الحياة اليومية للأفراد والجماعات ويعمل على تغيير قناعاتهم ومعتقداتهم الدينية والسياسية وحتى الاجتماعية والاقتصادية، ويجد هذا النوع من الاستعمار تجسيده الكامل في التوسع الإيراني الذي انطلق بقوة دفع منذ وصول الخميني إلى الحكم في 11 شباط/فبراير 1979، ورفعه شعار تصدير الثورة والدفاع عن المستضعفين في كل مكان وتبني العقيدة الشيعية ركيزة للحكم، وتثبيت تلك المفاهيم بنصوص دستورية، ومكمن خطورة هذا النوع من الاستعمار أنه لا يعتمد على القوة الذاتية لإيران في معاركه التي يخوضها في مختلف الجبهات وبالتالي يمكن أن تتنصل إيران من أية مسؤولية قانونية أو أخلاقية لما يحصل على الأرض، ولعل أهم أهداف هذا الاستعمار تدمير الشخصية الوطنية واحتقار الذات والاستهانة بكل القيم الوطنية والدينية التي يعتز بها المواطن والانتقال به إلى الشعور بالدونية من الإيراني في كل شيء، ولنأخذ مثلا بسيطا، قال أحد قادة الحشد الشعبي الأساسيين: إنه يعتز بإيران ويفضلها على العراق وإنه يوصي بدفنه في إيران بعد موته، فهل هناك شعور بالذل أسوأ من هذا؟ نحن نعرف أن الشيعة بمعظمهم وخاصة من الإيرانيين يتمنون الدفن في النجف بعد موتهم، وكانت عصابات تهرب الجثث إلى العراق من إيران لدفنها في النجف، فما هو دافع هذا القيادي في الحشد إلى هذا القول؟ ربما هناك تفسيران:

أولا: أنه إيراني أصلا.

 وثانيا: أنه ينتمي بالولاء لإيران باعتبارها بوصلة ولائه، وولي نعمته لا ينافسها بلد آخر، ففي العراق معظم أئمة الشيعة ولا سيما علي بن أبي طالب والحسين، في حين أن إيران لا يوجد فيها إلا مرقدا لواحد من الأئمة "المعصومين" وهو علي بن موسى الرضا، وهناك مرقد آخر في قم لشقيقته "معصومة"، فهل يتساوى الأصل بالفروع؟ هذا سؤال موجه لغلاة الشيعة ولمعتدليهم إن كان فيهم معتدل.

   لقد نجحت إيران في إقامة تنظيمات سياسية ومسلحة حيثما تمكنت من ذلك، بل قامت بتسخير ما تسمى بالحوزات العلمية ورجال الدين الإيرانيين أو الذين يدينون بالولاء لإيران من غير الإيرانيين والذين ينتشرون حيثما ما وجدت مكونات شيعية، لربط المكون الشيعي بإيران واعتبار ذلك جزءً من عقيدة التشيع، وربما كان لغفلة الحكومات العربية والإسلامية عن خطر تسييس التشيع وتسخيره لمصلحة الدولة الإيرانية، الدور الأكبر في نجاح المخطط الإيراني، وأدى ذلك إلى نشوء حركات وأحزاب شيعية في العراق ولبنان وغيرهما، قبيل سقوط شاه إيران وكانت تدين له بالولاء مثل حزب الدعوة في العراق ومنظمات أخرى، ولكن بعد وصول الخميني إلى السلطة وتبدل الخطاب السياسي للدولة الإيرانية برزت على السطح حركات وأحزاب ومليشيات كانت تتناسل مثل الأرانب، وحاولت توظيف القضية الفلسطينية كبوابة للدخول إلى قلوب العرب عامة والفلسطينيين خاصة، وإذا كان العراق قد خاض حربا طاحنة مع إيران استمرت ثمانية أعوام لم تنته إلا بعد أن تجرع الخميني كأس السم خلالها، فإن لبنان عاش تجربة شاذة تماما، وذلك باستغلال حزب الله اللبناني أجواء الانفتاح السياسي في البلاد، وكذلك أجواء الصراع العربي الصهيوني، لتكريس دوره السياسي ومن ثم العسكري التدريجي حتى صار قوة الأمر الواقع الموازية لسلطة الدولة، وعلى هذا فإننا نستطيع أن نؤشر على تجربة نشوء وتطور سيطرة حزب الله اللبناني باعتبارها أول تجربة في أي بلد عربي بهذه المواصفات، فهو جزء من الحكم ولكنه في واقع الأمر خارج سيطرة الدولة التي تبدو عاجزة أمامه عن تنفيذ أي أمر للحزب علاقة به.

