عظماؤنا في التاريخ الدكتور مصطفى السباعي

لعلنا لا نبالغ، في قليل أو كثير، إذا زعمنا أن الدكتور مصطفى السباعي – تغمده الله بفيض رحمته ورضوانه – أشهر وأجل وأكبر من أن يحتاج إلى تعريف، بالنسبة إلى الجيل الذي عاصره معاصرة زمالة أو مشاهدة، أو تلمذة فكرية، فقد كان – رحمه الله – الفارس المجلي الذي لا يشق له غبار في المجالات التي خاضها، سياسية كانت أم فكرية أم تربوية.. فهو الرجل الذي لا يعرف معنى للراحة, أو لا تعرف الراحة إليه سبيلاً، إلا إذا باشر الأعمال المنوطة به، ونفذها عملاً عملاً، لا يهدأ ولا يكل، ولا يمل، كأنما آتاه الله من الطاقات الجسمية والعقلية والروحية ما لم يعطه إلا لخاصة أوليائه في هذه الحياة..  بل إن الراحة لتحس بمزاحمة هم جديد يبعثه ذهنه المتوقد أبداً، يستحثه للنهوض بأعباء جديدة لا تكاد تخطر إلا على بال أمثاله من العظماء.. فهو في حركة دائبة، فكرية وعقلية ونفسية وجسمية، تجهد النفس الكبيرة من أجل التخطيط الواعي للوصول إلى هدف قريب، يكون سلماً يرقى به إلى الهدف البعيد الذي يسعى حثيثاً إليه، ألا وهو نصرة الإسلام والتمكين لدعاته في الأرض، مهما كلف الجسم من إنهاك والروح من آلام..

 عاش – رحمه الله – فذاً بين الرجال، عملاقاً بين الأتباع، يتميز غيظاً وهو يرى من معه لا يستطيعون السمو، ولا بحركة الخيال، إلى ما يسمو إليه السباعي الرجل، ولا تبعد نظراتهم عن مدّ أشبار من المدى البعيد الذي كان يحدق إليه بثاقب نظره وتتطلع إليه أشواق قلبه اللهفان أبدا..

وليس أضر على العظيم من أن يتلفت حوله، وقد جمع همته، وأمضى عزيمته، فلا يرى إلا من قصرت به همته، وقعدت به عزيمته...

ليس أضر على الرجل العظيم من أن تكون إلى جانب طاقاته العملاقة، طاقات قزمة، تريد أن تساعده بأيد كليلة، ونفوس خوارة، آضتها الدنيا وأعباؤها، فناءت عزائمها بتحميل ما يريد الرجل العظيم تحميلها إياه. إنه ليرنو إلى هدفه البعيد بعيون تترقرق فيها الدموع، لأنه يرى الدرب طويلاً، والعمر قصيراً، وإمكاناته من الرجال والعتاد ضحلة، فلا يمسك نفسه من أن تتشظى، وروحه من أن تتمزق، فيطوي كشحه على هموم لو توزعها أتباعه لأقضت ظهورهم.. ثم لا يكون المصير إلا حزناً دفيناً لا يعيه إلا عظام الرجال، يفتت جسمه، ولا يستطيع ثلم روحه أو تثبيط عزيمته، وعندها تقع الكارثة التي تقعد كماة الرجال ولا تقعده..

يكون الشلل النصفي الذي عانى منه سبع سنوات عجاف سمان في آن واحد.. عجاف إذا قيست بخصوبة السنوات التي ملأها أعمالاً جليلة يعجز عنها آلاف الرجال..

وسمان.. لأنها أعادته إلى نفسه.. إلى كتبه .. إلى قلمه.. فراح يخط لنا من فيوضات روحه الكبيرة، ما ملأ الناس إعجاباً، وجعلهم يقفون حيارى أمام هذا الرجل الكبير الذي أوتي من أنماط العظمة، ما لو وزع على كثيرين، لرضوا بما أولاهم الله من فضل العظمة. ولو أنني أردت أن أعدد جوانب العظمة في هذا الرجل، لقصر بي القلم، ولضاقت بي مثل هذه المقدمة التي أردتها مدخلاً إلى كتابه القديم الجديد، القديم بمعنى أنه كتب منجماً في الصحف والمجلات العربية على مدى بضعة عشر عاماً متوالية دون أن يجد ما كتبه من يقوم بجمعه وتنسيقه وإخراجه إلى الناس كتاباً قيماً طالما تطلعت إليه القلوب والعقول...

والجديد.. بمعنى أنه جمع ونسق وأخرج إلى الناس...

ومن الناس من سبق له أن قرأ وسمع بهذه الكتابات.. وهم قلة.. ولكن الكثرة الكاثرة من أبناء أمتنا، لم يتح لهم هذا الاطلاع الذي نريده.. الاطلاع القائم على الدرس والتمحيص.. لعلهم يعبون من ينابيع هذه العظمة، ما يهيئ منهم الخلف الصالح لذلك السلف الصالح..

أما ما قمت به من عمل هذا الكتاب فيتلخص بالتالي:

1- قمت بجمع ما كتبه الرجل في الصحف العربية وصححته ونسقته، ودللت على مواطن الآيات، والأحاديث النبوية.. وعزوت كلاً إلى مصدره..

2- اعتمدت، فيما يتعلق بالأحاديث، على المعجم المفهرس لألفاظ الحديث، وعلى صحيح البخاري طبعة دار الشعب بمصر، وبعض هوامش فقه السيرة للأستاذ الشيخ محمد الغزالي وسواها..

3- شرحت بعض ما رأيته في حاجة إلى الشرح من النصوص الواردة في الكتاب، كما قمت بتشكيل ما يتطلب التشكيل..

4- كل ما ورد من هوامش هو من عملي إلا نزراً يسيراً..

وإني لأرجو الله القدير أن يثيبني على هذا العمل، وأن يسدد خطاي في إخراج إخوته من الكتب الأخرى التي أنوي إصدارها على شكل مسلسل تحت عنوان (مكتبة السباعي) وأخص منها بالذكر، الكتاب الثاني الذي يعتبر متمماً لهذا الكتاب، فيما أرى، وهو "ذكريات خالدة في التاريخ" ويتناول مجموع المحاضرات والخطب والمقالات التي كان قد كتبها السباعي في أوقات وأمكنة مختلفة..

قلت أرجو أن يثيبني الله على هذا العمل، لأنني ما قصدت من ورائه إلا خدمة أستاذي الجليل الدكتور المرحوم، ونشر فكره، وخدمة الإسلام والمسلمين عن طريق نشر مثل هذا الفكر الأصيل، الذي أنتجه الرجل العظيم.. سائلاً المولى القدير العون في إتمام ما بدأت، والله من وراء القصد، وهو المستعان، وعليه توكلي..

