كمال رشيد رجل فقدناه
وقد يسأل سائل: وماذا في فقد رجل؟ فنحن نواري الثرى مئات الرجال في كل يوم، وقد يستشهد بقول المعري الحكيم:
صاح هذي قبورنا تملأ الرحب فأين القبور من عهد عاد؟!!
ويغيب عن ذهن هذا السائل: أن رجلنا هذا هو كمال رشيد، وليس غيره من أولئك المئات بل الآلاف، فقد يكون رجل في أمة، وأمة في رجل.. ولهذا نحن نأسى ونبكي الرجال الرجال، في زمن عز فيه الرجال..
-1-
إنه الموت يعتام الكرام من الرجال، ويصطفي من نحن في مسيس الحاجة إليه من البدور، في ليالينا المحاقية.. في ليالي غزة والضفة والقدس التي يبيت لها الأعداء ما يبيتون من مكر الليل، وكيد النهار.. من عدة وعدد.. من أسلحة فتاكة... نووية، وفسفورية، وما لا يخطر إلى على بال شياطين أوروبا وأمريكا ورأس حربتهم الصهيونية المصنعة من ثقافة الكراهية، والأحقاد الدينية التاريخية، والإجرام الذي يتغيا الفتك ببني البشر، وأولهم العرب والمسلمون، فيما العرب والمسلمون يحيون بل يعيشون حالة من العجز، والتخلف، والاحتراب البيني، ما يشمت الأعداء، ويميت الثكالى من الضحك.. عدوهم يبني المفاعلات النووية، والمصانع الحربية الثقيلة والخفيفة، وهم يبنون السجون والمعتقلات، ويزجون ذوي العلم والعقل والحكمة فيها.. يزجونهم في أقبائها المظلمة، ليموتوا في كل يوم عشرات المرات، تحت السياط التي هي أخف أنواع التعذيب، ومن ينجو بنفسه من هؤلاء، يلتحق ببلاد (برة) ليأمن على نفسه وعرضه وولده، وليقدم ما عنده لغير شعبه وأمته، وهذا ما يدعوه الناس: هجرة العقول العربية، وبها يكون الخسران المبين لأمتنا المنكودة الحظ بالعديد من أبنائها، كما هي منكوبة بأعدائها الذين تداعوا عليها من كل حدب وصوب.
عندما كنا نسهر الليالي الطوال مع غزة الصمود والعزة والجهاد والاستبسال. كانت صورة كمال رشيد ماثلة للعيان، أراها في أقلام الأحرار الذين يكتبون عن غزة، وعما تعانيه من وحشية وحوش البشر، حثالة البشر، أوشاب البشر، يقدم لهم أوباش البشر، من أصحاب الوجوه الصفر، والعيون الزرق، والشعر الأشقر، ويعينهم السود والسمر.. يقدمون لهم ما يحرقون به غزة ومئات أمثالها.. فأصيح: أين أنت يا أبا بلال؟ أين قلمك؟ أين قصائدك؟ ألا ترى ما يفعل المجرمون الآثمون بغزتك؟ بشيبها وشبابها، وبأطفالها ونسائها؟
لقد عهدتك مقاتلاً عنيداً، ومنافحاً رشيداً عن أهلك وعرضك وأمتك.. عهدتك وعهدك كل من عرفك، تقاتل بلسانك، وقلمك، وفكرك، وعقلك، وقلبك، ويدك ورجلك، بمواقفك، وفي مجالسك، ومحاضراتك، وقاعات المؤتمرات، والجامعات والمدارس.. مع طلابك، مع زملائك، مع أهلك وأقاربك وجيرانك.. فأين أنت الآن لتقف في وجه العاصفة، ولتشارك في الزلزال الذي ينتظر الناس بعد غزة؟ لا بد أن تشارك فيما بعد غزة، فلغزة ولياليها الفسفورية والنووية ما بعدها.. فمن سيحشد الحشود لها غير قلمك، غير شعرك يا شاعرها، وشادي آلامها وأحزانها، ويا مقيماً لها معالمها وصواها حتى لا تضيع في حراكها الجهادي، ولا تشوب مبادئها وقيمها شائبة تفد إليها من شرق أو غرب، بعد تكاثر المفترين عليها..
صحيح.. أنت دمث، هادئ، متزن، لطيف، مرح، وصحيح أيضاً أن لك غضبة الأسد إذا غضب، وصيال الفارس إذا صال وجال، والقدس في قلبك، وفلسطين كلها قدس.. وهي الآن أشد حاجة إلى صولاتك وغضباتك، وإلى فكرك وتخطيطك وتقديرك، إلى جانب إخوانك.. إخوان العقيدة ورفاق الدرب والمصير. إنهم يفتقدونك الآن.. يفتقرون إلى الرجال من أمثالك.. إلى من يبذل كل ما في وسعه من أجل غزة الأمل. والقدس الشريف، وفلسطين الغالية، التي يئن شطرها تحت وطأة الصهاينة المجرمين، ويستغيث شطرها الآخر من وطأة الأنذال..
الأقصى يناديك يا أبا بلال، فهل أنت مجيب؟..
إنها معركة الكرامة، كما هي معارك الحرية والتحرير.
