تعلمت القراءة قبل الكتابة، لو يعلمون !؟
أزمة حقيقية تعيشها أمتنا لخصها البعض يوماً بقوله إن أمة اقرأ لا تقرأ . وأضاف آخرون : وما كل من قرا درى، وهذا عنوان الأزمة الحقيقية التي تعيشها الأمة اليوم ..كان القدماء يلخصون الأزمة بقولهم : أقول زيدا فيسمع بكرا ويكتب عمرا ويقرأ بشرا ..
ختمت قراءة القرآن الكريم من الفاتحة إلى الناس وأنا ابن ست سنين . وما زلت رغم أنني غادرت زاويته في السادسة ، أعي من الإيجابيات القيمية الرفيعة للشيخ خالد رفيع الذي ختمت القرآن الكريم في زاويته ما يجعلني ألهج بالإشادة به والترحم عليه فقد كان برا رحيما حليما رفيقا .
موقفي الموقر للشيخ خالد رفيع أوجد فجوة بيني وبين عبد القادر المازني الذي أضحكني كثيرا في كتابه صندوق الدنيا ، ثم عكر علي بما كتب عن شيخ الكتاب ، ووضعه صاحب دسيسة في منهاج كتاب القراءة في الصف السادس .
لم يكن الشيخ خالد رحمه الله وهو البر العفيف يلتهم غداءنا كما زعم المازني ، بل كان يقف على رؤوسنا إذا فتحنا صرر الغداء المتفاوتة فيما بينها فيعيننا على تناول الوجبة ، وتقشير البرتقالة ، ثم إذا وجد فرصة لم يقصر في إشاعة نوع من التكافل بين صرة وصرة مستأذنا وبعد أن يتأكد أن صاحب الحق الأول قد استوفى ..
أحيانا أقول لنفسي أنموذج أو أنموذجان تجعلك تحب وربما أخرى مثلها تجعلك تكره . وأكرر : ربنا لا تجعلنا فتنة لا للذين كفروا ولا للذين آمنوا.
وبعد أن ختمت القرآن الكريم وكان عامة من يختمه في زاوية الشيخ أطفالا ناهزوا أو بلغوا وكنت أنا في السادسة ، وذهبت بي والدتي إلى المدرسة الابتدائية فرددت عنها لصغر سني ، ثم ذهبت بي إلى روضة من رياض الأطفال ، فأعجبني فيها الجرس والفرصة والمرجوحة ، وعافتها نفسي وأنا في السادسة لأمرين ؛ أن المعلمة التي كانت تعلمنا فيها كانت تخرج مكشوفة الوجه وكان هذا من الكبائر التي يدور عليها أمر الدين في عالم الطفل الصغير القادم من رحاب زاوية تعليم القرآن ، ولأنني لم أجد فيها أي في الروضة أي غنى معرفي ، قلت لوالدتي : لن أذهب .. ماذا يعلموننا ؟ دادا .. بابا .. ماما
وسمع الشيخ خالد من أهل الحي أن الطفل الذي ختم القرآن في زاويته صغيرا قد جلس في البيت بلا تعلم ولا تعليم ..
فأرسل محتفيا عن طريق بعض الجيرة : إذا بقي زهير هكذا سينسى أرسلوه إلى الزاوية يعلم الأطفال القراءة وبدون دفع " الخمسية " وهكذا كان . وبقيت سنة كاملة في زاوية الشيخ خالد ، أجلس من فوق ، أي من جهة الجدار ، وهو مجلس المعلم أقرئ التلاميذ الآخرين السور التي يحددها الشيخ لي .
خرجت من مكتب الشيخ خالد إلى المدرسة الابتدائية منذ الصف الأول وحتى الثاني الإعدادي وأنا ضابط قراءة الطلاب في مادتي القرآن والقراءة . حيث غالبا ما يؤثر المعلمون أن يعينوا مصححا ومتابعا لقراءة الطلاب الآخرين ، ويتشاغلون ببعض شؤونهم في دروس القراءة التي يعتبرونها مملة ..
حتى الآن لم أصل إلى اللحظة التي تعلمت فيها القراءة بالمعنى العلمي والتي أرى الكثير من المتعلمين والنخب وحملة الدالات الكبيرة يجهلونها حتى اليوم فترسل رسالة تذكر بها ببكر فيرد عليك آخر لماذا تتحدث عن عمرو ..