في التاريخ

لا بد لي من أن أقدم مقدمة موجزة تكون بمثابة التمهيد لما أقدمه من أثر جديد في كتابه ما قد نصطلح على تسميته تاريخاً، وليس بالتاريخ – في المعنى الدقيق للتاريخ – بل هو أقرب ما يكون إلى السير، كتبت في إيجاز واقتضاب لأسباب وجيهة فرضت هذا النمط من التأليف على الدكتور السباعي، منها:

1- كثرة مشاغله.

2- عدم تخصصه.

3- وطأة الأعباء الكبيرة الملقاة على عاتقه.

4- مرضه.

5- كون بعضها كتابات صحفية.

ولكن السباعي بما أوتي من جوانب العظمة، والحس المرهف، استطاع أن يقدم شيئاً وشيئاً ثميناً فيما كتب وحاضر، وسنرى هذا على ضوء ما يأتي.

***

لقد أكد أكثر الباحثين في التاريخ العربي، والمصلحين، وكبار المثقفين العرب والمسلمين المهتمين بهذه الأمة، وقضاياها المصيرية، والمتطلعين إلى انتشالها من الوهدات السحيقة التي تردت فيها على مدى قرون – أكد كل هؤلاء على ضرورة إعادة كتابة تاريخنا العربي من جديد، لأسباب كثيرة، ذكرها هؤلاء، وأبدوا ملاحظاتهم على تاريخنا القديم، والمنهج الذي ينبغي على من سينهض بهذا العبء.. أن يتبعه .. من هؤلاء المستشرق الفرنسي جاك بيرك، والدكتور نور الدين حاطوم، والأستاذ محمد عزة دروزة، والأستاذ محمد المبارك، والأستاذ الشهيد سيد قطب، ومحمد الخير عبد القادر، والدكتور عماد الدين خليل، وسواهم، ممن لا تحصيهم مثل هذه المقدمة.. فالأستاذ محمد عزة دروزة يرى ضرورة كتابه تاريخنا من جديد، كما يرى ضرورة تبين الأخطاء الكبيرة التي وقع فيها أسلافنا، ليتجنبها الجيل الجديد ولا يقع فيها، "والطريقة المثلى، بالنسبة لذلك، هي تمحيص المصادر، والتروي بها، ومقارنة بعضها ببعض، بأعين وأقلام متجردة من الغرض والهوى، وبعقول ثاقبة حذرة، مع النظر إلى الأحداث بنظرة الظروف التي حدثت فيها، لا بنظرة الوقت الذي يكتب فيها التاريخ الجديد"(1).

والدكتور حاطوم يعتقد "أن واجبنا القومي والعلمي في نهضتنا الحالية، يحتم علينا الكشف عن حقيقتنا التاريخية الأصيلة في تراثنا التاريخي العظيم، لنرد التهم، وندفع الباطل والريب، ونبرز هذه الحقيقة سليمة من كل شائبة"(2)..

 أما الأستاذ الكبير محمد المبارك فإنه يرى الضرورة ملحة لإخراج تاريخنا في ثوب جديد، لأنه قد "أصيب بآفتين:

إحداهما: ما أصابه من إسفاف وسطحية في عصر الانحطاط الأخير..

وثانيتهما: وهي أدهى وأمر، ما أصابه بسبب التقليد الأعمى للتاريخ الأوربي ومفاهيمه، ونقل مشكلاته نقلاً، والتأثر بنظرات أعدائنا تارة، أو الأجانب الذين لا يحسنون فهم تاريخنا، وأحكامهم الخاطئة، أو المدسوسة من المؤرخين الأوربيين والمستشرقين تارة أخرى.

نحن في حاجة إلى نظرة واعية صحيحة لتاريخنا، مطابقة لذاتيتنا، فيها استمرار لمثلنا العليا، منسجمة مع مفاهيمنا ونظراتنا، ترينا مفاخرنا الصحيحة حتى نلتزمها ونكملها، وعيوبنا وأخطاءنا حتى تتجنبها". ولا يكتفي الأستاذ المبارك بإبداء مثل هذه الضرورة، بل يضع شروطاً ومبادئ يجب التزامها ومراعاتها وهي:

1- الفهم الصحيح لتاريخنا وخصائصه.

2- استجلاء منطق هذا التاريخ، دون تشويهه بفرض مذاهب جديدة عليه، أو تفسيره بواسطة نظريات غريبة عنه، أو الاندفاع فيه بدافع العصبية.

3- تقويمه بمقاييس إنسانية مشتركة، وتحديد موقع حضارتنا من الحضارات العالمية الأخرى.

4- إحياء التراث، وجمع المصادر لاستجلاء هذا التاريخ استجلاء صحيحاً.

وهو عندما يلح على هذا الإخراج الجديد، يعرف أن دراسة التاريخ دراسة موحية وموجهة وحافزة – وإن تكن تصويراً لوقائع ماضية – ومحاولة لنقل الحقيقة كما هي، مع انتقاء هذه الوقائع، وطريقة عرضها – تؤثر تأثيراً قوياً في تفكير الجيل الذي يدرس هذا التاريخ، وفي نفسيته وعواطفه.

 "فتاريخ كل أمة يعطي صورة عنها، ويحدد موقعها بالنسبة إلى تواريخ الأمم الأخرى، ويشعر الجيل الجديد بموقعه من أمته بين ماضيها ومستقبلها، ليتخذ لنفسه طريقاً للسلوك"(3).

والأستاذ محمد الخير عبد القادر كتب خمس مقالات في مجلة الشهاب الدمشقية: في الأعداد: ( 27 – 29 – 38- 39- 41) بحث فيها (مقومات التاريخ الإسلامي) وكأنه يخطط لمنهج جديد ينتهجه من يندب نفسه لكتابه تاريخنا من جديد، فيعرض النظريات التاريخية الأربع:

1- النظرية الدينية (أوغسطين في كتابه: مدينة الله).

2- النظرية العقلية

3- النظرية الجغرافية والظروف المحيطة بالإنسان (مونتسكيو – ابن خلدون).

4- النظرية المادية التاريخية التي ترى أن الدوافع الاقتصادية علة للوقائع التاريخية، أما الإنسان فموقفه سلبي في الحياة الاقتصادية، لا يملك حولاً ولا قوة. وهي بهذا قد سلبت الحياة والفكر من الإنسان الناطق، وأعطتهما للمادة الصماء.

ثم يعقب على هذه النظريات فيقول: "على أن المفكرين لم يجمعوا حتى الآن – وليس في وسعهم أن يجمعوا – على رأي حاسم في تفسير التاريخ، أو في استنباط القوانين العامة التي تخضع لها الوقائع التاريخية، ويرجع ذلك لسببين:

1- أن مادة التاريخ غير ثابتة، وغير قابلة للتحديد، وليس من الميسور، أن تعاين وقائع التاريخ معاينة مباشرة، كما يفعل العالم الفلكي مثلاً.

2- أن الاختبار والتجربة غير ممكنين في التاريخ، كما هي الحال في العلوم الكيميائية مثلاً

ثم إنه يرى تلك الضرورة على أساس التعريف الذي ارتضاه للتاريخ حيث يقول:

التاريخ: تفسير الحاضر على ضوء الماضي، والنظر إلى المستقبل في ضوء الحاضر، وبقدر فهم الأمة لحقائق تاريخها، ومقدرتها على تفسيرها يكون حظها من التوجيه السليم، أو الفوضى والارتجال في حل مشاكلها.

