الإسلام والحماسة غير المبصرة

حيدر قفه

الإسلام دين حضاري، أقره الله في الأرض ليحيي الناس ويسعدهم، فكان الشريعة السمحة الباقية إلى قيام الساعة.

هذه الشريعة السمحة لها أعداء كُثر، إلا أنهم ينقسمون إلى قسمين رئيسيين: أعداء خارجون، وأعداء داخليون.

أما الأعداء الخارجيون فهم كل من يكره الإسلام، ولا يريد له أن يهيمن على الحياة كالكافرين، والمشركين، والملحدين، والعلمانيين، واليهود، والنصارى... وغيرهم.

وأما الأعداء الداخليون فهم من أبناء الإسلام نفسه، المحبون له، لكنهم يسيئون إليه، وهؤلاء منهم: أهل الجهل، وأهل الأهواء. أما أهل الجهل فهم الأهون أمراً، لأنهم إذا عُلِّموا عَلِموا وارتدعوا، فإن أصروا – بعد علم – فهم من أهل الأهواء. وأهل الأهواء هم الذين يخالفون الإسلام ويسيئون إليه تحقيقاً لأهوائهم، وهم من عناهم الله تبارك وتعالى، وهؤلاء أهل ممارة ومماحكة وجدل.

أمر الله نبيه (r) ومن بعده المؤمنين والمسلمين بمجاهدة هؤلاء وهؤلاء جميعاً – أعداء الخارج وأعداء الداخل – حفاظاً على نقاء الشريعة وبقاء الإسلام.

وكانت مجاهدة النبي (r) ومن معه من الصحابة لأعداء الخارج، بالدعوة الصادقة، والنصح البين، والجدل المفيد، والرفق في كل أمر، حتى إذا استحكم العناد والجهل جاءت مرحلة القتال للدفاع عن النفس، ولمنع هؤلاء من الصد عن سبيل الله بالقوة، فكان السلاح مقابل السلاح.

أما أعداء الداخل فكانت مجاهدتهم، بالبيان، والتوضيح، وإثارة الإيمان، والمحاورة الهادفة، ومِنَ ثَمَّ الحزم الذي لا يشوبه ليونة أقرب للمداهنة منها إلى إحقاق الحق.

ونحن – في هذه الدراسة – لن نتحدث عن أعداء الخارج لظهورهم ووضوحهم واستعلان كيدهم، ولكننا سنقصر بحثنا عن أعداء الداخل، وكيف تعامل معهم الإسلام، ليبقى الإسلام والشريعة على درجة عالية من النقاء والصفاء.

وأعداء الداخل هؤلاء هم ممن عناهم الله تعالى بقوله: (ﮓﮔ ﮕ ﮘﮙ )([2])  ، وقوله تعالى: ( ﭺ)([3])   ، ذلك أن الأعمال المقبولة عند الله لها شروط كما قال الفُضَيْلُ بْنُ عِيَاض: العمل الحسن أخلصه وأصوبه، قالوا: يا أبا عليّ ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً، لم يقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً؛ لم يقبل، حتى يكون خالصاً صواباً، والخالص ما كان لله، والصواب ما كان على السنة([4]).

لذا، كان الخوف على المسلمين من الوقوع في هذه الهوة بفعل الحماسة غير المبصرة، والجهل بحقيقة هذا الدين، فكيف كان العلاج.

في حياة الرسول (r):

كان الرسول (r) في حياته حارساً أميناً لهذا الدين، فلا يقبل أي انحراف فيه من أتباعه، وكان (r) لا تأخذه في الله لومةُ لائم، ولا تهزه غضبة أحد، وكان لا يسكت على خطأ وإن كان من أقرب الناس إليه. ولا بد لنا من نماذج تؤكد ما ذهبنا إليه، وهذه بعضها:

1-    عن جابر بن عبد الله (رضي الله عنهما) أن عمر بن الخطاب (t) أتى النبي (r) بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب، فقرأه النبيَّ (r) فغضب فقال:

2-    "أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب، والذي نفسي بيده، لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به، أو بباطل فتصدقوا به، والذي نفسي بيده لو أن موسى – r  - كان حياً ما وسعه إلا أن يتبعني"([5]).

