مشروعنا: أنسنة الثورة

حتى لا تكون الثورة الوجه الآخر لهمجيتهم وبدائيتهم

زهير سالم*

[email protected]

(1)

لا نقصد من مشروع ( أنسنة الثورة ) الاستغراق في المعاني الفلسفية والفكرية التي يطرحها البعض تحت عنوان ( الأنسنة ) ، كما لا نقصد الانسياق وراء ما طرحه بعضهم عن ( أنسنة الإسلام ) بمعنى ( بشرنته ) أي إحاطة تجلياته الربانية المفتوحة على الزمان والمكان بقيود ( زمكانية ) من الإسقاطات البشرية ..

وبعد يبقى موضوع أنسنة الثورة السورية جزءً من مشروع أنسنة المشروع النهضوي الوطني السوري . يستحق أن تُشرح أبعاده ، وأن تُوضح ملامحه ، وأن يُؤكد على مفاصله ، وأن يتوافق السوريون على أهدافه وأطره ووسائله ...

ويصبح موضوع ( أنسنة الثورة وأنسنة المشروع الوطني ) أكثر ضرورة  وأهمية وإلحاحا في ظل تخلي العالم المتمدن عن الساحة السورية ، وترك السوريين فريسة لمشروع همجي متوحش يقوده بشار الأسد وشركاؤه الدوليون ( الستالينيون ) بكل وحشية الستالينية وقد خلا لها الجو ، والشركاء الإقليميون الطائفيون المكتنزون حقدا وكراهية تاريخيين عمرهما خمسة عشر قرنا ...

إن ما سطره عالم الفيزياء وليس الصحفي ( ستيفن هوكنغ ) في مقاله في الغارديان تحت عنوان ( ما يجري في سورية بشع ) في 17 / 2 / 2014 يختصر علينا الكثير من القول ، فقد حذّر أذكى رجل في العالم كما يلقب ، في مقاله من  تحالف الغرائز البدائية التي تتحكم في بشار الأسد وشركائه من الروس والإيرانيين وأتباع الولي الفقيه في لبنان والعراق مع التكنولوجيا الحديثةوأكد أن ما يجري في سورية هو خطوات إلى الوراء في طريق التمدن الإنساني .

لن ينتظر أحد من الشعب السوري أن يجيب على هذه الهمجية الغرائزية المدججة بكل أنواع الأسلحة المتطورة والفتاكة بباقات الورود والرياحين . لقد أسقطت همجية بشار الأسد وشركائه الدوليين العمليين والصامتين كل مراهنات السوريين على سلمية ثورتهم ، وحرصهم على هذه السلمية وتمسكهم بها . ولقد دُفع الشعب السوري والثورة السورية إلى المستنقع الكريه مستنقع الدم والبدائية والغرائزية رغم أنف الثوار الذين لم يجدوا وسط الخذلان الدولي العام غير الأسنة مركبا فلم يكن أمام المضطر إلا ركوبها ...

صحيح أن الحديد بالحديد يفلح ، كما تقول العرب ، وأنه لا يفل الحديد إلا الحديد ؛ إلا أن علينا جميعا أن نعترف أن المتضرر الأول من الارتدادات الحاصلة على طريق التمدن الإنساني حالا ومستقبلا هو الشعب السوري وثورته . وأن من حقنا أن نرفض أن نكون الوجه الآخر لتلك الهمجية والبدائية وأن نحذر ونحتاط لئلا نكون ، وندرك ونقر لأن المنزلق خطير ..

وإننا حين نلحظ دولا مستقرة تمتلك كل مؤسساتها السياسية والأمنية تتخوف من انعكاسات عودة بضعة أفراد من هؤلاء الذين ينبذونهم بالأوصاف المريبة إليها فكيف يمكن للسوريين أن ينظروا إلى مستقبل وطنهم وسط هذا السيل من فيضانات : النقمة والكراهية والحقد والدم ؟! وكيف يمكن للعقلاء أن يتغاضوا وهم وسط هذا المعترك الضنك عن حزمة المخاطر التي تأخذ على أجيالهم القادمة سبيلها للعيش الآمن المستقر الكريم ؟

وحين تتم هذه الارتدادات عن طريق المدنية الإنسانية تحت راية الإسلام وباسم مشروعه ممارسة وسلوكا وخطابا فإن الخطر ولا شك يكون أعظم ، وتداعياته الكارثية تكون أبعد أثرا على هوية الشعب السوري وذاتيته وانتمائه ومشروعه ويومه وغده ...

وهذا يرتب على القوى والشخصيات الإسلامية واجبات إضافية ثقيلة على الصعيدين النظري والعملي ، على صعيد الارتقاء بوعي الفرد كما الارتقاء بوعي الجماعة و المجتمع . لا يجوز للقوى الإسلامية والمجتمعية والسياسية السورية تحت أي ظرف أن تتماهى مع خطاب المرتدين مدنيا عن أفق الإسلام الإنساني المنفتح على الجميع . وإن ركوب موجة هؤلاء تحت أي اعتبار ستهوي بهؤلاء الذين يفرحون بها إلى الهاوية والخسران في الدنيا والآخرة ..