ولأن التاريخ علم يشرح تطور المجتمع، يستطيع تأدية رسالته – على حد تعبير هيرشنو في كتابه: علم التاريخ – من ثلاث نواح:

1- من حيث هو مدرسة لتعليم طريقة البحث السياسي.

2- من حيث هو مستودع التقاليد السياسية.

3- من حيث هو أساس الرقي السياسي.

والاستعمار يعرف حق المعرفة أثر التاريخ في توجيه الشعوب، ولذلك يركز جهده في السيطرة على الأقلام التي تسطر التاريخ: لتخرج له تاريخنا على الطريقة التي يريدها، فهو يهمه كثيراً "ألا نجد في تاريخنا ما نعتز به، وأن نرى أوربا، على العكس، هي صاحبة الدور الأول في التاريخ الإنساني، فإذا يئسنا من ماضينا، واستصغرنا دورنا في حياة البشرية، وامتلأت نفوسنا، مع ذلك، إعجاباً بالدور الذي قامت به أوربا وإكباراً للرجل الأبيض، سهل قيادنا على الاستعمار، و       كبرياؤنا القومية، وذلت رقابنا للمستعمرين"(4).

لأن التاريخ لم يعد "بحثاً عن الامتداد الزمني في الماضي، بوصفه إطاراً لما وقع فيه من حوادث، ولكنه أصبح كشفاً عن القيم الإنسانية فيما تكشف عنه هذه الحوادث من قوانين إنسانية محدودة بعواملها التاريخية كقوانين الاقتصاد السياسي في المجتمعات الماضية، أو كعوامل التقدم الثقافي أو انحطاطه.. وفي ذلك يحاول المؤرخ أن يستنبط قواعده من حقائق التاريخ، بوصفها حقائق موضوعية، ولكنه يرتبها في سلسلة منطقية خاضعة لهدفه الذي يرمي إليه في التأويل، وبهذا يكون التاريخ كشفاً عن قيم إنسانية في الماضي، وهذه القيم لا يمكن أن تكون موضوعية محضة إذ تتطلب شرحاً وتأويلاً.

والحقائق التاريخية فيها ليست إلا باعثاً أو تعلة لقضايا المؤرخ. وفيها يعود المؤلف – من شروحه الصادرة عن فهمه للماضي – إلى الحاضر، ليوسع آفاقه ، وينمي جوانبه، فتتولد المعاني الإنسانية مجردة في عاقبة الأمر من معناها الزمني، لتصير مقوماً من مقومات الحضارة أو قضية من قضايا الحاضر التي توجه المستقبل، فتكشف بذلك عن الخصائص الدائمة للوجود الإنساني"(5).

أما الأستاذ الشهيد سيد قطب – رحمه الله – فإنه يعرف التاريخ بقوله:

 "التاريخ ليس هو الحوادث، إنما هو تفسير هذه الحوادث، والاهتداء إلى الروابط الظاهرة والخفية التي تجمع شتاتها، وتجعل منها وحدة متماسكة الحلقات، متفاعلة الجزئيات، ممتدة مع الزمن والبيئة امتداد الكائن الحي في الزمان والمكان".

وانطلاقاً من هذا التعريف، يرى أن التاريخ الإسلامي يجب أن تعاد كتابته على أسس جديدة، وبمنهج آخر؛ لأن "هذا التاريخ موجود اليوم في صورتين: صورته في المصادر العربية القديمة، وهذه من التجاوز الشديد أن تسمى تاريخاً،  بل هي لا يمكن أن تحمل هذا الاسم، فهي نثار من الحوادث والوقائع والحكايات والأحاديث والنتف والملح والخرافات والأساطير والروايات المتضاربة، والأقوال المتعارضة على كل حال .. وإن كانت، بعد ذلك كله، غنية، كمصدر تاريخي، بالمواد الخامة التي تسعف من يريد الدارسة، ويوهب الصبر، ويحاول الغربلة.. بالمواد الأولية اللازمة له في بناء هيكل التاريخ.

وصورته في المصادر الأوربية، وبخاصة في أعمال المستشرقين" وهي صورة مرفوضة حتماً لأسباب سبق له أن بينها في مقاله هذا.

كما يرفض الصورة الثالثة التي أنتجها أناس تتبعوا المنهج الأوربي، واستمدوا عناصرها من الدراسات الأوربية في الغالب، وتأثروا بالإيحاءات الأوربية من ناحية زاوية الرؤية.

"يجب إذن، أن تعاد كتابة التاريخ الإسلامي على أسس جديدة، وتحت أضواء جديدة، لكي تعطي كل أسرارها وإشعاعاتها، وتنكشف بكل عناصرها ومقوماتها".

ثم يبين ضرورة اعتماد هذه الكتابة الجديدة على المصادر العربية أولاً، والدراسات الغربية ثانياً، أما بقية العمل فيجب "أن تكون ذاتية بحتة غير متأثرة إلا بمنطق الحوادث ذاتها، بعد أن يعيش الباحث بعقله وروحه وحسه في جو الإسلام كعقيدة وفكرة ونظام، وفي جو الحياة الإسلامية كقطعة من حياة البشرية الواقعية" لأنه يصعب "أن نتصور إمكان دراسة الحياة الإسلامية كاملة دون إدراك كامل لروح العقيدة الإسلامية، ولطبيعة فكرة الإسلام عن الكون والحياة والإنسان، ولطبيعة استجابة المسلم لتلك العقيدة، وطريقته في الاستجابة للحياة كلها في ظل تلك العقيدة".

"وبذلك تتهيأ للقارئ، لمثل هذا التاريخ صورة مستكملة الجوانب لكل الأوضاع والأحوال التي نشأت عنها الاستجابات التي وقعت بالفعل في تاريخ الإسلام، في الفترة التي تلت ظهوره، كما يتهيأ له تفسير هذه الاستجابات تفسيراً صحيحاً مستكملاً لكل عناصر الحكم والتقدير.. وبذلك يستحيل التاريخ عملية استبطان وتجاوب في ضمائر الأشياء والأشخاص والأزمان، والأحداث ويتصل ناموس الكون، ومدارج البشرية، ويصبح كائناً حياً، ومادة حياة"..

وقد بلغت الحماسة بالأستاذ سيد أن يحاول النهوض بهذا العبء الضخم، فشكل لجنة لهذه الغاية، منه ومن الدكتور محمد يوسف موسى والدكتور عبد الحميد يونس والشيخ صادق عرجون والدكتور محمد النجار.

وقد شرعت هذه اللجنة بالتخطيط العام لهذه الكتابة الجديدة، على الشكل التالي:

- مقدمات التاريخ الإسلامي.

- الإسلام على عهد الرسول.

- المد الإسلامي.

- الانحسار الإسلامي.

- العالم الإسلامي اليوم. 

