شيء في صدر الفتى
إحسان الفقيه
تقدم ذلك الطالب الذي تلمع عيناه إلى لجنة الامتحان الشفهي بدار العلوم، ليسأله رئيس اللجنة: ما أحسن بيت أعجبك في الشعر العربي؟
الطالب: قول طرفة بن العبد في معلقته:
إذا القوم قالوا من فتى؟ خلت أنني ** عنيت فلم أكسل ولم أتبلد
رئيس اللجنة: "إنني أتنبأ لك يا بني بمستقبل عظيم".
وكتب الفتى في موضوع الإنشاء عند تخرجه: "أعتقد أن خير النفوس تلك النفوس الطيبة التي ترى سعادتها في سعادة الناس وإرشادهم، وتعد التضحية في سبيل الإصلاح العام ربحاً وغنيمة والجهاد في الحق والهداية على وعورة طريقها راحة ولذة، وأعتقد أنه العمل الذي يتمتع بنتائجه العامل وغيره، وأعتقد أن أجل ّغاية التي يرمي الإنسان إليها، وأعظم ربح يربحه أن يحوز رضا الله".
لم يكن ذلك الفتى الفذ سوى الإمام حسن البنا رحمه الله مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، والذي اعتبره الكثيرون من المجددين المعاصرين.
*أشد ما جذبني لشخصية البنا وأنا أقرأ تفاصيل حياته، ذلك الشيء الذي يسطع في صدره ويظهر على كلماته، إنها تلك العاطفة الحية التي وُلد بها الرجل وعاش ومات، ولمّا تفارق خطبه ودروسه ومواقفه حتى آخر لحظاته.
تلك العاطفة التي قد لا تجد لها وزنا في عالم السياسة والأفكار، لكن هذا البعد العاطفي لدى البنا لا يستطيع امرؤ إنكار أنه قد جمّل عقلانيته وموضوعيته، لأن القائد في النهاية هو بشر مؤلف من جسد وروح.
العقل والحكمة والحزم وحسن الإدارة قد تدير بها جيشا، لكنك لن تستطيع أن تؤلف قلبا إلا بتلك العاطفة الحية الصادقة، وهو الشيء الذي كان واضحا في حياة الرجل الذي وجد مكانه في قلوب الملايين ولا يزال.
لقد كان لتلك العاطفة بجانب العمق المنهجي أثرها البالغ في انفتاح دعوة البنا على المجتمع المصري بكل أطيافه وشرائحه حتى امتدت دعوته إلى العالمية.
فلم ينغلق في قفص تنظيمه وجماعته، وإنما انصهر بمجتمعه بدافع الحرص ومحبة الخير للناس، فتجده بعد انتقاله إلى الإسماعيلية كمدرس حكومي للمرحلة الابتدائية، يبدأ دعوته في غير المسجد، نعم لم ينتظر إلى أن يغشى الناس مجلسا له في مسجد أو زاوية، لكنه قد انطلق بتلك العاطفة الحية والحرص على جمع الناس على الفكرة الإسلامية التي كانت ملامحها قد خفتت في ذلك العصر، فيعمد إلى مقهى يجتمع فيه فئام من العمال والموظفين.
الدخان المنبعث من النراجيل يملأ الأجواء، وصوت الضحكات يتعالى، وصوت الملاعق وهي تقلب السكر في أكواب الشاي ينبعث بصورة متتابعة، فما راع الجالسين سوى جمرة من إحدى النراجيل تطير في الهواء وتسقط بينهم.
وهنا ينبري الشاب حسن البنا والذي كان في مطلع عقده الثالث، بعد أن قذف الجمرة، وهو يعظهم ويذكرهم من خلال الحدث: إذا كانت هذه الجذوة الصغيرة قد بعثت فيكم الذعر إلى هذا الحدِّ، فكيف تفعلون إذا أحاطت النار بكم من كل جانب ومن فوقكم ومن تحت أرجلكم وحاصرتكم فلا تستطيعون ردَّها؟ وأنتم اليوم استطعتم الهرب من الجذوة الصغيرة فماذا أنتم فاعلون في نار جهنم ولا مهرب منها؟!
تلك العاطفة التي جعلته يتواصل مع جميع الفئات الصديق والخصم منهم، بل وشهد له خصومه بالنزاهة والشرف، ففي اليوم الذي أعدّ فيه (طه حسين) كتابا بعنوان "مستقبل الثقافة في مصر" قام البنا بنقده بمنتهى الموضوعية والأدب، مظهرا تناقضات الكتاب من خلال مقتطفات منه، أذهل ذلك الحاضرين بمن فيهم طه حسين الذي حضر اللقاء خلسة، فقال للبنا: لو كان أعدائي شرفاء مثلك لطأطأت رأسي لهم.
وحتى الفن تواصل البنا مع رواده ورموزه وكان له أبلغ الأثر في توجهاتهم الإسلامية مثل الفنان الراحل حسين صدقي والذي تأثر بفكر البنا وظهر ذلك من خلال أعماله الهادفة، بل إن البنا أراد أن يضع البديل الهادف للناس من خلال جماعته عندما أنشأ مسرحا تجسد عليه الأعمال الدرامية التي تخدم فكرته الإسلامية.
كان لهذه العاطفة الحية أثرها في إحياء فقه المقاومة، فقد كانت منطقة القناة لا تنقطع فيها العمليات الفدائية ضد الانجليز، ينفذها أعضاء جماعة البنا.
بل كان لهذه العاطفة الحية أثرها في التركيز على قضية فلسطين واعتبارها أم القضايا لدى البنا في ذلك الوقت، ولن ينسى التاريخ تلك البطولات الفذة التي شهد بها الأعداء لأبناء البنا على أرض فلسطين في حرب 1948.
ولقد اصطبغت كلماته وخطبه ومؤتمراته بتلك العاطفة، وفي ذلك يقول المستشار الهضيبي عن البنا: عرفته أوّل ما عرفته من غرس يده .. كان كالجدول الرقراق الهادئ ينساب فيه الماء .. لا علو ولا انخفاض .. يخاطب الشعور فيلهبه .. والقلب فيملؤه إيماناً .. والعقل فيسكب فيه من المعلومات ألواناً..
*وفي حادث اغتياله، ورغم أن الرصاص يخترق جسده بعدما فر الجُناة، ينشغل البنا برفيقه رغم جراحه، ويحمله إلى السيارة، وفي الإسعاف يحمله مرة أخرى من السيارة إلى الداخل، ورفض أن يتفقد طبيب الإسعاف جروحه قبل صاحبه، لتخرج روحه إلى بارئها بعد أن جاءتهم أوامر بتركه ينزف حتى الموت.
هذه العاطفة لا غنى لكل رئيس أو حاكم أو قائد أو رمز عنها فقط لمن يفقه معانيها، ومن يعرف أن الأتباع سواء كانوا شعبا أو جماعة أو هيئة، إنما هم من البشر، لا تؤلفهم الكلمات المجردة الجوفاء.
وربما ضيق المقام قد جعلنا نُجحف حق الرجل في الحديث عنه، لكنها لمحة خاطفة إلى شيء في حياته، أكتبها في حقه، رغم أنني لم أنتمِ يوما لجماعته أو لغيرها، لكنه رجل من بني قومي سار بالمبادئ والمعاني إلى المباني.