فهذا عمر بن الخطاب (t) تقع في يده ورقة أو نسخة من التوراة، ولما كانوا أهل كفر وجاهلية، وينظرون إلى أهل الكتاب بتقدير وإعجاب، ظن عمر أن ما وجده من كلام بين يديه قد يساعد فيما هم فيه من الإيمان والعقيدة في مقابل الكفر، وأنه لا غبار أن يجمع بين تعليمات التوراة وتعليمات القرآن طالما أنهما من مشكاة واحدة، وأهلها أهل كتاب، فكانت فرحته بما حصل عليه، وإقباله يقرأ على رسول الله (r) ما وجد. ولو أن النبي (r) تركه، ولم يعترض عليه، لضل عمر (t) وكان ممن ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صُنْعَاً. لكن النبي (r) ثار وغضب. وبين له ولأصحابه ولأمته من بعده أن الإسلام دين مستقل متكامل لا حاجة به لأن يستمد مؤيداته من كتب أخرى، ولو كانت التوراة والإنجيل، فكان موقفاً حاسماً حازماً في توحيد مصدر التلقي. ولو أن النبي (r) مالأ أو داهن أو سكت لضلت الأمة من بعد عمر، ولتجرأ الناس على ضم تعليمات التوراة والإنجيل إلى القرآن، ولربما نافست هذه التعليماتُ آيات القرآن في نفوس أصحاب الأهواء، ولشكلت عندهم المرجع عند تعارض القرآن مع مصالحهم، ولضاع الإسلام بعدئذ لكثرة التعارض والتناقض والاختلاف، ولتفرق المسلمون مزقاً، كل حزب بما لديهم فرحون. فكان موقف النبي (r) وحزمه مانعاً من فتح باب الشر، وباب فتنة عظيمة تعصف بأصول هذا الدين.

3-    عن أنس (t) قال: جاء ثلاثة رهط إلى أزواج النبي (r) يسألون عن عبادة النبي (r) فلما أُخبروا بها كأنهم تقالُّوها؛ فقالوا: أين نحن من النبي (r)، وقد غَفَرَ الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟! فقال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبداً، وقال الآخر: أنا أصوم النهار أبداً، ولا أفطر، وقال الآخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً، فجاء النبي (r) فقال: "أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟! أما والله إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني"([6]).

هذه مجموعة من شباب الإسلام، منهم الصحابي الجليل عبد الله بن عمرو بن العاص (رضي الله عنهما) تأخذهم حالة روحانية عالية من الإقبال على الله، فيذهبون إلى بيوت النبي (r) يتعرفون دخيلة حياته، مستفسرين عن عبادته، فلما أخبروا بها، شعروا أنها قليلة، ودون طموح الروحانية العالية التي تتلبسهم الآن، ثم رجعوا إلى أنفسهم، واستدركوا أن النبي (r) قد سبقت له من الله منزلة، فهو في ظلالها مستريح قليل العبادة، أما هم، فليس لهم إِلَّا التشمير عن الأيدي والسوق في عبادة الله، ولو حرمتهم من متع الحياة، بل قد يكون تَلَبَّسَ عليهم أن متع الحياة ذاتها إثم يجب مقاومته.

هذا الموقف منهم أملته عليهم حماسة غير مبصرة، عززها في نفوسهم عنفوان الشباب، وحداثة السن.

ولو أن النبي (r) تركهم ولم يعترض عليهم، لضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، ولضاقت بهم الحياة أو ضاقوا بها، ولنشأ في الإسلام رهابنية أشد مما هي عند النصارى، ولما استطاعوا الاستمرار عليها، ولوقعوا في المحرم بعد ذلك – لأنها مخالفة للفطرة التي فطر الله الناس عليها –([7]) ولشرعوا لأنفسهم ولمن بعدهم شريعة لم يأذن الله بها، فكانت وقْفَة النبي (r) الحازمة منهم، حتى لا يقعوا في ضلال التطبيق مما يعنتهم إذا فترت العزائم وبردت الهمم. فبين لهم أن الإسلام دين لا يحرم متع الحياة التي أحلها الله لعباده، وأن المسلم يجب عليه أن يتعايش مع الحياة دون الإضرار بنفسه أو بأحد ممن يشاركه الحياة على هذه الأرض. وهذه سنة نبيكم (r)، فمن ابتدع لنفسه سنة غير سنة نبيه (r) فهو ليس من الإسلام في شيء، وليس من النبي (r) في شيء، مهما تزيا عمله بزي التقوى، فالأعمال بحقائقها لا بمظاهرها وحسب.