   ولأن أساليب المنظمات والتشكيلات المسلحة وشبه العسكرية التي شكّلتها إيران في الدول التي سيطرت عليها كلا أو جزءً تكاد تتطابق حتى بالتفاصيل الدقيقة، فإننا سنتحدث عنها باعتبارها ساحة واحدة وما ينطبق على واحدة منها ينطبق على الأخريات.

    الهدف الرئيس لإيران من تحركها في دول المنطقة، ودعمها للإرهاب فيها وإنفاق الأموال على ذلك التحرك هو تحديدا نشر التشيّع سواء المجتمعات الخالية من أي وجود لها، وهنا يكون اعتمادها على المراكز الثقافية والمكاتب السياحية واستغلال قبور من تعتبرهم من آل البيت النبوي الشريف أو من هم من مواليهم، وكذلك تقديم الخدمات الطبية والتعليمية وعرض الزمالات الدراسية في جامعات إيرانية كمدخل لنشر التشيّع أو تشجيع السفرات السياحية شبه المجانية مع عروض للزواج المؤقت (زواج المتعة) للشباب المتعطش للجنس والباحث عن مخرج من المحظور الديني في هذا المجال، وعندما لا تحقق هذه الأساليب الخرق المطلوب يتم اللجوء إلى الأساليب الأخرى، أما في المجتمعات التي يتواجد فيها شيعة فالأمر يسير جدا وذلك بتجنيد هذه المجاميع في مخطط بعيد المدى لتغيير التركيبة السكانية اقتباسا من تجربة إسماعيل الصفوي في إيران عندما قتل مليون سني لأنهم تصدوا لخططه في تشييع البلاد، وما عاشه العراق من قتل أعمى على أيدي عناصر المليشيات وبإشراف من الحرس الثوري ممثلا بفيلق القدس، يعد مثالا للجريمة المنظمة التي ترعاها الحكومات المتعاقبة على العراق منذ 2003، وهو ما حصل في لبنان وفي سوريا بعد ثورة شعبها عام 2011 ودور حزب الله اللبناني ومليشيات من العراق مارست القتل هناك بدعوى حماية مرقد السيدة زينب فدخل التشيّع إلى سوريا عبر حسينيات ومدارس تدّرس التشيّع بل وتفرضه على التلاميذ الصغار، وما مارسه الحوثيون عندما قاموا بالانقلاب على الشرعية وتحكموا في المجتمع اليمني وفرضوا التشيّع الاثني عشري على اليمن بقوة السلاح على الرغم من أن نسبتهم لا تزيد في أحسن أحوالهم على عشرة بالمئة، بعد أن ظل اليمن يتعايش فيه المذهبان الشافعي والزيدي لمئات السنين حتى دخلت إيران وأثارت هذه الفتنة لتتسلل من خلالها إلى اليمن وتتبجح بعض قياداتها بأن إيران باتت تسيطر على أربع عواصم عربية وعلى الممرات الملاحية الدولية.

