قدوة القيادة في الإسلام 12
قدوة القيادة في الإسلام
الحلقة الثانية عشرة: المفاوضات مع الأعداء 3
د. فوّاز القاسم / سوريا
الموقف بعد فشل المفاوضات الجماعية
أولاً_ موقف المشركين :
بعد فشل هذه الجولة الهامة من المباحثات الصعبة ، تداعى المشركون فيما بينهم لعقد سلسلة من الاجتماعات المكثفة وعلى أعلى المستويات القيادية في مكة ، وكانت حصيلة هذه الاجتماعات القرارات التالية :
1. تصعيد حملات الاعتداء على المسلمين :
قال ابن اسحق : ثم إنهم عدوا على من أسلم ، واتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصحابه . فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين ، فجعلوا يحبسونهم ويعذبونهم بالضرب ، والجوع ، والعطش ، وبرمضاء مكة إذا اشتد الحر ، من استضعفوا منهم ، يفتنونهم عن دينهم ، فمنهم من يُفتن من شدة البلاء الذي يصيبه ، ومنهم من يصلب لهم ، ويعصمه الله منهم . هشام1 (317 )
وتشتد الحملة ، وتتفاقم المحنة ، ويستخدم المشركون كل ما لديهم من بطش وقسوة لإرهاب المسلمين . ويتفننون تفنناً في أشكال التعذيب والاضطهاد والقتل . فمنهم من يعذبونه بالحرِّ والنار . ومنهم من يعذبونه بالجوع والعطش . ومنهم من يذيقونه الموت أشكالاً وألواناً .
ولا نستطيع أن نتصور هول الموقف في هذه المرحلة ، حتى نذكّر برواية ابن عباس الهامة ، التي رواها ابن اسحق قال : حدثني حكيم بن جبير ، عن سعيد بن جبير قال : قلت لعبد الله بن عباس :
أكان المشركون يبلغون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من العذاب ، ما يعذرون به في ترك دينهم .!؟
قال : نعم والله ، إن كانوا ليضربون أحدهم ويجيعونه ويعطشونه ، حتى ما يقدر أن يستوي جالساً من شدة الضر الذي نزل به ، حتى يعطيهم ما سألوه من الفتنة . حتى يقولوا له : أللات والعزى إلهك من دون الله !؟ فيقول : نعم . حتى إن الجُعل ليمر بهم فيقولون له: أهذا الجُعل إلهك من دون الله ؟
فيقول : نعم . افتداءً منهم مما يبلغون من جهده .!!!
هشام ص1 (320) .
2. تصعيد الحرب الإعلامية ضد الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه :
قال ابن هشام : فجعلت قريش حين منعه الله منها ، وقام عمه وقومه من بني هاشم ، وبني المطلب دونه ، وحالوا بينهم وبين ما أرادوا من البطش به . يهمزونه ، ويستهزئون به ، ويخاصمونه .
ولقد شمل هذا التصعيد جميع فنون الحرب النفسية والمعنوية ، من سب ، وشتم ، وسخرية ، وتهكم ، واتهام ...إلخ …
ولقد تولى كبر هذه الحملة مجموعة من أساطين الكفر في مكة ، وعلى رأسهم ، ووزير الإعلام فيهم ، النضر بن الحارث ، الذي أُنزلت فيه ثمان آيات بينات ، وهي كل ما ذكر فيه من الأساطير في القرآن .. هشام1 (300).
3. الحصار الاقتصادي :
لقد كان هذا الحصار اعتقالاً جماعياً رهيباً ، وهو شبيه بما فعلته النازية في معسكرات الاعتقال إبان الحرب العالمية .
قال ابن اسحق : فلما رأت قريش أن عُمر قد أسلم ، فكان هو وحمزة بن عبد المطلب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وجعل الإسلام يفشو في القبائل . اجتمعوا وائتمروا بينهم أن يكتبوا كتاباً يتعاقدون فيه على بني هاشم وبني عبد المطلب ، على أن لا ينكحوا إليهم ، ولا يناكحوهم ، ولا يـبيعوا إليهم شيئاً ، ولا يبتاعوا منهم . فلما اجتمعوا لذلك كتبوه في صحيفة ، ثم تعاهدوا ، وتواثقوا على ذلك ، ثم علقوا الصحيفة في جوف الكعبة . هشام1(350 ).