ولهذا أنت وأصحاب النجدات، سوف تسمعون صيحات المستغيثين والمستغيثات: يا شموخ الإيمان في أهل الإيمان من الرجال.
-2-
إن كمال رشيد – تغمده الله بفيض رحمته ورضوانه- كان يحمل هموم أمته، وفي طليعتها هموم فلسطين وأهلها وقضيتها.. وقضية تحريرها من المغتصب الصهيوني، كما يحمل هموم نفسه، وأسرته الصغيرة.. وهذا ما نطالعه في كل ما كتب من شعر ونثر، وما كنا نطالعه في أحاديثه، وما كنا نقرؤه في عينيه الساجيتين الحالمتين بغد أفضل من هذا الحاضر البئيس التعيس الذي يبعثر الأمة وأحلام أبنائها، وكان حقها أن تلتقي لتزن الجبال تخطيطاً للغد المأمول في تحرير الأرض، وتحرير العقول التي سكنتها سواكن تستعصي على الطرد بعيداً عن الله ودينه القويم.
كان كمال رشيد يحيا بين التفاؤل والإحباط، وهو يعاني ما يعاني في تربية الأجيال.. إنه يريدها صاعدة إلى المجد، ويأمل فيها الخير لمستقبل الأمة التي تفتقر إلى الرجال، فيسعى إلى بناء الرجال، وتأليف الرجال، وتربيتهم ليكونوا كما ينبغي لهم أن يكونوا، من أجل التحرير والبناء، وقد يصاب بالإحباط مما يرى من انصراف الكثير من الشبان والشابات إلى الغثاثة والغثائية، هرولة وراء حميا الشهوات والمال، والاقتتال على سفاسف الأشياء وتوافه الأمور. وهذا ما كنا نسمعه في بعض مجالسه، ونطالعه في بعض شعره ونثره، وهو الأديب المفكر، والأديب السياسي، والأديب الإعلامي، والأديب الداعية إلى الإسلام وما فيه من خير، وكله خير للبلاد والعباد..
إن عمل الدكتور الرشيد في المناهج، والتخطيط، أضاف إلى حياته الأدبية والفكرية إضافات مهمة، وأكسبه خبرات في التفكير المنظم. وفي التنظير، وفي العمل بوعي ممنهج، فكانت طريقه لاحبة في الوصول إلى ما يريد الوصول إليه، فلا يخبط خبط عشواء، كدأب كثير من الأدباء والشعراء والفنانين، بدعاوى سخيفة حيناً، مبتذلة في أكثر الأحيان.
-3-
كتب أصدقاء الفقيد الحبيب كمال رشيد في هذا الكتاب عن بعض ما عرفوه فيه من سجايا وشمائل وقيم، وياليتهم وياليت أصدقاءه وعارفيه وزملاءه وتلامذته وأهله، ويكتبون كل ما عرفوه عنه، لتنشر في رسائل وكتب، أو لتقدَّم إلى نجله الدكتور بلال –الواعد بالكثير- من أجل اكتمال صورة الكمال الرشيد بأبعادها الحسية والمعنوية.. النفسية، والجهادية، والكفاحية، والعلمية، والأدبية..
لو تهيأ لنا هذا، لأفاد الناس منه علماً، وأدباً، وتجارب حيوية، ولما ضاعت أخباره، ونسيت أعماله، ولما استطاع أحد الافتئات عليه، ولحفظ لهذه الأمة أخبار رجالها، ولعرفه من لم يعرفه ولم يلتقه.
إنني – في هذا التقديم لهذا الكتاب المهم- أود أن أقترح على نجله الدكتور بلال، أن يبادر إلى جمع آثار أبيه –رحمه الله تعالى- من الصحف، والكتب، ومن سائر وسائل الإعلام، وإلى تقصي أخباره من أصدقائه ومعارفه، وتلاميذه، وزملائه، وأهله، وجيرانه بزيارتهم، والجلوس إليهم، ومحاورتهم حول ما يعرفونه عنه رحمه الله.
هذا الكتاب خطوة في الطريق الصحيح، أرى أن تتلوها خطوات، فأدعو بلالاً إلى جمع الآثار المخطوطة والمطبوعة لوالده المعطاء، وإصدار (ديوان كمال رشيد) الأعمال الشعرية الكاملة، في مجلد واحد وجمع آثاره النثرية، وإصدارها في مجلد أو مجلدات، وأعماله التي كتبها لفلذات الأكباد.. بحيث لا يفلت منه عمل واحد، وأرجو من الأدباء والكتاب والشعراء، المساعدة في ذلك.
كما أرجو طلبة الدراسات العليا في الجامعات العربية والإسلامية، أن يبادروا إلى تسجيل رسائل عن كمال رشيد الشاعر، وكمال رشيد كاتب الأطفال، وكمال رشيد الداعية، وكمال رشيد السياسي، والإعلامي وهكذا.. ولعل الدكتور بلالاً يعين الدارسين بجمع آثار والده رحمه الله تعالى.. فهل من مجيب؟
أرجو ذلك، ولعلي ولعلنا نؤدي حق أخينا الحبيب علينا، بل بعض ما له حق علينا، وعلى الأدباء، والدعاة، والأصدقاء، والأقرباء، والسلام عليك –يا أخي الحبيب- في الخالدين.
وسوم: العدد 826