4-        أ-    عن أنس (t) قال: دخل النبي (r) فإذا حبل ممدود بين ساريتين، فقال: "ما هذا الحبل؟" قالوا: هذا حبلٌ لزينب، فإذا فترت تعلقت به. فقال النبي (r):"حُلُّوهُ، ليصل أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليرقد"([8]).

         ب- عن ابن عباس (رضي الله عنهما) قال: بينما النبي (r) يخطب، إذ هو برجل قائم فسأل عنه فقالوا: أبو إسرائيل، نذر أن يقوم في الشمس ولا يقعد، ولا يستظل، ولا يتكلم، ويصوم. فقال النبي (r): "مروه فليتكلم، وليستظل، وليقعد، وليتم صومه"([9]).

صور فردية، لأشخاص غلبت عليهم الحماسة، فاجتهدوا في العبادة اجتهاداً يضر بأجسادهم، ويورثهم الأسقام والأوجاع، ويعقب لهم السأم والملل، وهم يحسبون أن ذلك يقربهم إلى الله أكثر. لكن رسول الله (r) الأقرب إلى الله، والأفهم لما جاء به من شريعة، والأرحم بالمؤمنين من أنفسهم، والأحرص عليهم وعلى مستقبلهم([10]) رفض هذا النهج في العبادة، وأرشدهم للصواب والاعتدال، فالله أغنى من أن يعذب عباده.

ولو أنه تركهم وما يتوهمون من صواب لضلوا، وكانوا من الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صُنْعَاً، ولضلت الأمة بعدهم، ولنشأ في الإسلام نظام تعذيب النفس كما عند الهنود وغيرهم، من ممارسة النوم على المسامير، والجلوس بلا حراك ساعات طويلة، والصيام الطويل، وما شابه ذلك من رياضات جسدية ونفسية.

ولا نريد الاستسرسال في سوق الأمثلة والنماذج التي حدثت في حياة الرعيل الأول إبان حياة النبي (r) وكيف عالجها النبي (r) فإن شرح ذلك يطول، وحسبنا ما ذكرنا لنقف على أهمية هذه المسألة في حياة النبي (r) وصحابته الكرام (رضوان الله عليهم) ومن ثم أمته بعد ذلك.

بعد موت الرسول (r):

قلنا: إن النبي (r) كان في حياته حارساً أميناً على هذه الشريعة، فمن يتولى ذلك بعد موته؟. من خلال معايشتنا للنصوص ندرك أن هذه المهمة أنيطت بالعلماء العدول المبصرين للسنة العارفين بالانحراف عنها ولو كان يسيراً، فقد قال رسول الله (r): "... وإن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم..."([11])، وقال أيضاً (r): "يحمل هذا العلم من كل خلف عُدُولُه، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين"([12]).

إذن فالعلماء هم الحراس على هذه الشريعة، المدافعون عنها، الحامون لها من أصحاب الجهل والهوى والضلالات، وقد أخذ الله عليهم الميثاق بالبيان والتوضيح والجهاد، فمن قصر فقد أساء لنفسه وللإسلام وللناس، إلا أن يكون له عذر أو تأويل، وكل حالة تقدر بقدرها، والمحَاسِبُ ربُّ العالمين الذي لا يكلف الأنفس إلا وسعها.

الضلالات والموقف منها:

وقد حرص الإسلام على نقاء هذه الشريعة، فكانت نصوصه منبهة لخطورة الأمر، فقد قال رسول الله (r): "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رَدٌّ "([13]) أي مردود وغير مقبول. وقال أيضاً: "... ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا يَنْقُصُ ذلك من آثامهم شيئاً "([14]).

