هكذا كانت أخلاق أهلنا في حلب
منذ نصف قرن كنت أسكن في بيت العائلة؛ في حي الجبيلة، وهو من أحياء حلب العريقة، وكانت دارا عربية مؤلفة من أربع غرف موزعة على دورين ، وذات شتاء وجدنا أن سطح الدور الثاني لا يصرف ماء المطر بسبب عطل في المزراب، فذهبت إلى السوق لأحضر من يصلحه فدلوني على شخص في أول بانقوسا ولمَّا وصلت إليه وجدته رجلا تجاوز الخمسين من العمر يجلس في دكان صغير يصنع البواري والأباريق والحصالات سلمت عليه وعرضت عليه المشكله فطلب مني الانتظار قليلا لينهي العمل الذي بيده .
وماهي إلا دقائق حتى أصبح جاهزا مع العدة، وقال لي هيا ! فتلكأت قليلا وأنا أكتم في نفسي شيئا! ـ وعلى عادتنا في ذلك الزمان ـ قلت له كم ستأخذ من الأجر على هذا العمل؟؟؟
التفت إلى وكأنه يعطيني درسا في الدين والأخلاق والأصاله يابني ! أنت صاحب حاجة ولا يوجد في البلد غيري يستطيع أن يقوم بها ، فأنا سأصلحها لك ولو لم تعطني قرشا واحدا، ثم استطرد قائلا في الفقه الإسلامي " إذا خلت بلد من بلاد المسلمين من صنعة ضرورية كان أهلها آثمون حتى تسد هذه الحاجة".
كانت هذه الكلمات المؤثرة بحاجة إلى فترة من الصمت لاستيعابها وفهمها، بل وجعلها أيقونة تحتذى، فهذه ليست شعارات ترفع للزينة، بل هو سلوك عملي أراه حيا يمشي على الأرض ، استمر هذا الصمت حتى وصلنا البيت وصعدنا إلى السطح الأعلى وبدأ الرجل بفحص المزراب .
ساورني قلق على هذا الرجل الكنز أن يصيبه مكروه وهو في بيتي و وأنا أراه يمد جسده الهزيل إلى الأسفل فأمسكت بقدميه لأثبت نصفه المستلقي على أرض السطح خشية السقوط ، فاعتدل في جلسته وقال: هل سطحك هذا أعلى أم المئذنه قلت بل المئذنة، فقال : كل المآذن في حلب اصعد على مظلتها وأصلح التوتياء المغطاة بها إذا حصل بها خلل.
وعندما انتهى من إصلاح المزراب طلب ليرات قليلة فأردت أن أعطيه أكثر تعبيرأ عن تقديري له و لجهوده،
رفض وقال أنا ولله الحمد ميسور الحال وأملك بستان فستق حلبي ولولا ما ذكرت لك من فرض الكفاية لما عملت
ودعني وانصرف ولكن صورته لم تغادر ذاكرتي منذ خمسين عاما.
وسوم: العدد 823