أول درس وأجمله تعلمت فيه القراءة العلمية للنص كان على يد عالم آخر من علماء حلب الشهباء ..
كنت طالبا في الثانوية ، ومررت بحلقة علم في مسجد بعيد عن حينا ، يدرس شيخها " جوهرة التوحيد " . أعجبني الدرس وتعلقت نفسي بالعبارة القويمة الجميلة التي لخصت علم التوحيد والتي كان الشيخ في تلك الحلقة يبدئ ويعيد في شرحها : الله واحد في ذاته ، واحد في صفاته ، واحد في أفعاله ..
كانت علاقتي بإمام مسجد حينا الشيخ "محمد عبد المحسن حداد " ذات خصوصية . وكان مسجد حينا في الأصل مدرسة ، فيها غرف متعددة ، وكان لإمام المسجد عليّة يرتاح فيها ، وكنا كثيرا ما نلتقي عليه في تلك العلية .
في تلك العلية مثلا كان يحضر الشيخ الشهيد محمد خير زيتوني بنفسه الكبيرة وطموحاته المفتوحة في نصرة الإسلام والمسلمين ، وكان يحضر الشيخ الشهيد أحمد فيصل الشهابي ، وآخرون وآخرون وكانت هذه اللقاءات محطات للتذاكر في شأن الإسلام والمسلمين وما يجري في المدينة وعليها ..
حين أسررت للشيخ محمد عبد المحسن رحمه الله بما حضرت من حلقة في علم التوحيد ، وتطلعي إلى قراءة هذا العلم وإشفاقي من بعد المسافة إلى حي الأنصاري لحضور تلك الحلقة مع تضارب ذلك مع دوامي المدرسي . عرض عليّ أن يقرئني هذا العلم وأن يعينني على السير فيه .
قلت : أنا أقرأ في قواعد العقائد من المجلد الأول من إحياء علوم الدين .
فقال على بركة الله وحددنا يومين في الأسبوع بعد صلاة العصر نرقى العلية ونقرأ ...
كيف تعلمت القراءة من جديد ..
كان درس القراءة على الشيخ محمد عبد المحسن رحمه الله تعالى وخلفه في ذريته خيرا أشبه بالدرس الخصوصي فأنا التلميذ الوحيد الذي يحضر الدرس .
كان يقول لي : اقرأ ..
فإذا قرأت سطرين أو ثلاثة ، قال حسبك ..
ثم التفت يسألني : ماذا فهمت ؟
ويسألني عن المعنى المضاف الجديد ، ويسألني عن العبارة والمعنى المستفاد منها ، والجملة نحوها ، والكلمة وصرفها ، وعن أي حرف من أحرف المعاني ودلالته كما يسألني عن الحقيقة والمجاز والمشبه والمشبه به والاستعارة والكناية .. وبعض هذه العلوم لم نكن قد ارتقينا إليها في تعليمنا المدرسي. يسألني ، ويتلطف بي ، ويصبر عليّ ويحثني لأصل إلى المقصود بنفسي ويقرب لي ما صعب علي .
وفي كل مرة ننتقل من سطر إلى سطر جديد يسألني : أين محطُّ الكلام ؟ العبارة التي لم أسمعها من غيره من قبل .
ومحط الكلام تعني القصد الدقيق للكاتب أو القائل من كلامه وليس ما يهوم فيه القارئ مع المهومين .
محط الكلام يعني أن للغة دلالات رياضة حدية ليس لقارئ الكلمات أن يتقدم في فهمها أو يتأخر .
محط الكلام يمثل حقيقة أن النص إذا خرج انفصل عن قائله أصبح حقيقة قائمة بذاتها . تشهد لصاحبها أو تشهد عليه . ليس لصاحبه أن يقول بعدُ : قصدي ولا لمتلق أن يقول له : قصدك ..
قرأت على الشيخ رحمه الله تعالى رسالة قواعد العقائد فتعلمت قواعد القراءة ودقائقها وتكنيك الكتابة ، وكيف تطلق عبارتك وأين تقيدها وما دلالة الجملة واللفظ والحرف ...
ولكن بقي من علم القراءة العزيز آفاق كنت محتاجا فيها إلى المزيد . وقبل أن تكون قارئا حقيقيا يفقه عن الكاتبين ماذا يكتبون لن تكون كاتبا ولو كما قالوا لطخت ثوبك بالمداد .. ولو لطخت ثوبك ولن أردد القول الذي قالوا ...
وسوم: العدد 815