وقد تنبه العلماء – ورثة الأنبياء – إلى خطورة هذا الأمر، فكان موقفهم من

 البدع وضلالاتها واضحاً جلياً لا لبس فيه، فهذا أبو سليمان الدارني يقول: ليس لمن أُلهم شيئاً من الخيرات أن يعمل به حتى يسمعه من الأثر "([15])، أي دليل من القرآن

أو السُّنَّةِ أو فعل الصحابة – رضوان الله عليهم -. ويقول أبو عُبيد: المتبع السُّنَّة كالقابض على الجمر، هو اليوم عندي أفضل من ضرب السيوف في سبيل الله "([16])، ويقول يحيى بن معين: الذَّبُّ عن السُّنة أفضل من الجهاد في سبيل الله، فقلت (أي محمد بن يحيى الذهلي): الرجل ينفق ماله، ويتعب نفسه، ويجاهد، فهذا أفضل منه؟! قال: نعم بكثير"([17])، وقد يتعجب البعض لهذه الأقوال التي ترفع قدر الجهاد في تثبيت السُّنة والذب عنها ضد البدع والأهواء والضلال فوق قدر جهاد الأعداء بالسيوف والنصال وسائر فنون القتال، لكن العجب يزول عندما يعلم أن الجهاد الثاني ركن عظيم من أركان الإسلام، بينما السُّنَّة نفسها هي الإسلام نفسه، حيث أن خلخلتها أو تمييعها أو تبديلها نسف للإسلام من أساسه، حيث لا يفهم القرآن إلا بالسنة، ولا يستقل القرآن بنفسه بعيداً عن السنة، فشتان بين التقصير في الدفاع عن ركن من أركان الإسلام، والدفاع عن الإسلام كله.

نموذج من ضلالات الهوى المعاصرة:

بَكَّرتُ يوماً لصلاة الجمعة – كما هي السنة – إلا أنني اخترت مسجداً آخر غير الذي ألفته وعُرفتُ فيه – وهي حالة تتلبسني في بعض الأوقات فأهرب طلباً لخمود الذِّكْرِ وصفاء الروح -  فوجدت شاباً حدثاً غراً قد فتح مسجلته أمام مكبر الصوت، يذيع قرآناً، وقد ملأ الصوت جنبات الأحياء المجاورة، وقد تجاوزها بفعل الريح إلى أحياء أبعد، فضلاً عن الصوت داخل المسجد نفسه، ووجدت مجموعة من الشيوخ كبار السن الذين من دأبهم التبكير إلى الصلاة، بعضهم يصلي، والبعض يقرأ القرآن من مصحف بين يديه، وآخرون صامتون. فلما دخلت وصليت ركعتي تحية المسجد، طلبت من الشاب أن يغلق مسجلته، فاستنكر ذلك، فكيف لشيخ مثلي يطلب هذا؟ ولما قلت له: إنها بدعة، زاد استنكاره وتجهيله لي، إلا أن سمتي وهيأتي – وقد حباني الله بقدر من الوسامة والهيبة –وله الفضلُ والمِـنَّـةُ – جعل شيوخ الحي يظنون أنني مسؤول كبير في وزارة الأوقاف، فألزموه بإغلاق المسجلة.

وحدث في المسجد الذي ألفت الصلاة فيه، أن خادم المسجد ومؤذنه وإمامه جعل يفتح مكبر الصوت قبل الأذان بنصف ساعة – وفي هذا الوقت تكون إذاعة الأذان تبث قرآناً – ويذهب لبعض شأنه، معتمداً على أن بعض من في المسجد سيغلق (الميكرفون) إذا انتهى الأذان، فكان محركه لهذا الفعل هوى النفس. فلما روجع في الأمر، نفخ الشيطان في سَحَرِهِ، فتنطع في الدفاع عن إذاعة القرآن عبر مكبرات الصوت حتى يسمع أهل السوق والجيران كلام الله – هكذا بالإكراه – فأيقنت أن الشيطان تلبسه. وزاد الطين بلة أن رواد المسجد لم ينكروا عليه هذا الفعل، بل أن بعض من ندب نفسه لفتح مكبرات الصوت وإغلاقها، أخذ يقلده فيفتحها مبكراً للغرض نفسه، فأيقنت أن البدعة سَتَسْتَشْرِي، وستنتقل من شخص لآخر، وربما من مسجد إلى آخر، وتمسي قناعة دينية عند البعض، وتحتاج عندئذ إلى جهود جبارة لإبطالها، فعزمت على معالجة المشكلة علاجاً علمياً، يقنع هؤلاء إن كانوا جاهلين، ويردعهم إن كانوا أصحاب هوى، ويوضح للسواد الأعظم من رواد المسجد، وغيره من المساجد أنها بدعة حقيقة لا تخدم الإسلام ولا تزيد في التدين بله الإضرار بالإسلام وإثارة الأحقاد على أهل المساجد.