ولكن اللجنة المذكورة توقفت عن العمل، بسبب الظروف الحرجة التي أحيطت بها، وإن يكن الشيخ صادق عرجون قد حاول العمل منفرداً، فألف كتابيه القيمين: عن عثمان بن عفان و عن خالد بن الوليد رضي الله عنهما.

ومن أبرز الكتاب الذين تنبهوا إلى خطورة التاريخ، وأكدوا على إعادة كتابته من جديد، المرحوم الأستاذ محب الدين الخطيب، فقد دعا في المقدمة الرائعة التي قدّم بها كتاب "أبو بكر الصديق" لعلي الطنطاوي إلى منهج جديد في كتابة التاريخ، لأن تاريخ الأمة العربية الإسلامية لم يكتب بعد، ويندد بتقصير مثقفينا في هذا المجال، ويلقي التبعة على التعليم الاستعماري الذي حال بيننا وبين بعث تاريخنا لأن "تاريخ الأمة هو الأمة وكل جيل من أجيالها حلقة من حلقاتها الممتدة بين الأزل والأبد...

وتاريخ كل أمة، فيه الأمجاد والفضائل، وما تثمره من أسوة وقدوة، وفيه الأخطاء والزلات، وما تفيده من عظة وعبرة والمؤرخ هو مربي الجيل، الرفيق به، الذي يحسن تنبيه الجيل إلى مواطن الأسوة والقدوة من رسالة أمته، وأمجاد عظمائها، وفضائلهم، ويترفق بإيقاظه للاعتبار بأخطاء الماضي وزلاته، والاتعاظ بها..".

 وينقل لنا حديثاً طريفاً، عميقاً للقائد العسكري الكبير عزيز علي المصري، ننقله لأهميته:

"لقد لاحظت عجباً في هذه الكتب العربية التي دوّن فيها المؤرخون تاريخ أمتنا، إنهم يختلفون كل الاختلاف عن مؤرخي الأمم الأخرى.

لقد قرأت كثيراً من كتب التاريخ الفرنسية والألمانية والإنكليزية، فرأيت المحققين من مؤلفيها يلتزمون الحقيقة غالباً في عرض الوقائع، غير أنهم يحيطون أخطاء الماضي بالظروف التي أدت إلى وقوع تلك الأخطاء، حتى ليكاد القارئ يعذر المخطئين فيما صدر عنهم، ثم يستنتجون العبرة من ذلك، ليستفيد الخلف من أخطاء السلف، فيتفادوا تكررها، ويجتنبوا الوقوع في أمثالها، ويخرج المؤلفون والقراء من مثل هذه المواقف، بالاحترام التام لسلفهم، حتى عندما يكونون مخطئين. وإنما جنح الغربيون إلى التزام هذا الأسلوب في كتابة تاريخهم، لأنهم يعتبرون أنفسهم جزءاً من الأمة التي يدونون تاريخها، إن لم يكونوا جزءاً من الإنسانية التي يصفون أطوارها وأحوالها، فالمحققون منهم لا يخرجون عن مقتضى الأمانة في تسمية الصواب صواباً، والخطأ خطأ، غير أنهم يحسنون عرض الصواب، فيراه القارئ بجماله الرائع، ويدرسون ظروف الخطأ ونواحي العذر فيه لمن صدر عنهم، كما يدلون بأعذارهم كما لو كانوا هم المخطئين، وبهذا تستفيد الأجيال العبرة، وبهذا يؤدي التاريخ مهمته..".

  أما ما فعله الأستاذ الكبيرعلي الطنطاوي فيما كتب من التاريخ، "أبو بكر الصديق" و"أخبار عمر" و"رجال من التاريخ" وسواها، فقد لجأ إلى الأسلوب العربي التقليدي في كتابة التاريخ، مع شيء من التنسيق، إذ جمع فيها ما تفرق في عشرات الكتب، وعارض هذه الأخبار، وتحرى الصحيح منها، ثم جمع ما صح عنده من الروايات الكثيرة، وجعلها كالحديث الواحد – على حد تعبيره هو – مع شيء من تهذيب الأسلوب، وتوضيح الغامض. وهو لم يكتب ما كتب إلا لاعتقاده بأن على رب كل أسرة أن يكون في بيته كتاب جامع من كتب السيرة، وأن يقرأ فيه دائماً، ويقرأ لأهله وأولاده، لينشؤوا على معرفة سيرة الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم، فهي الينبوع والدليل والمثل والدستور، ولأن في تاريخنا المثل الأعلى لكل فضيلة.

اما الدكتور عماد الدين خليل، فقد شرع فعلاً بتأليف جديد، على نهج جديد، مما سبقه من تآليف، في كل من كتابيه: عماد الدين زنكي، وملامح الانقلاب الإسلامي في خلافة عمر بن عبد العزيز.

فأما الكتاب الأول، فهو دراسة أكاديمية اضطرته إليها طبيعة الرسائل التي تقدم لنيل شهادة الماجستير أو الدكتوراه.

وأما الثاني فقد حقق ما كان يصبو إليه، ونظرة سريعة إلى المقدمة الطويلة التي قدم بها للكتاب, ترينا المنهج الذي سار عليه في كتابة التاريخ والسيرة وهو منهج (يقوم على التوازن بين الذات والموضوع ويسعى إلى إحياء الموقف التاريخي ويستهدف النظرة الكلية الكونية للأحداث والحركات والأشياء)(6).

***

أما لماذا عني السباعي بتراجم عظمائنا, فلأن الإسلام لا يغمط أحداً حقه، فهو يقدر الدور الكبير الذي ينهض به الفرد في حركة التاريخ، كما لا يغفل دور الشعوب في عالم التاريخ، فهي التي يستند إليها الفرد العظيم، بل لا يستطيع الفرد مهما كان عظيماً أن يتخلى عنها أو يهملها أو يتغاضى عن أهميتها، فهي سنده، وبها يضرب أعداءه وبكلمة واحدة هي عصا حضارته يمسك بها بيده.

وهذه النظرة الوسط إلى التاريخ تغاير نظرتي كلا المعسكرين: الشرقي والغربي على حد سواء، الشرقي الذي لا يأبه لدور الفرد في التاريخ والغربي الليبرالي أو الامبريالي الذي يتجاهل ما تقوم به الجماهير ويؤله الفرد.. وإلا فما قيمة ذلك الجيل القرآني الفريد لو لم يكن هناك الملهم الرائد الذي صنع أمته على يده وبهدي قرآنه، الدستور الإلهي العظيم. وبالمقابل، أنّى لأبي بكر العظيم أن يقف في وجه القبائل العربية المرتدة التي نقضت عهودها وخرجت عليه، لو لم يكن يؤازره ذلك الجيل العظيم؟! الرجل العظيم في مسيس الحاجة إلى الأمة العظيمة، والعكس صحيح.. وهذا يعني أن التاريخ العربي لم يكن تاريخ ملوك و أمرآء وقادة فقط، وإنما كان تاريخ ملوك وأمرآء وقادة وشعوب في آن واحد، منطلقاً في هذا، من طبيعة الظروف الفكرية والثقافية والسياسية والاجتماعية بصورة عامة. بل (يجب أن نعترف – كما يقول الدكتور حاطوم – بأن هذا النوع من التأليف لم يكن في الغالب سوى إطار ونقطة انطلاق للبحث التاريخي.) (7).