ولقد جهد المسلمون في هذا الحصار جهداً شديداً ، حتى إن الرواة حدثوا أنهم أكلوا الجلود وأوراق الشجر.
4. محاولة اغتيال النبي صلى الله عليه وسلم :
قلنا إن الطغاة عندما يفشلون في ميدان الفكر ، وينهزمون أمام الحجة والبرهان ، يلجؤون دوماً إلى الوسائل الخسيسة المعروفة ، كالبطش والقتل ، والإرهاب ، وتصفية الخصوم جسدياً …
فعلوه من قبل ، مع أبي الأنبياء إبراهيم ، ومع كليم الرحمن موسى ، عليهما السلام ، وهاهم يكررونه مع خاتم الأنبياء ، وإمام المرسلين ، محمد صلى الله عليه وسلم .
قال ابن هشام : فلما قام عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم – أي من جلسة المفاوضات – قال أبو جهل بن هشام :
يا معشر قريش إن محمداً قد أبى إلا ما ترون من عيب ديننا ، وشتم آبائنا ، وتسفيه أحلامنا . وإني أعاهد الله لأجلسن له غداً بحجر ما أطيق حمله ، فإذا سجد فضخت به رأسه .
ولكن الله رد كيد هذا الطاغية إلى نحره … ولا يزال أمثال هذا اللعين من الطغاة ، يمارسون نفس الدور مع الدعاة حتى هذه اللحظة …
ثانياً_ موقف النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه :
لقد كان موقف النبي صلى الله عليه وسلم بعد انتهاء الجولة الكبرى من المفاوضات الجماعية ، حرجاً للغاية ، وخاصةً بعد موت زوجته خديجة رضي الله عنها ، وعمه وحاميه أبي طالب .
فقد اشتد الكرب ، وعظم الخطب ، وتجمد الموقف ، وعضت المحنةُ المسلمينَ بأنيابها …
ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم الداعية القائد ، وقائد الدعاة .
لم يهُلْه الموقف ، ولم يرُعْه الهول ..
إنه يرى أصحابه بين محاصر ، أو معتقل ، أو شهيد …
ويسقط أمامه منهم الواحد تلو الآخر …
فلا يضعف ، ولا يهتز ، ولا يتأرجح ، ولا يتخبط …
ولا يخرج من الساحة الملتهبة ، ويترك إخوانه فريسة للذئاب ، كالقطيع بلا راعي ، في ليلة شاتية مطيرة .!
أوكالسفينة بلا ربان ، في يوم عاصفة وإعصار …!
لا .. لا .. لم يفعل شيئاً من ذلك .. وإنما ثبت كالطود الشامخ ..
وتطاول بهامته الشريفة وسط جموع أصحابه ، ليروه بكل وضوح وشموخ ورسوخ واحتضن مقود السفينة بكلتي يديه الشريفتين، وراح يتحدى العاصفة ، ويسخر من الأعاصير …
وبمزيد من الشموخ ، والرسوخ ..
وبغاية التحدي ، والإصرار ، والصبر على الخطة ..
وصلت السفينة – بعون الله وحفظه – إلى بر الأمن والأمان…
وإليكم أبرز معالم خطته لهذه المرحلة العصيبة :
1. تخفيف لهجة التحدي :
يجوز للداعية الحصيف في مرحلة الاستضعاف ، وفي أيام المحن ، أن يترخص في الدين ، حتى لو اقتضى الأمر التنازل عن بعض الفرعيات غير الأساسية ..
وهذا لا يعتبر من الضعف ، بل هو من الحكمة وفقه المراحل …
بل قد يجب عليه إذا تأكد الخطر على الدعوة ، أن يلغي كل فقرات الإثارة من خطابه الدعوي والسياسي والإعلامي .
هذا الفقه يعلمنا إياه إمام الدعاة ، وقدوة القادة ، محمد صلى الله عليه وسلم .. الذي خاطبه ربه في هذه المرحلة بقوله :
((ولا تجهر بصلاتك ، ولا تخافت بها ، وابتغ بين ذلك سبيلا )) الإسراء(110).
ولقد طلب منه المشركون أن يخفف قرع القرآن في الحرم لكي لا يؤذيهم ، وأن يكف عن سب آلهتهم ، فماذا كان موقفه .!؟
قال ابن هشام : لقي أبو جهل رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال له: يا محمد ، لتتركن سب آلهتنا ، أو لنسبنَّ إلهك الذي تعبد .