ضلالة إذاعة القرآن عبر مكبرات الصوت في المساجد:

وهذه الضلالة مدفوعة من عدة وجوه:

أولاً:       أن النبي (r) لم يأمر أن يصعد قارئ أو مؤذن فوق مرتفع – سطح أو مئذنة – فيقرأ القرآن قبل الأذان، ولم يُفعل ذلك في حياته فسكتَ وأَقَرَّ، ولم يفعله الخلفاء الراشدون من بعده، ولا أهل القرون الثلاثة الأولى. وقد صح عن النبي (r) أنه قال: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو ردٌ "([18])، فهذا الفعل مردود على من أحدثه.

ثانياً:        الإسلام دين حضاري، ومن حضارته أنه لا يؤذي أحداً، وقراءة القرآن وإن كان مستحبة ومندوب إليها، لكن ليس بهذه الطريقة، ولا تُفرض على الناس فرضاً، فقد يكون الناس مشغولين في أمور حياتهم ومعاشهم، فيشعرون بالحرج إن لم يستمعوا للقرآن وينصتوا له، وفي ذلك تعطيل لحياتهم لا يقبله الله. وقد يكون جار المسجد مريضاً في حاجة للنوم، وقد لا يتوصل إلى النوم إلا بجهد جهيد، فكيف نسوغ لأنفسنا إذاءه بحجة إسماعه "كلام ربنا"؟! وقد يكون جار المسجد في وضع لا يسمح له بسماع القرآن أو الإنصات له وتدبره بله الاستمتاع به، ولا سيما إن كان في المرحاض أو الحمام أو في خلوة مع أهله؟ وقد يكون جار المسجد ذمياً له عهد الله وذمة رسوله – مواطناً – فليس لأحد أن يبدأه بما يؤذيه بغض النظر في تقدير أو الاعتراف بأذية القرآن له من عدمه – من وجهة نظرنا نحن – ووجهة نظرنا – المسلمون – في هذا الأمر ليست ملزمة له.

وقد تكون هناك أعمال صارفة للناس عن متابعة القرآن، وفي هذا سخرية بالقرآن نفسه، حيث الانصراف عنه... إلخ هذه الافتراضات والاحتمالات.

ثالثاً:        القاعدة الشرعية " لا ضرر ولا ضرار " تدفع هذا الفعل وتبطله، لما تقدم من احتمالات.

رابعاً:     لو افترضنا – جدلاً – أن هناك فائدة مزعومة لإذاعة القرآن قبل الأذان عبر مكبرات الصوت – وقد تبين لنا عكس ذلك – وأن هناك مفسدة قد تنشأ عن هذا الفعل، فإن القاعدة الشرعية "درء المفاسد مقدم على جلب المصالح" تدرأ هذه البدعة المنكرة.

خامساً: أن هذا الفعل يعود بالضرر على الإسلام نفسه ولا يخدمه، ففي سبب نزول قوله تعالى: ( )([19])،  أن النبي (r) كان إذا صلى بأصحابه – وهو متوارٍ بمكة – قرأ القرآن، فيسمعه المشركون، فيسبون القرآن ومن أنزله ومن جاء به"([20])، وفي قوله تعالى: ( )([21])، قال العلماء: حكمها باقٍ في هذه الأمة على كل حال؛ فمتى كان الكافر في منعة وخيف أن يسب الإسلام أو النبي u أو الله عز وجل، فلا يحل لمسلم أن يسب صلبانهم ولا دينهم ولا كنائسهم، ولا يتعرض إلى ما يؤدي إلى ذلك، لأنه بمنزلة البعث على المعصية "([22])، وكما قدمنا، فإن قراءة القرآن وإذاعتها عبر مكبرات الصوت، والناس في حالة لا تسمح لهم بسماعه بله الاستمتاع به، قد تدفع مسلماً إلى الكفر، أو ذمياً إلى سب الله، ورسوله، والقرآن، والإسلام، والمسجد، ومن يؤمه... إلخ حتى ولو كان السب خفياً غير معلن، فإن الفعل نفسه – إذاعة القرآن عبر مكبرات الصوت – صد لهذا الذمي – وهو بهذه الحال – عن سبيل الله، فالأصل في الدعوة إلى الله أن تدخل قلوب المدعوين وهي مهيأة لقبولها، مع اللين والرفق وحسن العرض.