وفي بحث نشوء المدنيات، يبين توينبي "النظريات الخاطئة في نشوء المدنيات، ويقول: إن الفرق بين المجتمع الابتدائي والمجتمع المتمدن ليس في وجود المؤسسات المختلفة أو عدم وجودها، ففي المجتمعات الابتدائية مؤسسات مختلفة لا تقل إتقاناً عن المجتمعات الراقية، كما أن الفرق ليس في توزيع الأعمال، فظاهرة تقسيم الأعمال موجودة في المجتمعات الابتدائية.إنما يرى أن الفرق الأساس ناتج عن اختلاف الاتجاه، ففي المجتمع الابتدائي، التقليد موجه للأجيال القديمة وتجاه الأجداد، وفي المجتمعات المتطورة التقليد موجه نحو الأشخاص المبدعين"(8).

ولذا فإننا نرى الغربيين يجلون عظماءهم، ويدونون سيرهم، ويقتفون آثارهم، بينما يجهل الشاب العربي الكثير عن عظماء أمته.

ومن هنا انبثقت فكرة الكتابة عن هؤلاء العظماء..

وليس هناك أجلّ من عظيم العظماء محمد صلى الله عليه وسلم، وصحابته الكرام –رضي الله عنهم وأرضاهم- الذين ربوا على عينه، فكانوا جيلاً فريداً بين الأجيال، لا نقول: قل نظراؤه، بل نقول، عدم النظراء.. فقد ترك محمد صلى الله عليه وسلم "من بعده خلفاء عنه في قيادة الدعوة، يفهمون شريعته، كما يفهمها، ويتخلقون بأخلاقه كما أدبه ربه، فاستمرت الدعوة من بعده، وأدت رسالتها في التاريخ" (9) لأنهم كانوا أتقى لله، وأكرم في السيرة، من كل جيل عرفته الإنسانية في القديم والحديث.. ولقد انتصر الإسلام على أيديهم، وبنضالهم، ومفارقتهم الأهل والبلد في سبيل الله والحق الذي آمنوا به، وعلى أيديهم انتقل هذا الدين إلينا، وبوساطتهم أخرجنا الله من الظلمات إلى النور.

كل ذلك بسبب تلقيهم الدعوة من مصدر قوتها، وعذب معينها. وما دام الأمر على هذه الشاكلة، فلا جرم أن يعنى دعاة الإسلام والمصلحون بالسيرة النبوية، وسير الصحابة، وتاريخهم، لأنها من أقوى مصادر القوة الإيمانية، والعاطفة الدينية التي لا تزال هذه الأمة والدعوات الدينية تقتبس منها شعلة الإيمان، وبها راح الدعاة يستعينون في إيقاظ همم المسلمين وإلهاب قلوبهم بجذوة الإيمان، والحماسة الدينية. "فبعض حوادث التاريخ الخالدة يصنعها أفراد قلائل، ويعيش بفضلها مئات الملايين على مر الدهور وهم لا يشعرون"(10).

"وفي ذلك دعوة غير مباشرة إلى العودة لأخلاق الإسلام في عصوره الذهبية، فليس أجدى في التربية، من أن نجعل شبابنا يعيشون في أجواء عظمائهم، لينشؤوا عظماء في أخلاقهم وسلوكهم وأهدافهم، ولينهضوا بعبء الرسالة التي كلفهم الله بحملها في كل جيل: رسالة الريادة الفكرية والخلقية، والاجتماعية، نحو حياة كريمة، وعيش رغد، ومستقبل سعيد."(11).

***

ولا بد لنا من وقفة قصيرة مع مؤلفي فقه السيرة، هذا الفن المستحدث الذي بدأه الأستاذ محمد الغزالي في كتابه القيم (فقه السيرة) وتناول فيه سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم بالعرض والتحليل، لا ليتملى الناس عناصر النبوغ فيها، بل لأنه رأى: أن المسلمين الآن يعرفون عن السيرة قشوراً خفيفة، لا تحرك القلوب، ولا تستثير الهمم، وهم يعظمون النبي وصحابته عن تقليد موروث، ومعرفة قليلة، ويكتفون من هذا التعظيم بإجلال اللسان، أو بما قلت مؤونته من عمل..

"بذلت وسعي في إعطاء القارئ صورة صادقة عن سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، واجتهدت في إبراز الحكم والتفاسير لما يقع من حوادث، ثم تركت للحوادث المجلوة أن تدع آثارها في النفوس دون افتعال أو احتيال.. وقصدت من وراء ذلك، أن تكون السيرة شيئاً ينمي الإيمان، ويزكي الخلق، ويلهب الكفاح، ويغري باعتناق الحق والوفاء له، وضم ثروة طائلة من الأمثلة الرائعة لهذا كله..". لأنه يرى مشاهد التخلف الحضاري لدى أمته..

أما منهجه في التأليف فقد مزج – على نحو جديد – بين طريقة المؤرخين المحدثين القائمة على التعليل والموازنة، وربط الحوادث المختلفة في سياق متماسك، وبين طريقة المؤرخين القدامى، المعتمدة على حشد الآثار وتمحيص الأسانيد، وتسجيل ما دق وجل من الوقائع والشؤون.. إذ راح يجمع بين ما في كلتيهما من خير، فيجعل من تفاصيل السيرة، موضوعاً متماسكاً يشد أجزاءه روح واحد. ثم يوزع النصوص والمرويات الأخرى بحيث تتسق مع وحدة الموضوع، وتعين على إتقان صورته، وإكمال حقيقته.

وقد قسم الكتاب إلى ثمانية أقسام، لم يسمها أبواباً ولا فصولاً، هي:

1- رسالة وإمام.. وفي هذا القسم عدد من المقدمات، كطبيعة الرسالة الخاتمة، والعرب حين البعثة، ومنزلة السنة من الكتاب الكريم.. إلخ..

2- من الميلاد إلى البعث.

3- جهاد الدعوة..

4- الهجرة العامة: مقدماتها ونتائجها..

5- أسس البناء للمجتمع الجديد.

6- الكفاح الدامي.

7- طور جديد..

8- أمهات المؤمنين.

وقد استطاع المؤلف أن يعرض لنا سيرة الرسول عرضاً حياً أخاذاً، بذ فيه كل من كتب في السيرة من المؤرخين وكان الرائد في إبداع هذا النمط الجديد من التأليف الذي لا يهدف إلى حشر المعلومات بل  إلى إحياء سيرة جلت عن السير، قديمها وحديثها..