فأنزل الله : ((ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله ، فيسبوا الله عدواً بغير علم )). الأنعام(108).
فكـفَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عـن سب آلهتهـم ، وجعـل يدعوهـم إلى الإسلام فقط … هشام1 ( 357 ).
لقد كان حريصاً أن يسمع صوت القرآن إلى أقصى أرجاء الأرض . وأن يصدح بالحق ، كل الحق ، إلى أرجاء الدنيا .
ولكن الإرادة والرغبة شيء ، والقدرة والإمكان شيء آخر ، وهو اليوم مستضعف … والظرف ليس ظرف عناد ، والمرحلة ليست مرحلة تحدي .. إن المرحلة مرحلة صبر ، وحكمة ، وهدوء .
فلا مناص ، إذاً ، من تخفيض صوت القرآن في الحرم حتى لا ينزعج الشرك ، ويتأفف الكفر .!
كما لامناص أيضاً ، من تخفيض لهجة التحدي في الخطاب الإعلامي والسياسي الذي كان يمارسه أبو طالب في قصائده الغراء …
وها هو ذا أبو طالب – في أواخر أيامه – يتحول في خطابه ، من التحدي الذي كان يغلب عليه سابقاً ، إلى المدح واللين والاستعطاف . فكأنه يوصي قريشاً بابن أخيه ، قبل أن يغادرهم إلى الأبد .
جزى الله رهطاً بالحُجون تبايعوا علـى ملأ يهـدي لحزم ويرشدُ
من الأكرمين من لؤيِّ بن غالبٍ إذا سيم خسفاً وجهــه يتربـدُ
عظيمُ الرمادِ سيـدٌ وابـنُ سيدٍ يحضُّ على مقري الضيوف ويحشدُ
ويـبني لأبناء العشيرة صالحاً إذا نحن طفنـا في البـلاد ويمهدُ
2. المزيد من الصبر .. وضبط النفس :
بالرغم من أن الأمور كانت قد وصلت إلى حد لا يطاق .
وهذا ما نفهمه من رواية ابن عباس التي قال فيها : حتى إن الجُعل ليمر بالواحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو تحـت التعذيب ، فيقولـون له : أهذا الجُعل إلـهك مـن دون الله ؟
فيقول : نعم . افتداءً منهم مما يبلغون من جهده .
بالرغم من كل ذلك .. إلا أن التاريخ والسير لم تسجل لنا حالة تمرد واحدة ، ولم تتشكل مجموعات مسلحة ، ولا طلائع مقاتلة .!
ولا خرج جندي واحد عن خطة قيادته المرسومة .!
بل كان القرآن المكي يثقفهم على غير ذلك تماماً ..
كان يقول لهم : هذا هو طريق الدعاة ، فمن أراد أن يتشرف بالسير عليه ، فليرتفع الى آفاقه .. ومن تعب ، فليخرج بهدوء من الصف ، وبدون حركات بهلوانية ، قد تؤثر على مصير الجماعة والأمة .!
هذا هو طريق نوح ، فهل انتم أكرم على الله من نوح عليه السلام.!؟
لقد صبر ألف سنة إلا خمسين عاماً ، فلم يضجر ، ولم يسأم ، ولم يفجر الموقف ، ويخرج عن الخطة ، ويحرق المراحل ، ويتمرد على السنن والنواميس .! وهؤلاء هم : هود ، وصالح ، وإبراهيم ، ولوط، وشعيب ، وموسى ، وهارون ، وعيسى ، ومحمد ، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين …صبروا على ما أوذوا ، وتحملوا ، حتى أذن الله لهم بالفرج ، وأكرمهم بالنصر ، وهو أرحم الراحمين …
3. تمتين الصف الداخلي ، ووحدة الكلمة :
من السمات التي برزت بوضوح في هذه المرحلة الصعبة هو : ازدياد التكاتف ، وتنامي التعاطف ، وشيوع التعاون والتناصر بين المسلمين ..
ولقد كان القدوة في ذلك طبعاً هو الرسول القائد صلى الله عليه وسلم.
فبحضوره الراسخ ، ومتابعته الدؤوبة لأصحابه ، وتفقده الدائم لهم، والسؤال المستمر عنهم ، والتطواف النشط على أماكن سكناهم ، للوقوف على أحوالهم عن كثب … كان يرسي دعائم تربوية رائعة، ما أحوج الدعاة والقادة اليوم إلى أن يدرسوها ، ويتعلموا منها ، ويقتدوا بها ، ويطبقوها .!