( التمدن الإسلامي ) ليس عنوانا نخترعه اليوم . لقد كان عنوانا لسيرورة تاريخية رافقت نشوء وارتقاء المجتمعات الإسلامية مع تبدلات الزمان والمكان في كل حين . قد لا يدرك أبناء هذا الجيل أن ( التمدن الإسلامي ) كان عنوانا لجمعية سورية ذات مشروع نهل أبناء جيلنا الكثير من معين مجلتها التي غذّت وعلمت وثقفت ...

 نشعر بالغربة اليوم حين  نتابع أشكالا من السلوك باسم الإسلام وباسم الثورة والثوار كما تمتلئ قلوبنا بالفزع حين نصغي لأحاديث بعض المتحدثين  . نعم نسمع خطابا نُّكرا يُتلى باسم الإسلام ومشروعه والثورة ورجالها خطابا لا عرفناه ولا ألفناه ، ولا بشر المبشرون به ولا تحدث حملة المشروع يوما عنه .

 إن استحقاق كل ذلك على رجال الفكر والدعوة السوريين منهم بشكل خاص المبادرة للأخذ بحُجز هؤلاء المتقحمين بالإسلام ودعوته والثورة ومشروعها إلى حيث لا يعلمون . هؤلاء المتقحمون بأنفسهم وبمجتمعهم وبوطنهم وبدينهم حيث أشار عليه الصلاة والسلام ( فأنا آخذ بحجزكم وأنتم تقحمون فيها .. ) في ثنائية الفراش والنار ..

الاستعصام بالآفاق الإنسانية للمشروع الحضاري الإسلامي بأبعاده كافة ، وإبراز مجالي الإسلام العظيم الإسلام الرسالة الرحمة والعدل والإخاء والحضارة والمدنية هو طريقنا إلى أنسنة مشروع الثورة وأول هذه الأنسنة التمييز بين مشروع بناء الثائر وبناء المريد ..

(2)

حين نتحدث عن استراتيجية عملية لأنسنة مشروع الثورة وبالأصل المشروع الوطني لسورية المستقبل فإن الحديث لا يدور عن بعد ( معرفي ) فقط  مع أن المعرفة الحقة هي مقدمة أساسية في هذه الاستراتيجية .

وحين يرقب المرء الساحة الإسلامية في العالم العربي عامة وفي سورية في الفضاء الثوري خاصة ويتابع حجم ( الغرائب ) التي تتداولها مجموعات وفئات وسبق لهم أن قالوا ( شر العلم الغرائب ) يتساءل أين كان الخلل في مدخلات كل هذا ؟! ومن المسئول عنه ؟! وكيف يتم تقويمه أو استداركه ؟!   

والمشكلة أن طرح هذه التساؤلات لا تثير الحاملين للخلل والمتلبسين به فقط ، وإنما تثير أيضا فريقا من الناس يبادر ليقطع الطريق عليك بالقول : ليس الآن ، أو ليس بهذه الطريقة ، أو ليس بهذا الوضوح والمباشرة ..

 وعائق آخر يقوم حجة عليك أن يبادر من لا ثوب له إلى توظيف ما تتحدث عنه من بقع ورقع في ثوبك كعملية تنظيف ورفو ، إلى اعتبار ما تسجله كاعتراف يستعمل كمادة إدانة أو تشهير . ولكن كل أولئك لا يجوز أن يمنعنا من الإقرار أن واقع الدعوة الإسلامية في عالمنا العربي والإسلامي ليس بخير . وأن الاستدارك للتصحيح والتوضيح أصبح واجب الوقت . وأن الظلم والبغي والفساد والاستبداد الذي يقاومه شعبنا بكل هذه التضحيات الجسام إذا مورس باسم الإسلام منهجه وشريعته وأهله سيكون أبشع وأشنع ..

وحين يشرح المدرس موضوعا ثم يجد عددا كبيرا من طلاب فصله لم يستطيعوا أن يدركوا مراده الحقيقي فعليه أن يتهم خطابه أو طريقته .

بناء الاستراتيجية الدعوية في فضاء العدمية السياسية لمجتمعاتنا على إدانة ما يفعله الطغاة والمستبدون والفاسدون قد أدى دورا ولكنه لم يضع في تصوره تقديم بديل عملي واقعي . والتعامل مع التاريخ كأنموذج موح ومؤثر ولكنه لا يجوز أن يكون دعوة للعودة إلى كهوف الأزمنة الغابرة . والشريعة الإسلامية والنصوص الربانية لا تنص على ذلك ، ولا تدعو إليه بل ولا ترضاه ..

أسلفنا أن استراتيجية أنسنة مشروع ثورتنا ومشروعنا الوطني ليس استراتيجية معرفية ولكن لا بد فيه من المقدمات المعرفية التي تكون بمثابة العتبات التي تنقلنا إلى مستويات جديدة من الوعي والإدراك ومن السلوك ومن الالتزام الجمعي بقيمنا الإسلامية المطلقة في أطرها الإنسانية والعصرية ..

