الغربة وحبُّ الوطن
البراء كحيل
جُبلتِ الأنفسُ على حُبِّ الأوطانِ والتعلّقِ بها, فالشوقُ دوماً ما يكونُ لمسقطِ الرأسِ ومراتعِ الصبا, ومهما تنقّلَ وتغرّبَ المرءُ لا شكَّ يبقى حنينهُ لأوّل منزل.
ولكنَّ سُنّةَ الله في خلقهِ أنْ يرحلَ النّاسُ في طلبِ الرزقِ إذا ماضاقتْ بهم الأوطانُ فمنْ يضربْ فِي الْأَرْضِ يجدْ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً, وهكذا تبدأ حكايةُ الاغترابِ وقصّةُ الشوقِ والحنين.
إنَّ المغتربَ لينتزعُ روحهُ منْ موطنهِ كما تُنزعُ الكأسُ الباردةُ منْ يد الظامئ الهيمان بلْ لعلّهُ ينوبُ عن مَلَكِ الموتِ هنا فيذوقُ مرَّ سكراتِ الموتِ وهو المُذوِّق لنفسهِ تلكَ الآلام, ولعمري كأنَّ بلدَ الاغترابِ هو ذلكَ القبرُ الذي يضّمُ الموتى , ولكأنَّ تلكَ الفترةَ في الغربةِ هي حياةُ البرزخِ لمذنبٍ عاصٍ فهي شقاءٌ دائم.
إنَّ الغربةَ مُرّةٌ كالعلقم, قاسيةٌ موجعةٌ كزوجةِ أبٍ لا تعرفُ الرحمة, أمَّا الوطنُ فهو تلكَ الأمُّ الرؤوم الحانية, فكيفَ هي حياةُ من هجرَ حِضْنَ أمّهِ ودفءَ صدرها ليعيشَ تحت رجلي زوجةِ أبيه؟!, تحفرُ الغربةُ في صدرِ المغتربِ جُرحاً عميقاً لا يمكنُ أن تمحوهُ السنون وتكسرُ في نفسهِ شيئاً لا تجبرهُ الأموال والكنوز.
إنَّ حالَ المغتربِ كذلكَ الجالسِ فوقَ النطعِ مُنتظراً أنْ يُجزَّ رأسهُ بعدَ أنْ نشبَ بهِ ظفرٌ جارحٌ منْ أظفارِ الزمانِ فَجرحَ قلبهُ جرحاً دامياً وحوّلَ حياتهُ لجسدٍ بلا روح فلبِسَـتْ أديمَ وجههِ غبرةٌ قاتمةٌ جعلتهُ في حالةٍ مزريةٍ كأنمّا منتفضٌ منْ كفن.
إنَّ قلبَ المغتربِ ليئنُّ شوقاً لوطنهِ ويرسلُ معَ الأطيارِ أغنيةَ الحنينِ لعلّها تشدوها هناك في سماءِ الوطن, وينتظرُ عندَ الصباحِ العليلَ لعلّهُ يحملُ شيئاً من عبقِ تلكَ البلاد, ويحسدُ القمرَ في السماءِ لأنّهُ ينظرُ إلى تلكَ الأرضِ الطاهرةِ حيثُ يسكنُ الفؤاد, ذلكَ الوطنُ الذي غرسَ اللهُ محبتهُ في قلوبِ العبادِ وماكانَ غرْسُ اللهِ إلاَّ ليثمر.
وبعدَ أنْ اكفهرّتْ سماءُ الغربةِ في وجهِ ذلكَ المغتربِ يسألُ ذلكَ السؤالَ الساذجَ الذي تتداولهُ الألسنةُ دوماً:"متى تكون العودةُ للوطن"؟ ويُجيبُه من أكلتِ الغربةُ شبابهُ وطوى شطراً منْ حياتِه فيها:"عودةُ المغتربِ غالباً ما تكون إلى المقبرة, إنْ وجدَ من يتكرّمُ عليهِ بنقلِ الجثمان!."