قال ابن اسحق : وكان بنو مخزوم يخرجون بعمار بن ياسر ، وبأبيه وأمه ، وكانوا أهل بيت إسلام ، إذا حميت الظهيرة ، يعذبونهم برمضاء مكة ، فيمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول لهم :
(( صبراً آل ياسر ، فان موعدكم الجنة )) . هشام1 ( 320).
وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، وهو من أنجب تلاميذ هذا النبي العظيم ، يفعل ذلك أيضاً ..
فهو الذي طاف على بني جمح وهم يعذبون بلالاً فأعتقه ، ثم أعتق معه على الإسلام ست رقاب ، بلال سابعهم .. حتى لامه أبوه ، أبو قحافة على ذلك .
قال ابن اسحق : قال أبو قحافة لأبي بكر : يا بني ، إني أراك تعتق رقاباً ضعافاً ، فلو أنك إذ فعلت ما فعلت ، أعتقت رجالاً جلداً يمنعونك ويقومون دونك.!؟ قال : فقال أبو بكر رضي الله عنه :
يا أبت ، إني إنما أريد ما أريد ، لله عز وجل …
قال : فيتُحدث أنه ما نزلت هذه الآيات إلا به :
(( فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى )) .
إلى قوله: ((وما لأحد عنده من نعمة تجزى ، إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ، ولسوف يرضى )) سورة الليل . هشام1 (319)
4. تفتيت جبهة العدو :
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم ، يعمل جاهداً في هذه المرحلة على تفتيت جبهة العدو، ليتمكن من النفاذ منها ، بعد أن اشتدت عليه المحنة ، وتجمد حوله الموقف… وكان يسلك إلى ذلك سبلاً متعددة : فالصبر الجميل ، والتمسك بالمبدأ ، والثبات على الخطة ، هي من أهم المعاول التي استخدمها لكسر حاجز الحصار.
والأخلاق الفاضلة ، والمعاملة الحسنة ، واللهجة الإعلامية الودودة والمستعطفة ، كانت كذلك من أهم وسائله في كسب ود الناس ، والتخفيف من حنقهم وحسدهم . ولقد آتت فعلاً هذه الوسائل أُكُلها .. فقد بدأ الخلاف يدب في صفوف المشركين ، وبدأت قبضتهم على المسلمين تضعف شيئاً فشيئاً ..
يقول ابن هشام : كان أبو جهل بن هشام لقي حكيم بن حزام بن خويلد ومعه غلام يحمل قمحاً يريد به عمته خديجة بنت خويلد ، وهي محاصرة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الشعب ، فتعلق به ، وقال ، أتذهب بالطعام إلى بني هاشم ؟
والله لا تبرح أنت وطعامك حتى أفضحك بمكة . فجاء أبو البختري بن هشام فقال لأبي جهل : مالك وله ؟ قال : يحمل الطعام إلى بني هاشم ، فقال له أبو البختري : طعام كان لعمته عنده بعثت إليه فيه ، أفتمنعه أن يأتيها بطعامها ؟ خل سبيل الرجل ، فأبى أبو جهل ، حتى نال أحدهما من صاحبه ، فأخذ أبو البختري لحي بعير فضربه فشجه ووطئه وطأً شديداً ، وحمزة بن عبد المطلب قريب يرى ذلك ، وهم يكرهون أن يبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فيشمتوا بهم . ثم ما لبث هذا الخلاف أن كبر وتنامى ، حتى اجتمع نفر من كبراء المشركين وتعاهدوا على تمزيق هذه الصحيفة الظالمة، وأخرجوا المسلمين من هذا الحصار الجائر … هشام1 (354 ).
5. البحث عن قاعدة أخرى آمنة للدعوة :
ولما وصلت الأمور إلى هذا الحد .. بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم وبشكل جدي ، يبحث عن قاعدة آمنة للدعوة غير مكة ، تكون قاعدة انطلاق للمسلمين ، يدعون فيها إلى ربهم ، و يأمنون فيها على عقيدتهم ، و يتمكنون من أداء عباداتهم ، وتكون قاعدة احتياطية يحفظ بها إخوانه وأصحابه ، واضعا في خطته كل الاحتمالات الممكنة … وكانت الهجرة …