   ما جرى في العراق بعد احتلال 2003، وتسليم العراق لإيران بصفقة سرية مؤكدة بين واشنطن وطهران، يعدّ أخطر تحول شهدته الساحة العربية من تغول في الدور الإيراني وتحّكمه بكل مفاصل الدولة والمجتمع في العراق، لكن هناك فرقا بين ما جرى في العراق وتجربة حزب الله اللبناني، فحزب الله اعتمد في تمويله وحياته على الدعم الإيراني المباشر، في حين أن سيطرة إيران على العراق أتاحت لها التحكم بموارد البلاد وخزينة الدولة العراقية، فبدلا من اعتماد المنظمات والأحزاب والكتل السياسية والمليشيات التي أسستها إيران في العراق بعد الاحتلال أو كانت قد أسستها قبل 2003، على الدعم المالي الإيراني، استطاعت تلك الجهات أن تعتمد على المال الرسمي العراقي الذي تسطو عليه أو تسرقه من المواطن في عمليات الدهم في مدن العراق السنية والسيطرة على ممتلكاتهم وتحويل ممتلكات الوقف السني إلى مال منهوب أو عقارات مملوكة للوقف الشيعي، لتمويل فعالياتها بل بدأت الأموال تتدفق على إيران من العراق عبر وكلائها ووسطائها عن طريق العمولات والصفقات الكاذبة التي يعقدونها مع شركات وهمية لإقامة مشاريع لا وجود لها حتى في مخيلة أكثر الناس سذاجة، وكذلك من عمليات تهريب النفط أو السيطرة على حقول نفط عراقية صرف؛ لم يثر حولها إشكال حدودي بين البلدين، بل تحول العراق إلى ممول لبرامج إيران التوسعية في الوطن العربي، ولهذا نلاحظ أن الساحة العراقية لم تعش تجربة الهيمنة كما هو الحال مع حزب الله اللبناني، وهذا لا يعود إلى موضوع التمويل فقط، بل إلى عوامل متداخلة منها النزعة العراقية المحبة للتميز حتى داخل المذهب الواحد وعدم قدرتها على الانصياع لإرادة طرف واحد ومنها المزاج العراقي المتقلب والمحب للتغيير، ولكن ما حصل في العراق كان من الخطورة بحيث تداعى الوضع العربي بعد احتلال 2003، وبدأت الأخطار تخيم في سماء العرب حتى بدأ جزء من النظام الرسمي العربي يشعر بعظم الجريمة التي كان طرفا فيها عندما أسقط تجربة الحكم الوطني التي كانت أكبر حاجز عقائدي وعسكري وسياسي وجغرافي بين إيران وبقية الدول العربية، لا سيما وأن إيران كانت تعد الخطوات العملية للسيطرة على البلدان العربية تباعا وفقا لخطة مدتها 50 عاما تكون قد تحكمت بالوطن العربي بما في ذلك السيطرة على الحرمين الشريفين ومصر وبلاد الشام، فهي لم تكتف بما تحقق لها هنا أو هناك وإنما كانت تهيئ مستلزمات السيطرة على الدول الأخرى بعد التفرغ من معارك في جبهاتها الحالية، ويبقى هدف السيطرة على المملكة العربية السعودية أبرز أهداف الخطة الإيرانية المعدة لخمسين عاما، لما لبلاد الحرمين من رمزية وتأثير عقائدي على المسلمين جميعا، فالزعامة الإيرانية على يقين أنها لن تستطيع الزعم بتمثيلها للمسلمين طالما بقي الحرمان الشريفان خارج سيطرتها، وربما تسعى لتطويق السعودية بتحالفات مختلفة منها ما يقع على الخليج العربي ومنها ما يقع على حدودها الجنوبية.

