مفهوم المساواة والعدالة في منظومة الإمام علي (ع)
مركز آدم للدفاع عن الحقوق والحريات
إن الإمام علي (ع) انطلق صوتا للعدالة الإنسانية من قاعدة الإسلام، سواءً في القرآن الكريم، أو سنة الرسول (ص) ناهيك عن سمات الإمام الحميدة من الإيمان والتقوى، والمعطيات العلمية والفقيهة التي أدت إلى إقامته العدل بين الناس، والذي يعد الدعامة الرئيسة في إقامة المجتمع الإسلامي، والحكم الإسلامي، إذ لا وجود للإسلام في مجتمع يسوده الظلم ولا يعرف العدل.
حظي كل من مفهوم (المُساواة) ومفهوم (العدالة) بالأهمية البالغة، عند المجتمعات البشرية كافة، سواء أكان ذلك في تأريخها أو حاضرها، وستعنى بهما الأجيال القادمة قطعا، لأهميتهما في التعبير عن الكرامة الإنسانية؛ والحرية؛ والأمان؛ والاستقرار النفسي والمجتمعي.
والمُساواة في اللغة هي مصدر الفعل ساوى، يُقال: ساوى بين شخصين؛ أي أنه جعلهما متعادلين ومتماثلين، وساوى بين الناس يُقصد أنه عادَلَ بينهم وأصلح. والمُساواة في الاصطلاح هي أن يحصل المرء على ما يحصل عليه الآخرون من الحقوق، كما عليه ما عليهم من واجبات، دون أي زيادة أو نقصان، وهي قيمة عظيمة تجعل جميع الأطراف سواء.
أما العدل في اللغة هو ضِدّ الجَوْر، وهو في الحُكم أن يُثاب المرء على الحسنة بالحسنة، وعلى السيئة بالسيئة، وهو التسوية بين الشيئين أيضاً. والعدل في الاصطلاح هو استخدام الأمور في مواضعها وأوقاتها الصحيحة من دون تقديمٍ أو تأخير.
وإن مفهوم العدل يعبر عن الإنصاف، كما يُعبر عن معاملة الناس بشكل متساوٍ، وعدم الانحياز لفئةٍ معينة، أو تعريضهم للظلم أو التعامل معهم بعنصرية، وذلك من خلال سن القوانين الاجتماعية، والسياسية، والجنائية، والتي من شأنها تحقيق الإنصاف بين أفراد المجتمع في مختلف المجالات الصحية، والتعليمية، وحتى في مجال الأعمال، وبصرف النظر عن أجناسهم وأعراقهم، كما يتجلى دور هذه القوانين في منح أفراد المجتمع الفرص المتساوية في الحياة، بالإضافة إلى حمايتهم في مختلف المجالات الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية.
ومن القواعد الأساسية للقانون الدولي لحقوق الإنسان، أن كل الناس سواسية أمام القانون، ولهم الحق في التمتع بحماية متكافئة دون أية تفرقة. وفيما يتعلق بالحق في المساواة؛ فإن المادة (٧) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان تنص على ما يلي: (الناس جميعا سواء أمام القانون، وهم يتساوون في حق التمتع بحماية القانون دونما تمييز، كما يتساوون في حق التمتع بالحماية من أي تمييز ينتهك هذا الإعلان ومن أي تحـريض على مثل هذا التمييز).
ولا شك أن الشريعة الإسلامية وضعت مبادئ المساواة والعدالة والحرية في خط واحد يكمل أحدهما الآخر، لأن هذه المبادئ هي التي تعبر حقيقة عن كرامة الإنسان، التي تنشدها حقوق الإنسان في الدساتير والصكوك الدولية، فالمجتمع الذي لا مساواة فيه لا حرية فيه؛ ولا عدل؛ ولا سلام، ويكون مجتمعًا عنوانه الظلم والطغيان وسيطرة القوي على الضعيف والغني على الفقير.
يتجسد الأصل العام في البشر في حكمة الله سبحانه وتعالى الذي خلق جميع البشر متساوين في أصل الخلقة، أي في الإنسانية؛ فكل الناس لآدم وآدم خلق من تراب، لا فرق بين أبيض وأسود وأحمر، ولا طويل ولا قصير، ولا عربي ولا عجمي، ويدل على ذلك عدة نصوص منها: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}، فالمساواة في الإنسانية التي أقرها الإسلام أسقطت كل نظريات الأجناس والأعراق والألوان واللغات، وقد جعل الإسلام المفاضلة بين الناس بالتقوى، فقال تعالى: (إِنَّ أكرمكم عِنْدَ اللَّهِ أتقاكم)، وقال رسول الله (ص): (لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأبيض على أحمر إلا بالتقوى)، وقال أيضا (إنّ الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم).