ثم تابع الغزالي في هذا النمط من التأليف، الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي، فأخرج لنا كتاباً ضخماً في فقه السيرة ذكر في مقدمة الطبعة الثالثة له أنه لم يسجل من الأحداث إلا أهمها أو أصحها لسببين:

"أولهما: أن هنالك أموراً لا تتحمل التعليق عليها بالتحليل أو استنباط المبادئ والأحكام، وإن كانت لا تخلو من عظة أو عبرة ينبغي أن يعيها القارئ." لأنه لا يقصد إلى حشد مزيد من القصص وأحداث التاريخ والسيرة وإنما يهدف إلى دراسة هذه الوقائع لاستنباط المبادئ أو الأحكام منها.

ثانيهما: حجم الكتاب.

وفي مقدمة الطبعة الثانية يقول:

"قد سلكت في كتابة السيرة النبوية، والتعليق عليها مسلكاً من شأنه أن يصحح أغلاط كثير ممن كتبوا فيها في هذا العصر، كالمستشرقين والمستغربين من أقطاب مدرسة ما زعموه (الإصلاح الديني) كالدكتور محمد حسين هيكل، ومحمد فريد وجدي ممن استخذت نفوسهم، وانهارت أفكارهم أمام الانبهار بالعلم الحديث".. ولذلك أراد أن يقدم على إزالة بقية الأطلال القائمة لتلك المدرسة:

"فضلت أن أسير في كتابة هذه الأبحاث على المنهج المدرسي القائم على استنباط القواعد والأحكام، مبتعداً عن المنهج الأدبي التحليلي المجرد... لأن مجاله الجامعة"..

وهو لا يريد أن يفيض في ذكر المسائل والأحكام ومتعلقاتها إلى الحد الذي يشق معه على القارئ أن يقرأ الكتاب كله لقاء جهد يسير، بل ستقل فائدة الكتاب، وسيغدو مرجعاً يستعان به عند المناسبات.

وقد قسم كتابه إلى سبعة أقسام، عرض في :

القسم الأول عدداً من المقدمات حول أهمية السيرة النبوية في فهم الإسلام، ومصادر السيرة النبوية، وسر اختيار الجزيرة العربية مهداً لنشأة الإسلام..

 وفي القسم الثاني تحدث عن حياة الرسول من الميلاد إلى البعثة..

 وفي القسم الثالث من البعثة إلى الهجرة..

وفي القسم الرابع تحدث عن أسس المجتمع الجديد..

 وفي الخامس عن مرحلة الحرب الدفاعية..

 وفي السادس عن الفتح، مقدماته ونتائجه..

 وأخيراً ختم الكتاب بشكوى الرسول صلى الله عليه وسلم ولحاقه بالرفيق الأعلى.

والمنهج الذي ارتضاه لنفسه، هو أن يذكر الأحداث، ثم ينتقل منها إلى ما يسميه (العبر والعظات) وأحياناً كان يترك عنوان العبر والعظات وهو يتابع في هذا الدكتور السباعي الذي سبقه إلى انتهاج مثل هذ المنهج وهو في هذا يريد تبيان أهمية السيرة النبوية في فهم الإسلام، إذ يقول:

"ليس الغرض من دراسة السيرة النبوية وفقهها، مجرد الوقوف على الوقائع التاريخية ولا سرد ما طرف أو جمل من القصص والأحداث ولذا فلا ينبغي أن نعتبر دراسة فقه السيرة النبوية من جملة الدراسة التاريخية شأنها كشأن الاطلاع على سيرة خليفة من الخلفاء أو عهد من العهود التاريخية الغابرة.

وإنما الغرض منها أن يتصور المسلم الحقيقة الإسلامية في مجموعها متجسدة في حياته صلى الله عليه وسلم بعد أن فهمها مبادئ وقواعد وأحكاماً مجردة في الذهن.

أي أن دراسة السيرة النبوية ليست سوى عمل تطبيقي يراد منه تجسيد الحقيقة الإسلامية كاملة في مثلها الأعلى محمد صلى الله عليه وسلم."(12).

***

أما الدكتور السباعي، فإنه كان يتوق إلى الفراغ الذي يتيح له فرصة الكتابة في السيرة النبوية وفقهها. لأنه يعتقد أن "دراسة سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم دراسة عميقة واعية ألزم ما تكون لقادة الدعوة وللجنود والأنصار... لأنها المدرسة الإلهية لكل قائد، وكل زعيم، وكل رئيس وكل حاكم، وكل سياسي، وكل زوج، وكل أب.. فالرسول محمد هو المثل الإنساني الكامل لكل من أراد أن يقترب من الكمال في أروع صوره، واتجاهاته، ومظاهره".(13).

وعندما أتيحت له هذه الفرصة – واحسرتاه –وهو يعاني من آلام ذلك المرض العضال الـذي  أعيا مهرة الأطباء فـي الداخل والخارج، أقبل على السيـرة النبوية، يكتب فيها، ويستقريها، ويـتعلم منها،ثم ينطلق يعلم الآخرين، فكان أن أخرج لنا (مذكرات في فقه السيرة النبوية) التي ألقاها محاضرات على طلبة كلية الشريعة بجامعة دمشق (1381هج/1962م) والدارس لهذه المذكرات يحس حتماً بأنه أمام رجل كان يديم النظر في التاريخ، دون أن ينسى الحاضر... بل إنه ليعرف أن  الرجل ما درس الماضي إلا ليسقطه على الحاضر، فهو عندما يتحدث عن سقوط الحضارات  القديمة، لا ينسى سقوط الحضارة الحديثة، فيقول: "الذين يتخذون من اتجاهات أهل الحضارة اليوم مقياساً للصحيح والفاسد يخطئون, فالحضارات القديمة وحضارة اليوم، كان انهيارها نتيجة اتجاه

الجماهيرنحو الانحلال أو الفوضى"(14) وها هو ذا كتابه الرائع (من روائع حضارتنا) دليل ضخم على صحة ما نقول، فهو يذكر بعض معالم حضارتنا، وخصائصها، مستدلاً عليها بآيات قرآنية، وأحاديث نبوية، مستشهداً عليها بالعديد من الحوادث التاريخية الثابتة، كما يستشهد بأقوال الغربيين  الذين حاولوا إنصاف حضارتنا، ثم يذكر طرفاً من ظلام الغرب وحضارته، مقارناً بين نورنا وظلامهم، راداً على افتراءات المفترين منهم. وتراه أحياناً يذكر بالمبادئ الحضارية في تشريعنا،  ثم ينتقل إلى الجانب التطبيقي العملي في حياتنا، فيرى واقعنا منسجماً مع مبادئنا الحضارية، بينما لا نرى مثل هذا الانسجام في حضارات الآخرين ولذلك، "إنا لنجزم بأن الزمام قد أفلت من رجال  الدين وعلماء الأخلاق والاجتماع عندهم، وأن القطار قد فاتهم، وأن الكارثة تستفحل يوماً بعد يوم، حتى تأتي النهاية الطبيعية لهذه الحضارة." (15).