إن البعد الأول لهذه الاستراتيجية التي يناط بدعاة الإسلام بشكل خاص التركيز عليها : ( البعد العقلي) الذي يركز على تربية العقل الناقد أكثر من الفرد المريد . المريد الذي لا يقول : لمَ ، أو الذي يطفئ سراج العقل ( والاقتباس هنا من الأدبيات الإسلامية والمسيحية ) ويتابع على غير هدى . والعقل الناقد ليس الذي يردد ويحفظ أو يُحفّظ أو يُسلّم ويستسلم بل العقل الذي يدرك ويستوعب ويميز ويسأل : لماذا وكيف ومن أين وإلى أين ..

العجيب الذي يمكن أن يثار هنا أن بعض الدول العربية التي استسلمت لإرادة شعوبها في إصرارهم على تحفيظ أبنائهم للقرآن الكريم  منعت من المعلمين المحفظين من شرح أو تفسير ما تحفظ هذه الأجيال !!!

وللأنسنة بعدها الفكري والثقافي ...

هي الاستراتيجية التي تخرج الضفدع من البئر الصغير الذي فقست بيضته فيه ، لتدرك شعوبنا معنى ( رب العالمين ) على الحقيقة ، ولتستوعب تجليات ( وسع كرسيه السموات والأرض ) وتفسر المعطى القرآني الأزلي الخالد على ضوء ( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ) .  المطلوب أن يُطل الفرد المسلم من القوقعة الصغيرة المخيفة وإن ظنها البعض آمنة ، على العصر والإنسان والفكر والمعرفة والثقافة في كل مجاليها  

 من الأبعاد المهمة في بناء الاستراتيجية الأنسنية إدراك البعد  الاجتماعي في المبادئ العامة لعلم الاجتماع ، الذي يعود لهذه الأمة شرف تأسيسه . العلم الذي يعلمنا أن أبناءنا لن يعيشوا في ثيابنا كما أننا لم نعش في ثياب آبائنا. علم سيرورة الحياة الاجتماعية وصيرورتها في الزمان والمكان أيضا . العلم الذي رمز له عمر رضي الله عنه في موقفين : في قوله : ربوا أولادكم على غير عاداتكم فإنهم خلقوا لزمان غير زمانكم . وفي إقراره لمعاوية بالفرق بين مجتمع دمشق ومجتمع المدينة المنورة  في نفس العصر الذي كانا يعيشان فيه . نتحدث كثيرا عن فقه الشافعي في العراق وفي مصر ( القديم والجديد ) وننسى أو نغفل أن جانبا من الاختلاف هذا هو جزء من الفقه الاجتماعي لهذا الإمام العظيم .

حين نتابع بعض حاملي ( الكرابيج ) اليوم يخطرون بين ظهراني الشعب السوري باسم الإسلام نتساءل أي ويل وأي ثبور يترصد بهذه الثورة وبهذا المجتمع . وهل خطر مثل هؤلاء بين ظهراني الناس في عهد رسول الله أو في عهد الأوفياء الراشدين من بعده ؟!

إن أنسنة البعد الاجتماعي في عقول جيل الثورة أمر أخطر من أنسنة البعد السياسي وأسبق من إعادة بناء المجتمعين الأهلي والمدني من مستشرف علمي إنساني على أهمية كل ذلك ...

ثم أنسنة التصور للدولة المشروع التي نسعى إليها الدولة التي تحمي وليس التي تقتل ، الدولة التي تعلم وليس الدولة التي تسيطر ، الدولة التي تصون وتحمي وترعى بالعدل والقسط والسواء الذي كفلته صحيفة المدينة لكل من كان على أرض المدينة . لا أدري  لماذا يصرون على أن يسقطوا من كتاب الله قوله تعالى ( فذكر إنما انت مذكر لست عليهم بمسيطر )

وأخيرا وإذا كان تسليح الثوار وعسكرة الثورة ثمرة اضطرار للشر الذي كتبه علينا المجرمون والمتواطئون والمتخاذلون فيجب ألا نغفل لحظة عن أنسنة العلاقة بهذا السلاح . السلاح الذي أردناه لحماية الحياة وليس لاستباحتها ...

أنسنة الثورة : إنسانها وفكرها وأهدافها ووسائلها ويومها وغدها استراتيجية متكاملة أول من يدعى إلى الجهر به وتبنيه والدعوة إليه والذود عنه وشرح أبعاده دعاة الإسلام وحملة رايته والناطقون باسمه من رجال الفكر والدعوة لأن كل العمليات الارتدادية إنما تحدث اليوم باسم الإسلام شريعته ومشروعه ومن جنود تخرجوا من مدرسته ..

استراتيجية متكاملة لها قواعدها النظرية ووسائلها وآلياتها العملية وآفاقها المتصورة للغد الجامع على الخير ..

 وهذه ضربة معول أول ..

               

* مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية