الخطاف وحده لا يصنع الربيع

لا يختلف إثنان في أنّ تونس اليوم تعاني وضعا اجتماعيا حرجا، مقدرة شرائية متدحرجة وضعيفة للغاية، أزمة اقتصادية حادّة وغير مسبوقة أدّت إلى تدنّي قيمة الدينار. هذا عدا الوضع السياسي غير المستقر. وقد غدت هذه المؤشرات غير المطمئنة حديث الساعة في كلّ المنابر دونما استثناء. إلّا انّ ما يلاحظ  في هدا الخصوص أنّه كلّما فتح باب النقاش لمعرفة أسباب وجذور الأزمة إلاّ وأرجع المتكلّمون السبب إلى الأحزاب الحاكمة، وخاصّة منها الثورية، التي لم تحسن -على حدّ قولهم-إدارة الأزمة وأوصلت البلاد إلى حافة الإفلاس الاقتصادي وإلى وضع شبه كارثي. هذه هي خلاصة الرؤية التحليلية أو الفكرة السّائدة في الإعلام وفي عديد مواقع التواصل الاجتماعي، لا بل وحتّى في أذهان شرائح واسعة من المجتمع التونسي. وما احتجاج امرأة على الشيخ راشد الغنّوشي وهو على متن الطائرة وتحميله والإسلاميين مسؤولية ما آلت إليه البلاد إلاّ دليل على ذلك. ولكن هل صحيح أنّ الأحزاب الحاكمة وخاصة منها الثورية والإسلامية هي المسؤولة عن تعدّد وتفاقم الأزمات الحاصلة بعد الثورة ؟ ومنها على سبيل الذكر لا الحصر، أزمة التعليم وأزمة الصحّة وأزمة البطالة وارتفاع الأسعار وهبوط الدينار بشكل رهيب وتنامي ظاهرة التهريب وتدنّي القيم ؟ للإجابة عن هذا السؤال حريّ بنا أن نطرح السؤال بطريقة أخرى: لنفترض جدلا أن هناك حزبا سياسيا أعضاؤه من خيرة ما أنجبت تونس من علماء وخبراء مختصّين في كل المجالات، قادر على إيجاد حلول جذرية لكل ما تعيشه البلاد من أزمات، وتسلّم له إدارة شؤون البلاد. فهل بإمكانه موضوعيّا تحسين ظروف عيش التونسيين ووضع قطار التنمية على السكّة في غضون بضع سنين فقط ؟ قطعا لا. و ذلك على الأقل للأسباب التالية :

1)       لأنّ ما تمّ تدميره من اقتصاد وتعليم وقيم على مدى 60 سنة لا يمكن إعادة بنائه في بضع سنين. فالأمم والشعوب لا تسقط وتستيقظ بين عشية وضحاها كما يشير إلى ذلك علماء الاجتماع. وما نحن فيه اليوم من غيوم وهموم وتدنّ  خطير للقيم وهبوط منسوب قيمة وثقافة العمل، وانهيار التعليم والاقتصاد والدّينار هو بالتأكيد ليس وليد اليوم وإنّما هو انعكاس طبيعي بل وحتمي لعقود من الفساد والاستبداد والحيف الاجتماعي وتجفيف المنابع.

2)       لا يمكن في ظلّ هكذا ثورة مضادّة شرسة تحقيق الإصلاح المنشود في زمن قياسي، خصوصا في ظلّ دولة عميقة لاتزال ممسكة بخيوط إدارة الساحة السياسية وجذّورها ممتدّة في أغلب مفاصل الدولة.

3)    لأنّ أغلب الأحزاب الموجودة على الساحة تمارس المعارضة غير البنّاءة. وهي لا تختلف في شيء عن حزب التجمع الدستوري الديمقراطي : تعارض من أجل المعارضة بحيث تعارض لتقول فقط 'نحن هنا' ومن أجل الإيهام بأن قطار التنمية لا يمكن أن يسير بدونها. فإن اتجه الحزب الحاكم يمينا اتجهت هي شمالا. وإن اتجه شمالا اتجهت هي يمينا. وإن حكم لوحده رمته بالتغوّل وبمحاولة الانفراد بالحكم. وإن  تمّ استدعاؤها للمشاركة في الحكم اشترطت عليه تحقيق برنامجها السياسي.

4)        لا يمكن تحقيق الاستفاقة المرجوة في ظلّ وعي شعبي هزيل ودون المستوى المطلوب. وفي ظلّ شعب يفكّر ببطنه وبنصفه السفلي. فردود أفعال العامّة (وبعض الخاصّة)  من قبيل  'في عهد الزين كنّا خير' و 'في عهد الزين الكيلو الموز بدينار والآن أصبح بستة دنانير'، توحي بأنّ هذا الشعب مازال لم يخرج بعد من ثقافة ودائرة القطيع التي تربّى وأجبر عليها على مدى عقود من الاستبداد وتجفيف المنابع. فكثير من العامّة ومن المثقّفين تذكّروا أنّ كيلو الموز كان يباع في عهد المخلوع بن علي بدينار واحد ولم يتذكّروا جرائم الاغتصاب والقتل والتعذيب النفسي والجسدي التي كانت تقترف في حق المناضلين والمناضلات !!! فهل يمكن تحقيق التنمية وبلوغ التوازنات المنشودة في كل المجالات بهكذا شعب وبهكذا وعي ؟؟؟ قطعا لا. فلا يمكن تحقيق منوال تنموي ناجح و تحقيق الازدهار المأمول والإقلاع الاقتصادي المنشود في ظلّ وازع ديني وأخلاقي ووطني ضعيف وفي ظلّ همم حقيرة  تختصر همّها في بطونها.  ولو أخذنا شاهدا على صواب هذه المقاربة نسوقها من التاريخ الإسلامي المضيء  لآعتبرنا أنّ عمر ابن الخطّاب رضي الله عنه الذي كان يعتبر  فلتة من فلتات الدّهر في العدل والمساواة بين النّاس، لم يكن لينجح في إدارة شؤون الأمّة وفي تحقيق العدل والمساواة لو لم يجد البيئة الخصبة المناسية والحاضنة التي تساعد على تحقيق كلّ ما يحمله من أفكار إصلاحية قيّمة ومشاعر راقية.

وسوم: العدد 826