ولقد بدأ الغربيون يدركون إفلاس حضارتهم من الناحيتين: الروحية والأخلاقية، وأخذ كثير منهم يتجه نحو الشرق، عله يجد في دياناته ما يسد فراغه الروحي، ويرده إلى إنسانيته الكريمة.. لأن حضارتهم فقدت جمال الروح، وجمال الذوق الفطري، وجمال الخلق، ولذا يرى السباعي أن أمتنا هي الأمة الوحيدة التي تستطيع القيام بالدور الحضاري المرتقب للأسباب التالية :

أولاً: لأننا نحمل أرقى عقيدة تستطيع أن تسهم في بناء الحضارات، وهي عقيدة التوحيد .

ثانياً: لأننا أصحاب روحانية إيجابية بناءة، روحانية إلهية تلازم كلاً في عمله وأحواله كآفة .

ثالثاً: لأننا أثبتنا في الماضي قدرتنا على إنشاء مثل هذه الحضارة المرتقبة .

وما دامت حوادث التاريخ، تصنعها يد الله بآراء المفكرين، وصيحات الأنبياء والمصلحين، فليكتب ولينشر ما في حضارتنا من روائع، أو بعض ما فيها، دليلاً على استطاعتنا بناء حضارة أكمل وأسمى من هذه الحضارة، وأن نذكر الجيل الجديد من أبناء أمتنا، بواجبهم في بناء حضارة إنسانية كريمة، كما بنى آباؤهم أمثالها، وهذا أنسب الأوقات لمثل هذا التذكير، فأمتنا تدخل الآن باب التاريخ من جديد، دخولاً كريماً، فيه كل تحفز وانطلاق لبناء مستقبل أفضل وأكمل، وفي أمتنا بقايا من سجايا الآباء والأجداد، فإذا سمعت حديث أمجادهم، وآثارهم، وحضارتهم، هزها ذلك هزاً عنيفاً، ودفعها إلى العمل دفعاً حثيثاً"(16).

فالتاريخ وإعادة كتابته، للتذكير بأمجاد الماضي، ليس من قبيل التغني الكسلان بتلك الأمجاد، بل ليكون كل ذلك حافزاً للهمم، مثيراً للعزائم.. لكي يستمر الحفدة فيما بدأه الأجداد، يقول الدكتور السباعي: "وإذا كنت قد عرضت في هذا الكتاب، نماذج من روائع حضارتنا، فإني لأرجو أن يتم الدارسون لتاريخ حضارتنا ما بدأته من عرض هذه الروائع، بشكل أتم، وبحث أوفى، وبيان أبلغ وأنصع، لإعطاء جيلنا الحاضر صورة حقيقية كاملة الروعة عن هذه الحضارة التي كانت تشع النور، وتبعث الحياة في القرون الوسطى، فلا حاضر لأمة تجهل ماضيها، ولا مستقبل لأمة تنكر خصائصها وفضائلها، وهي مما تتصل بالحضارة بأوفى سبب وأقوى نسب.. وإذا كان الوقوف على الماضي للبكاء عليه والنحيب، هو شغل الكسالى والعاطلين، فإن تجاهله وازدراءه، مع ما يفيض به من خير واسع، ونور رحيب، هو شأن الحاقدين أو الجاهلين.. ومن الخير أن نستفيد من كنوزنا في بناء نهضتنا العتيدة، لتكون النهضة مأمونة العواقب، غنية بما يمد لها من أسباب النجاح والبقاء، واضحة الملامح فيما تهدف إليه من كرامة وهناءة، متصلة أمجادها بأمجاد الماضي، لتتصل أمجاد المستقبل بأمجادها، فيستمر الموكب، وتنسجم الحلقة، ويكتمل البناء.."(17).

وهذا الربط الوثيق بين الماضي والحاضر، هو دأب السباعي الداعية، لا يكاد يخرج عنه في كتاباته التاريخية كلها، ففي (مذكرات في فقه السيرة) لا ينسى أن يرد على الغلاة من أعداء الإسلام، كلما سنحت له الفرصة، مستخلصاً ردوده من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، كرده على الغلاة من دعاة القومية العربية. كما تجد مثل هذا في التوجيهات التي يصدرها للدعاة إلى الله فيما يستخلص من دروس وعظات، حتى ليمكن القول: إن هذه المذكرات جد ضرورية لأولئك، فهي توجيه وتوعية قبل أن تكون دراسات في السيرة وفقهها.

وقد اعتمد السباعي نهجاً جميلاً في تأليف المذكرات، وهو أنه يقدم الوقائع التاريخية، وكلها وقائع ثابتة استقاها من أمات المصادر الموثوقة، لأنه يرى "من المسلم به في علم التاريخ الحديث أن حقائقه لا تؤخذ إلا من مصادر التاريخ الثابتة والموثوقة، فمن استمد وقائعه من مصادر غير موثوقة، لم يكن لبحثه أية قيمة علمية، ولا لمن يفعل ذلك، مكان بين العلماء المحترمين.." (18) ثم يلي ذلك (الدروس والعظات) التي يستخلصها من تلك الوقائع، وهي جميعاً، جوانب تخص الدعوة والتربية، وتهم الدعاة والمربين، فهي بمثابة التذكرة لهم ولكل العاملين في حقل الدعوة.

وأستطيع أن أقول: إذا كان الكتاب صورة نفسية للمؤلف، وقطعة من قلبه، يؤثر بقدر ما يكتبه المؤلف عن عقيدة واقتناع، وتأثر وانطباع، وبقدر ما يعيش في مادته ومعناه.. فإن كتب السباعي هي السباعي نفسه..

ولا بد لي قبل أن أنهي هذه المقدمة في التاريخ وكاتبيه من أن أشير إلى تلك الخواطر الرائعة التي كانت تنثال على خاطر السباعي وهو على فراش المرض.. تلك التي جمعها في كتابه البديع (هكذا علمتني الحياة) مما يتعلق بالتاريخ، فهي تضيء رؤيته للتاريخ، لأنها إنما انبثقت من أعماق قلبه المؤمن، وإليكم بعض روائعها:

"إذ أحب الناس إنساناً كتموا عيوبه، ونشروا حسناته، فكيف لا ينشر المؤمنون فضائل رسولهم، وليست له عيوب.."

وفي مجال المقارنة بين رسول الله والأنبياء يقول:

"لئن شق موسى بحراً من الماء فانحسر عن رمل وحصى،

لقد شق محمد صلى الله عليه وسلم بحوراً من النفوس، فانحسرت عن عظماء خالدين،

ولئن رد الله ليوشع شمساً غابت بعد لحظات،

لقد رد الله بمحمد إلى الدنيا شمساً لا تغيب مدى الحياة..

ولئن أحيا عيسى الموتى ثم ماتوا،

 لقد أحيا محمد أمماً ثم لم تمت.." ولن تموت بإذن الله تعالى .