  إن وجود أقليات شيعية في المناطق التي تريد إيران التحرك فيها، يعد عاملا مهما في ترجيح الولاء لإيران على الولاء الوطني، فالتشيع يعتبر أن الولاء له ولمركزه العالمي أي طهران، يعلو على كل ولاء آخر، فتنوب تلك الأقليات عن الوطن العقائدي بالاضطلاع بالمهمات العقائدية المترافقة مع الاحتلال العسكري الخفي، وتتوزع واجباتها بموجب خطة عمل مركزية لا تصدر عن الحكومة الإيرانية، بل عن مركز التوجيه الرئيس أي مكتب الولي الفقيه عبر أذرع إيرانية مختلفة تتولى الإشراف على حركة المنظمات المحلية، وتعقد الانتخابات المرتبة النتائج سلفا، وتتشكل الحكومات وفقا لأوامر إيرانية غير قابلة لمجرد النقاش، ولقد كانت جرائم المليشيات التي أعطتها العملية السياسية ومجلس نوابها وفتوى السيستاني الشرعية، مما لا يمكن أن يحصر وخاصة في المحافظات والمدن السنية التي سيطرت عليها داعش، وعانى أبناء تلك المدن من الخطف والتغييب، وانهارت مستويات التعليم في العراق وارتفعت نسبة الأمية على نحو مخيف وانهارت الأبنية المدرسية وتقلص عدد المعلمين والمدرسين والاساتذة الجامعيين بعد أن تحول التعليم إلى "روزخونيات" بائسة ومثيرة للسخرية بعد تصفية الكفاءات الوطنية قتلا وتشريدا وتغييبا ودخلت على الخط مخططات تلقين التلاميذ مناهج طائفية مغرقة في غرس الروح العدائية للعرب، والتشجيع على التشيّع عبر ما أطلق عليه بالحشد التربوي، وانهارت الخدمات الصحية الوقائية والعلاجية وتم تسجيل عودة أمراض كانت قد اندثرت من العراق قبل عقود عديدة، أما سياسة البطش التي اتبعها الحشد الشعبي فقد خلفت ملايين الأرامل والأيتام، أما البطالة فقد وصلت مستويات غير مسبوقة فبعد توقف الصناعة نتيجة تعطل بعض المصانع وتفكيك معظمها ونقلها إلى إيران كل هذا ألقى بملايين من الأيدي العاملة والمهندسين والموظفين على قارعة الطريق، فوصل الملايين من العراقيين إلى مستوى تحت خط الفقر، وتحول العراق بعد ذلك إلى سوق لتصريف السلع الصناعية الإيرانية الرديئة التي لا تمتلك فرصة للمنافسة في أي بلد آخر، بعد أن منحت السلع المستوردة من إيران الحماية القانونية الكاملة وتم إعفاؤها من الضرائب حتى صارت تنافس القليل مما متوفر من صناعات عراقية للقطاع الخاص، وما ينطبق على القطاع الصناعي ينطبق أيضا على القطاع الزراعي، وخاصة بعد أن شنت إيران حرب مياه على العراق فأقامت السدود وحولت مسارات الأنهار المشتركة، أو كانت تنفذ حربا مضادة عندما تفتح سدودها في مواسم الأمطار لتغرق المحاصيل الزراعية قبل نضجها.

   لكن الأخطر من كل هذه التفاصيل كان غياب منظومة الدولة وغياب دورها وعدم احترامها لنفسها من خلال حركة المسؤولين الإيرانيين مدنيين وعسكريين في الأراض العراقية من دون رقيب ولا حسيب، وتفكك أجهزة الدولة الأمنية والإدارية وحلول المليشيات محلها في القتل خارج القانون وارتكاب جرائم حرب وخرق فاضح لحقوق الإنسان، فتردت القيم والشعور بقيمة المواطنة والانتماء للوطن، وراح المواطنون يبحثون عن ملاذات آمنة في الخارج، نتيجة سياسة الإذلال التي اعتمدتها المليشيات في تعاملها مع المواطن السني والنظر إليه من فوق بعد هدر حقوقه وتحويله إلى مواطن درجة رابعة أو خامسة أو أسوأ من ذلك، فراحت تتحدى مشاعرهم وتستفز كرامتهم بفتحها مقرات للحشد الشيعي والحسينيات في مدن السنة مما يهدد النسيج الاجتماعي وينذر بعدم استقرار العراق، وكذلك احتلال المدن السنية وتهجير أهلها منها وعدم السماح لهم بالعودة إليها.

   ومع انهيار هذه القيم كانت الدولة تتردى في سلوك ما بقي من جهازها الإداري الذي لم يعد يخجل كثير من عناصره من المطالبة الصريحة بالرشوة مقابل إنجاز أبسط المعاملات الروتينية الأصولية، أما الخدمات العامة فأصبحت من المطالب المستحيلة وليست من الحقوق العادية التي يجب على الدولة "أية دولة" توفيرها للمواطن مثل البنى التحتية من طرق وجسور وخدمات الماء والكهرباء...

وسوم: العدد 813