الحضارة التي تحفر قبرها
العنوان أعلاه ، هو العنوان الفرعي لكتاب الفيلسوف الفرنسي روجيه غارودي الذي صدر 1992 وذلك بمناسبة مرور 500عام على " اكتشاف أمريكا " ، وأيضاً مرور 500 عام على" سقوط غرناطة " آخر مملكة للثقافة الإسلامية في إسبانيا ، والذي صدر مترجماً إلى العربية ، عن دار الشروق في القاهرة ،عام 1999 م ، وبعنوان " حفارو القبور " .ورغم أن عمر هذا الكتاب تجاوز ربع القرن ، فإن مضمونه مايزال راهناً ، الأمر الذي سمح لي أن أشرك القارئ معي في قراءة هذا الكتاب الهام ، علماً أننا سوف نكتفي بعرض مانراه مهماً في بعض فصول هذا الكتاب ، لمعرفة الوضع العجيب الحالي الذي عليه أمتنا العربية عامة ، وسوريا خاصة ، ذلك أن معرفة السبب ،إبطال للعجب .
1. يرى غارودي ، أن صدام حسين قد ارتكب خطأ بالرد على الحرب الإقتصادية التي ارتكبت ضد بلاده ، بالغزو العسكري للكويت ، لأنه بهذا قد أعطى أمريكا الذريعة التي كانت تنتظرها منذ نصف قرن ، أي منذ محاولة مصدق تأميم البترول الإيراني ، والتي أدت في ذلك الوقت الى تحرك أمريكي في الخليج بحجة " الدفاع عن الحق الدولي " !! .ويعلق غارودي على أكذوبة " الدفاع عن الحق الدولي " بقوله : إن الدفاع عن الحق الدولي ، " لايمكن أن يكون انتقائياً ، لايمكن تطبيقه بعناد في حالة ضم الكويت ونسيان ضم القدس . صحيح إن القدس ليست سوى مدينة مقدسة، لكن الكويت مقدسة ألف مرة ، بما أنها محاطة بآبار البترول " ( ص 15 ) ويستشهد غارودي على مافعلته أمريكا والغرب بالعراق وذلك باعتراف الأمم المتحدة بأن " حرب الخليج 1991 قد أرجعت العراق إلى عصر ماقبل الصناعة " ، ذلك أن أمريكا ألقت على بغداد حتى اليوم الرابع من الحرب 60 ألف طن من المتفجرات وهو مايعادل خمس مرات ماألقوه على هوروشيما ! ( 16 ) .
2. في رؤيته للإشكالية التنموية في بلدان العلم الثالث ، ربط غارودي ربطاً جدلياً بين تخلف العالم الثاث و تطور البلدان الرأسمالية الغربية ( أوروبا وأمريكا ) ، وذلك أن " خمسة قرون من الإستعمار، من نهب ثروات ثلاث قارات ، هي التي أدت إلى تدميراقتصادياتها وتكبيلها بالديون (17 ) ، ويستشهد غارودي على صحة رؤيته هذه ، بما كتبه السفير المقيم في مرشد أباد عام 1769 عن آثار الإستعمار البريطاني للهند : " إن هذا البلد الجميل أصبح على شفا الخراب منذ اشترك الإنجليز في إدارته " ( 19) . وقد تمثل هذا الخراب ، وبعد أن تحولت الهند إلى ملكية خاصة ، واغتصبت بذلك من الفلاحين الفقراء أراضيهم التي كانت تتيح لهم إنتاج قوتهم ، بالمجاعة التي أدت إلى وفاة مليون شخص فيما بين عامي 1800 و1875 وإلى وفاة 15 مليون شخص فيما بين عامي 1875 و1900 . وتمثل كذلك باحتفاظ رؤوس الأمول الأجنبية بهيمنتها على هذا البلد بعد استقلاله 1947 ، حيث سيطرت هذه الأموال على 97%من البترول ، 93% من الكاوتشوك ، 62% من الفحم ، 73%من مناجم الحديد ...الخ (20 ) .
3. وبالنسبة لمن يريد أن يرى حقيقة العالم ، وليس من خلال صورته في التلفزيون ووسائل الإعلام ( والكلام لغارودي ) ، هناك حريقان مشتعلان في العالم اليوم ( وما زالا ،م ز ) : الحريق الأول هو التبادل غير المتكافئ بين الشمال والجنوب ، بين اقتصاديات الجنوب المدمرة كلياً بفعل قرون من النهب والإستعمار ، واقتصاديات الشمال المتخمة بما نهبته وسلبته من الجنوب .