وهو يرى أن محمداً هو المثل الأعلى الذي ينبغي على الشباب ان يتأسوا به، فيقول:

"لم يتفرد محمد صلى الله عليه وسلم بأنه يمثل الكمال الإنساني المطلق من جميع نواحيه فحسب، بل هو يمثل النجاح المعجز في تربية النماذج الإنسانية الكاملة من الأفراد، والأمة الإنسانية الكاملة، مما بين الشعوب، فمن مثل محمد صلى الله عليه وسلم؟ من مثل محمد؟.."

"فيا أخي المسلم، كن مثل محمد صلى الله عليه وسلم ما استطعت، تلحق به في ركب الخالدين..

 كن صورة موجزة عنه، فمثل محمد تماماً، ما كان ولن يكون في التاريخ، لأن إرادة الله اقتضت أن تكون للإنسانية شمس واحدة تطلع كل يوم..".

 "لم يخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعده ابناً يرث رداءه، ولكنه خلف من بعده، ما بقيت الأرض، أجيالاً تحمل لواءه، كلنا أبناء محمد وبناته، كلنا آله وورثته".

"لم يجىء رسول الله إلى الدنيا ليكون ملكاً عليها، فنرث عنه الملك، ولكنما جاء ليكون قائداً لها فنحن نرث عنه القيادة.".

"إذا أردت أن تلحق بالعظماء، فعش معهم، وخير عظيم في التاريخ الإنساني كله، تعيش معه، هو محمد صلى الله عليه وسلم فاقرأ سيرته بإمعان وتدبر كل يوم إن استطعت، وزره كل عام إن قدرت..".

"ليس الخلود أن يتحدث التاريخ عن الخالدين، ولكن أن تسري أرواحهم في الأحياء المتعاقبين، وأن تعمل أخلاقهم عملها في كل عصر على مر التاريخ، ولم يجتمع ذلك لعظيم كما اجتمع لمحمد صلى الله عليه وسلم".

 "لولا أن التعصب الذميم يغطي على أبصار هؤلاء الغربيين، لوجدوا في شريعة محمد وسيرته، ما يأخذ بيدهم إلى الأمن مما يتهاوون فيه من شقاء، ولكن الله لم يرد لهم هذا الخير ولعله ادخره لأمة أخرى، تكون أبر بالإنسانية، وأحنى على جراحها، وأهدى إلى حل مشكلاتها من هؤلاء المتعصبين المغرورين".

وفي الهجرة النبوية وعظمتها يقول:

"الهجرة النبوية جمعت بين روعة الكفاح والفداء واللقاء، وعظيم الأثر في تحويل مجرى التاريخ لا جرم أن كان عمر والصحابة، بعيدي النظر، حين اعتبروا الهجرة بدء التاريخ الإسلامي.

بل "ليست الهجرة بدء التاريخ الإسلامي فحسب، بل هي بدء التاريخ الإنساني الذي ولد فيه الإنسان ولادة جديدة".

"فالهجرة كانت قبراً للباطل العنيد، ونصراً للحق الجديد..

"ولولا الهجرة لما كانت دمشق وبغداد، وقرطبة والزهراء،

 ولولا الهجرة لما كان خلود العرب في التاريخ،

 ولولا الهجرة لما استيقظ العرب بعد سبات عميق".

وفي مجال الحضارات وأسباب نشوئها وارتقائها، وأسباب ضعفها وانهيارها يقول، وعينه على الواقع المعيش في دنيا العرب والمسلمين:

"سلو التاريخ هل أفل نجمنا إلا يوم سطعت نجوم المغنين، وقويت دولة الراقصات في سماء حضارتنا".

"ليسأل التاريخ هؤلاء الذين يزعمون أنهم يريدون النهوض بأمتنا، ولا ينفكون عن تحطيم كيان الأسرة عندنا، هل انهارت أقوى الأمم حضارة في التاريخ، إلا حين سادت فيها مثل آرائهم الجنسية، وفلسفتهم في قضية المرأة.."

"في كل حضارة من الحضارات علماء عكفوا على اكتشاف المجهول، ومفكرون أبدعوا في توسيع آفاق المعرفة، وأدباء سموا بالعواطف إلى ميادين النبل، وفيها أيضاً عشرات الألوف ممن أشبعوا رغبات الجماهير بالغناء والرقص والإثارة الجنسية.. فهل خلد إلا أولئك العلماء الصامتون والمفكرون الصادقون، والأدباء الإنسانيون..".

 "ما رأيت تاريخاً صنعته الشهوات والملذات، ولكن دعاة الشهوات والملذات عندنا يزعمون أنهم يصنعون تاريخنا الحديث، فهل هم جاهلون أم متآمرون، أم جمعوا بين الجهل والتآمر؟".

وفي مجال صناعة التاريخ وصانعيه يقول:

"الشباب يصنعون التاريخ بقلوبهم،

والعلماء يصنعونه بعقولهم،

والحكماء يصنعونه بأرواحهم،

 فإذا تعاون القلب والعقل والروح على صنع تاريخ، كان تاريخاً لا ينطفئ نوره، ولا تخبو ناره، وكذلك صنعنا التاريخ أول مرة.."

كما يحلو له – رحمه الله رحمة واسعة – أن يقارن بين رجال الدعوة في الأمس واليوم، ليرى البون الشاسع بين هؤلاء وأولئك فيقول:

"جنود الدعوة الأوائل تلقوها من مصدر قوتها، وعذب معينها، لا جرم أن كانت قوة الدفع أشد ما تكون انطلاقاً، وعذوبة المشرب أصفى ما تكون نقاء.. أما جنود الدعوة الأواخر فقد تلقوها من قوة يشوبها ضعف، ومعين ممزوج بكدورة، لا جرم أن كانت قوة الدفع أضعف، وصفاء المعين أقل.

"جنود الدعوة الأوائل كانوا يقلون من الجدل، ويكثرون من العمل، وكانوا يبخلون بالأقوال، ويجودون بالأموال، وكان عزمهم على الجهاد مستعلناً، وإخلاصهم فيه مستخفياً، وجنود الدعوة الأواخر يكثرون الجدل، ويقلون من العمل، ويجودون بالأقوال ويبخلون بالأموال، وإعلانهم للدعوة مجلجل، وهم في الجهاد من أجلها على وجل.. لا جرم أن اختلف الأثران، مع التقاء الطريق، وتباين المنهجان، مع وحدة الهدف..

"والمؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير"..

و"أعظم مصيبة للحق في جنوده اليوم، فتور عزائمهم، وقد كانوا يكهربون الدنيا بنبضات قلوبهم".

رحمك الله يا سيدي وأستاذي العظيم، فقد عشت عظيماً، وستحشر أمة وحدك، فقد كهربت دنيانا يوم كنت بيننا، وكهربتها يوم غادرتها، وستبقى تكهربها بآرائك الثورية، وستبقى المثل الذي ندعو الأجيال لاقتفاء آثاره، والتأسي بألوان عظمته... إن أفكارك لتصنع عمالقة، وتلاميذك على دربك، وأنت – يا سيدي – المنار..

رحمك الله في الأولين، ورحمك الله في الآخرين، والسلام عليك في الخالدين..

2/2/1972

وسوم: العدد 825