سادساً: أن هذا الفعل مردود أيضاً من باب "سد الذرائع" لأن استخدام مكبرات الصوت لغير الأذان والإقامة، قد يفتح الباب على مصراعيه لبدع أخرى ومخالفات واضحة للإسلام. ولقد رأيت وسمعت بأذنيَّ – في الأراضي المحتلة – استخدام مكبرات صوت المساجد لنشدان الضالة([23]) وفي ذلك مخالفة صريحة للإسلام، وقد نهى رسول الله (r) عن ذلك. وفي يقيني أن البلية حدثت بداية بإذاعة القرآن، ثم الدروس والخطب والمحاضرات، ثم الإنذار عند الغارات الحربية، ثم فقدان الأطفال الذين لا يدركون، ثم تطورت حتى بلغت نشدان العنز والديك والدجاجة – لا حول ولا قوة إلا بالله -.

لهذه الأسباب وغيرها،، نرى بدعية إذاعة القرآن عبر مكبرات الصوت من المساجد، وخطرها وضررها، ولذا يجب إفهام هؤلاء المبتدعة بالحسنى وبتقديم الأدلة لإزالة الغشاوة عن أعينهم، ورفع الجهالة عنهم، فإن أصروا فهم أهل أهواء وبدع يجب منعهم، والضرب على أيديهم، وإبعادهم عن مراكزهم التي يتسللون من خلالها لإفساد الإسلام على أهله، والإضرار به وبأمته. والحمد لله رب العالمين.

               

([1]) الجاثية: 23.

([2]) الكهف: 103-104.

([3]) الفرقان: 23.

([4]) مدارج السالكين 1/83-84.

([5]) رواه أحمد في المسند 3/387، وهنالك زيادات واختلافات في بعض الألفاظ، انظرها في مشكاة المصابيح 1/63، 68. وقال عنه الألباني: هو عندي حسن. متهوكون: متحيرون، متشككون.

([6]) متفق عليه. مشكاة المصابيح 1/52.

([7]) راجع إن شئت – مذكرات جان جاك روسو، وما فيها من انحرافات الراهبات والرهبان، وما ينشر في الصحف بين الحين والآخر حول ما يستجد من انحرافات في هذا المجال.

([8]) متفق عليه. رياض الصالحين ص 79.

([9]) رواه البخاري. رياض الصالحين ص 84.

([10]) وصفه الله تعالى بقوله: ( ) [التوبة: 128].

([11]) قطعة من حديث أبي الدرداء (t) رواه أبو داود والترمذي. رياض الصالحين ص 488.

([12]) رواه البيهقي، وهو مرسل، وقد صحت بعض طرقه. مشكاة المصابيح 1/82.

([13]) من حديث عائشة (رضي الله عنها) وهو متفق عليه. رياض الصالحين ص 92.

([14]) قطعة من حديث أبي هريرة (t). رواه مسلم. رياض الصالحين ص 95.

([15]) سير أعلام النبلاء 10/183.

([16])سير أعلام النبلاء 10/499.

([17]) سير أعلام النبلاء 10/518.

([18]) متفق عليه. وقد تقدم عزوه.

([19]) الإسراء: 110.

([20]) كما في الصحيحين من حديث أبي بشر جعفر بن إياس. تفسير ابن كثير 4/360.

([21]) الأنعام: 108.

([22]) تفسير القرطبي 7/61.

([23]) وقد سمعت ذلك أكثر من مئذنه أثناء زيارة لي، حتى بلغ الأمر الإعلان عن أوصاف عنز فقدت وهي لآل فلان. لا حول ولا قوة إلا بالله. قال رسول الله (r): " إذا رأيتم مَنْ يَبيعُ أو يَبْتَاعُ في المسجدِ، فقولوا: لا أربح الله تجارتك، وإِذَا رأيتم من يُنْشِدَ ضَالّةً، فقولوا: لا رَدَّهَا اللهُ عليك " رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. الترغيب والترهيب 1/203.