إن حرية السوق ، التي تقف وراء هذا التبادل غير المتكافئ هي - بتعبير غارودي - حرية الأقوياء في افتراس الأكثر ضعفاً. ( 31 ) ويدلل غارودي على صحة استنتاجه هذا ، بقوله : إنه في عام 1954، كان يكفي لمواطن برازيلي أن يملك 14 كيسا من البن ، لكي يشتري سيارة جيب من الولايات المتحدة ، وفي عام 1962 كان يلزم نفس المواطن39 كيساً (31 ) (!!) .هذا وتمثل فوائد الديون غالباً نفس قيمة أصل الدين . وتساوي قيمة هذه الفوائد قيمة مجمل الصادرات مما يجعل أي تنمية مستحيلة ( والكلام لغارودي ) ( 31 ) . ويتابع غارودي : ومن أجل دفع الدين بالدولار الأمريكي ، تنتج البلدان المعانة كثيراً مما لا تستهلكه ، وتستهلك كثيراً مما لا تنتجه . ( 34 ) .
أما الحريق الثاني المشتعل في العالم الثالث ، فهو " آلية تسخير العالم الثالث لمصالح الغرب ويقوم بها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي . اللذين أنشأتهما وتسيطر عليهما الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون ، عن طريق تقديم قروض للدول التي تمر بصعوبات معينة تحت شروط سياسية وإجتماعية وإقتصادية ومالية ، تسمى بحياء " برامج الإصلاح " أو " خطط الإصلاح البنيوي " . وعادة مايتكون هذا البرنامج ا( برنمج الإصلاح البنيوي ) من العناصر الآتية :
> خفض سعر العملة ،
> خفض اعتمادات التعليم ، الصحة ، الإسكان ،
> إلغاء الدعم الحكومي بما فيه الدعم الغذائي ،
> خصخصة الشركات العامة أو رفع أسعارها ( الكهرباء ، الماء ، المواصلات ..الخ )،
> إلغاء التحكم بالأسعار ،
> زيادة الضرائب ومعدلات الفائدة ، بهدف خفض التضخم .
هذا مع العلم ، أن القروض الجديدة عادة ماتقدم لتسديد فوائد الديون القديمة . ويعلق غارودي على دور كل من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي بقوله : " وهكذا يخرب كل من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي نصف الكرة الأرضية الجنوبي منذ عشرين عاماً ( أي منذ 1972 م.ز ) من الأرجنتين إلى تانزانيا من باكستان إلى الفيلبيين ، وبدؤوا الآن بتطبيق نفس الأسلوب في دول الشرق" (31 – 34 ).
4. وفي الجزء من الكتاب والذي يحمل عنوان " مظاهر الإنحطاط " ، يحدد غارودي مفهوم الإنحطاط بأنه " قطع أواصر النسيج الإجتماعي لتحويل المجتمع إلى ذرات لتخريب العلاقات الإجتماعية بين الجماعات القومية والدينية " الأمر الذي يعني : " أن الإنحطاط على المستوى الفردي هو الاهتمام بالنفس ورفض الآخر ... وعلى مستوى الجماعات هو النزوع إلى السيطرة ". ويصل غارودي هنا إلى الإستنتاج بأن " عبادة السوق ، والملكية المطلقة للمال تقودا مجتمعاتنا ، كل مجتمعاتنا ، إلى الإنحطاط ، وإلى الموت " ( 69 ) .ويرى أن الولايات المتحدة الأمريكية ، باتت بعد حرب الخليج ، تجسد كل أعراض الإنحطاط ، وذلك بقيامها بالآتي ، على حد وصفه :
> تراجع المسؤولية الجماعية لصالح الأنانية واللامبالاة ،
> تفاقم عدم المساواة ، (يتحكم خمس سكان الأرض بأربعة أخماس ثروات الأرض ص7 )
> التمييز العنصري ، الإقتصادي والثقافي ،
> تفكيك مستقبل المجتمع ، بسبب محاولة الإستفادة القصوى من الحاضر على حساب المستقبل ،
باستخدام الوسائل المتاحة دون الوعي بالأهداف النهائية ،( النفط على سبيل المثال ، م ز )
> تفكك الحضارة بتراجع المسؤولية الجماعية وازدياد التفاوت بين الناس .( 69 – 70 ) .
> تراجع الإخلاص للوطن أمام المصالح الخاصة .
وليس ذلك – حسب غارودي - سوى أمراض اقتصاد السوق في امتصاص كل "القيم " ، وكل
ما هو "اجتماعي" حيث المال هو وقود كل حركة وهدفها ، وعلى كافة المستويات وصولاً الى
" المتاجرة بالدين " (71).
وبما أن الإحصاءات التي اعتمدها غارودي حول نسبة الأغنياء والفقراء في العالم ، تعود إلى ماقبل 1992 ، ( أنظر فقرة تفاقم عدم المساواة أعلاه ) ) فقد ارتأينا ، أن نحدث ( بضم النون وتشديد الدال ) هذه النسبة التي ذكرها المرحوم غارودي ، بالنسبة الجديدة التي ذكرتها منظمة " أوكسفام " البريطانية غير الحكومية ، في تقريرهاعشية انعقاد مؤتمر" دافوس" الإقتصادي لعام 2018 ، وهي أن 82% من الثروات التي تحققت في العالم عام 2017 تدفقت إلى جيوب أكثر سكان العالم ثراءً وعددهم 1% من سكان هذا العالم ، فيما لم يسجل نصف الفقراء أي زيادة تذكر ( !! ) .
وسوم: العدد 824