ولا شك أن ربيب الرسول وأخاه الإمام علي بن أبي طالب (ع) الذي نال من الأفضال والمكارم والمعارف ما لم يناله أحد من أصحاب الرسول (ص) كان القدوة الحسنة في زمنه في تجسيد المساواة الإنسانية والعدالة الاجتماعية في تلك العهود الغابرة، وكان المثل الأبرز للمجتمعات الإنسانية التي تلته.
ومن الجدير بالذكر إن الإمام علي (ع) انطلق صوتا للعدالة الإنسانية من قاعدة الإسلام، سواءً في القرآن الكريم، أو سنة الرسول (ص) ناهيك عن سمات الإمام الحميدة من الإيمان والتقوى، والمعطيات العلمية والفقيهة التي أدت إلى إقامته العدل بين الناس، والذي يعد الدعامة الرئيسة في إقامة المجتمع الإسلامي، والحكم الإسلامي، إذ لا وجود للإسلام في مجتمع يسوده الظلم ولا يعرف العدل، وكانت مسائل العدالة والحكومة هي من أكثر ما أهتم به الإمام (ع)، ولعل أهم ملامح المساواة والعدالة التي طبق الإمام علي (ع) تتلخص في الآتي:
1. العدالة الإنسانية مبدأ: لقد شكلت العدالة في منظور الإمام هاجسا حيا يتفاعل معه، ويسعى إلى تحقيقه، ويشدد على المشتغلين معه في إتباع العدالة وتنشيط مفاصلها، يوجههم في ذلك ويراقبهم عليه، ويعزلهم إذا قصروا، ويشيد بهم إذا تتبعوا منهج الحق في ذلك. لذا لم ينشغل فكر الإمام في شيء بقدر انشغاله في موضوع العدل والإنصاف وتطبيق برنامج المساواة.
إن منظور الإمام علي (ع) لتطبيق العدالة ينطلق من كون المساواة لا تتحدد بالمساواة في المعيشة والرزق فحسب، إنما يتعداه إلى إنصاف الناس في كل شيء. وانطلاقا من هذا المفهوم، شدد الإمام على تطبيق المساواة في كل شيء، كي يشعر الناس بالعدل، ويسود المجتمع مظاهر الحق والعدل والمساواة. ووجب ذلك على الحكام أنفسهم، إذ تتحقق العدالة الاجتماعية حينما يكون الحكام عدولا. ولهذا كتب الإمام عهدا إلى محمد بن أبي بكر حين قلده مصر هو بمثابة برنامج عمل لتطبيق مبدأ العدالة الإنسانية: (فاخفض لهم جناحك، وألن لهم جانبك، وابسط لهم وجهك، وآس بينهم في اللحظة والنظرة، حتى لا يطمع العظماء في حيفك لهم، ولا ييأس الضعفاء من عدلك عليهم...) وقد تجسد ذلك بقوله لما عوتب على التسوية في العطاء: (أتأمرونني أن أطلب النصر بالجور فيمن وليت عليه! ... لو كان المال لي لسويت بينهم، فكيف وإنما المال مال لله).
2. العدالة مفتاح الحقوق الأخرى: كان الإمام علي (ع) يدرك إن العدالة مفتاح لدخول الحقوق الأخرى، فلو انعدمت العدالة في المجتمع لانعدم ما دونها، لذا شدد على تحقيقها منطلقا من كون الناس جميعا أحرارا، يولدون ويموتون، وليس من حق أي كان أن يسلبهم هذا الحق فقد قال: (أيها الناس! إن آدم لم يلد عبدا ولا أمة، وإن الناس كلهم أحرارا) كما حذر من انجرار الناس إلى بعضهم حتى يصل بعضهم إلى أن يتنازل عن حريته ليكون في موضع العبودية، فيفقد غاية وجوده، ويتحول إلى مسلوب الإرادة. وقد يتمثل ذلك في خضوع الناس إلى الحكام الظلمة الذين يسلبون الناس حرياتهم ويحولونهم إلى عبيد وجواري، ليصبحوا هم أسياد وأحرارا بينما يعاني الناس الذل والهوان. لذا نجد الإمام (ع) يحذر من وقوع الإنسان في موقع العبودية لغير الله (لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرا).
3. العدالة للجميع دون تمييز: لم يفرق الإمام (ع) بين رعيته على أساس الانتماء والعقيدة، فقد شكلت المواطنة غايته في سياسة الناس، فلم يكن الاختلاف يؤذي الإمام ما دامت المواطنة جامعا كليا للأمة، فكل ما عداها يدخل دائرة الجزئية والفرعية المحددة التي لا يمكن لها أن تكون مقياسا لوجودية الإنسان على الأرض. فالناس في منظوره متساوون على أساس العطاء والتفاعل الإنساني، فمقدار ما يقدمه الإنسان للأمة يكون مقدار لاحترامه، وحفظ وجوده على أساس التعايش السلمي. وهذا المعنى يجسده في عهده لمالك الأشتر عندما ولاه مصر قائلا: (وأشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم، واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعا ضاريا تغتنم أكلهم؛ فإنهم صنفان: إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق).
4. العدالة ليست شعارا فقط بل هي عمل دائم: لم يكن الإمام علي (ع) مثل الكثير من الحكام والناس تحدثون عن العدالة والمساواة في المجالس والدواوين، وينصحون الآخرين بتطبيقها، ولكن يستثنون أنفسهم وذويهم منها، إنما كان الإمام (ع) يعتبرها جوهرية في حفظ الحقوق، فلم يكن المحسن والمسيء في منزلة واحدة عنده، إنما حرص على التفريق بينهم، وحث ولاته على التمييز بينهم، حيث يثاب المحسن ويعاقب المسيء، لان في ذلك حفاظا للحقوق، ولكيلا يتمادى في تكرارها، فتهدم حقوق الناس، ويتجاوز على كرامتها. لذا تجسد هذا المعنى في وصايا الإمام إلى ولاته: (لا يكونن المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء، فان في ذلك تزهيدا لأهل الإحسان في الإحسان، وتدريبا لأهل الإساءة على الإساءة، وإلزام كل منهم ما الزم نفسه) وأشار إلى ولاته بوجوب الإنصاف وعدم التعدي على حقوق الناس والتجاوز على حرياتهم واستخدام السلطة استخدام غير عادل والانحراف بها عن مبادئ الشريعة الإسلامية فقد جاء في عهده لعماله: (أنصف الله، وأنصف الناس من نفسك، ومن خاصة أهلك، ومن لك فيه هوى من رعيتك، فأنك إلا تفعل تظلم).
5. العدالة تتطلب محاربة الظلم: حرص الإمام على تطبيق مبدأ العدالة بين الناس من خلال محاربة الظلم، وأخذ الحق من الظالمين، وإرجاعه إلى أصحابه، لذا لم يترك مناسبة إلا وأعلن فيها أنه يسعى إلى تطبيق مبدأ إحقاق الحق، وإن أنكره عليه الناس؛ لان الحق طريق موحش وعر، يتطلب من سالكيه الصبر والتحمل، كما يتطلب من الناس إعانة الإمام على تنفيذ العدالة؛ لان تطبيق العدالة هم مشترك، فالظلم الاجتماعي يلحق الجميع، ولا يميز بين إنسان وآخر. لذا قال (ع): (أيها الناس! أعينوني على أنفسكم، وأيم الله لأنصفن المظلوم من ظالمه، ولأقودنّ الظالم بخزامته، حتى أورده منهل الحق، وإن كان كارها).
6. العدالة تبدأ من محاربة الفقر والفساد: أولى الإمام علي (ع) اهتماما منقطع النظير بالفقراء والمحرومين، حيث كان الإمام ينظر إليهم نظرة الحريص على تضييق مساحة الفقر، ورفع مستواهم المعيشي، لأنه يعلم أن الفقر يمكن أن يسبب تدهورا أخلاقيا وانحطاطا نفسيا، لذا عمل منذ الساعات الأولى من تسنمه الخلافة على إيقاف تضخم الثروات بسبب التمييز في توزيع الثروة الذي سبب فوارق طبقية بين أبناء المجتمع، فصارت طبقة تملك المال الذي يكسر بالفؤوس، وطبقة لا تملك ثوبا تلبسه. لذا كان الإمام من الوهلة الأولى يعلن القسمة بالسوية، وان الناس متساوون في الثروة لا يمكن لأحد أن يحصل على أكثر من غيره في العطاء مادام الجميع يخضعون لقانون المواطنة. فقد أعلن الإمام برنامجه الأول لمحاربة الفساد المالي وإعادة الحق إلى أصحابه: (ألا إن كل قطيعة أقطعها عثمان، وكل مال أعطاه من مال الله، فهو مردود في بيت المال، فإن الحق القديم لا يبطله شيء، ولو وجدته وقد تزوج به النساء، وفرق في البلدان، لرددته إلى حاله، فإن في العدل سعة، ومن ضاق عنه الحق فالجور عليه أضيق).
7. مراقبة تطبيق العدالة هي الاختيار الحقيقي للأقوال: كان اهتمام الإمام (ع) بالعدالة جعله يراقب تطبيقها وإنصاف المظلومين، وقد وضع آليات كثيرة لمراقبة سير العدالة، وعدم تعرض الناس للظلم، ناظرا بعين الاعتبار إلى إن البعض يخشى أن يصرح بظلمه خوفا من الحكام وجورهم. لذا اتخذ الإمام (ع) ما يعرف ببيت القصص، وهو مكان ترمى فيه قصص أهل الظلامات، إذ يكتب الناس الرقاع بمن ظلمهم من الولاة ويلقوها في هذا البيت، ثم يخرجها الإمام، ويعالج المشكلات. حيث كان حريصا على حفظ كرامة الناس وصيانتها من المسألة. لذا كان يقول: (من كانت له إلى منكم حاجة، فليرفعها في كتاب؛ لأصون وجوهكم عن المسألة).
وسوم: العدد 823