فقه الأولويات

محاضرة حول :

ذ. امحمد رحماني

[email protected]

بتاريخ : الأحد الثاني من شهر فبراير عام 2014 م

بالمركز الإسلامي بمدينة زايست

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

وبعد

فلكل عمل في الإسلام مرتبة ودرجة وقيمة معينة في المأمورات والمنهيات فهناك أعمال يطلب فيها التقديم وأعمال يطلب فيها التأخير ، والمشكل الذي أصاب الأمة في عصرنا هذا أننا أصبحنا نقدم ما يجب فيه التأخير ونأخر ما يجب فيه التقديم ونكبر الصغير ونصغر الكبير ونعظم الهين ونهون العظيم ، وهذا من أكبر الأخطاء في التشريع الإسلامي أن نجعل ما رقمه واحد رقمه سبعون فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول :"الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق" فلابد من المحافظة على ترتيب المنازل وهذا أمر فرط فيه المسلمون كثيرا وجر علينا عواقب وخيمة.

فمثلا نقدم الفرض على النافلة ونقدم فرض العين على فرض الكفاية ونقدم فرض الكفاية الذي لم يقم به أحد على فرض الكفاية الذي قام به الناس ، فرض كفاية أن يوجد بعض الناس يشتغلون بالفقه وفيه فرض كفاية أن يوجد بعض الناس يشتغلون بالطب ولكنه مما يعاب أن القرية الواحدة بها مثلا خمسون فردا يشتغلون بالفقه ولا يوجد مسلم واحد يشتغل بالطب إنما يعالج الناس من المسلمين والمسلمات أناس من غير المسلمين ، وهذا أمر نعيشه هنا بهولندا كل الجالية المغربية تعلم أبناءها ليكونوا محاسبين أو رعاة اجتماعين ولكن لا توجد عائلة واحدة تدرس إبنها ليكون طبيبا هنا في بلاد المهجر ، ونسقط أنفسنا في بحر من الأسئلة التي لو فكرنا وعملنا فيها بفقه الأولويات لما وقعنا فيها أصلا ، فتجد الرجل يسأل هل يجوز للطبيب الهولندي أن يكشف على زوجتي ويرى عورتها ؟ وأنا كان جوابي يومها عليه : هل يجوز أن نعلم أبناءنا كي يكونوا رعاة اجتماعين في حين أن بمقدورنا أن نجعلهم أطباء أو رجال قانون اختصاصين ؟

فلا بد لنا من فقه الأولويات في هذا الأمر ، من الأولويات أن يدرس أبناؤنا هنا علوما تنفعنا في صحتنا ومستقبلنا ما دام الوضع القانوني والتعليمي يسمح بذلك في هذه البلاد ، ففي بلدنا مثلا صعب على الولد لأن يندرج ضمن الكليات الطبية لكي يصبح طبيبا أما هنا الأمر سهل جدا يكفي أن تكون للتلميذ رغبة في العلم والتحصيل فلما لا نستغل هذه الفرصة التي عدمها أبناؤنا في بلدهم الأصل .

فلابد من مراعاة الأولويات ، ولذلك قيل [ إن الله لا يقبل النافلة حتى تؤدى الفريضة فمن شغله الفرض عن النفل فهو معذور ومن شغله النفل عن الفرض فهو مغرور ] ومما ورد عن ابن القيم في هذا الباب أن كل ظرف له حكمه الخاص به فالأفضل بالنسبة للعالم ليس هو كثرة الصيام والقيام مع أنه شيء جيد ولكن الأفضل له هو تعليم الناس ، والأفضل بالنسبة للحاكم ليس توزيع الأموال على الناس ولكن الأفضل هو العدل بينهم ، وهكذا ، فلكل ظرف أولوياته ولكل شخص أولوياته ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سئل ما أفضل الأعمال ؟ تختلف إجابته من شخص لأخر فكان يقول للبعض "الإيمان بالله" ويقول للبعض "الصلاة على وقتها" ويقول للبعض الآخر "بر الوالدين" فيعطي كل إنسان ما هو أحوج إليه ، فأحدهم يقول للرسول صلى الله عليه وسلم أوصني ؟ أو يقول له : ما أفضل عمل يدخلني الجنة ؟ فكان يقول للبعض "صل رحمك" ويقول للآخر "لا تغضب".

وفقه الأولويات هذا يجب أن يجري على كل مجريات الحياة وليس فقط في مسائل العبادات فمثلا نجد مجتمعاتنا الإسلامية تهتم بالشباب ولكنها تركز على الناحية الجسدية فقط ويقولون "العقل السليم في الجسم السليم" وهذه قاعدة منتقدة فكم من أناس لهم أجساد البغال ولكن لهم عقول الأغبياء وليس عقول العصافير ، فمرات يكون عقل العصفور أحسن من عقل الإنسان القوي الجسد المتخلف عقليا ، وهذه قاعدة ضد حقوق الإنسان جملة وتفصيلا ويرفضها الإسلام فإذا كان العقل السليم في الجسم السليم ، فكيف نتعامل مع المعوقين وذوي الاحتياجات الخاصة والمكفوفين هل هم أغبياء أو مجانين لأنهم لا يملكون أجسادا سليمة ، في كثير من المرات تجد رجل غير سليم جسديا ولكنه عقليا أحسن من ألف من الرجال الأقوياء جسديا فرب رجل فقد بصره ولكن له بصيرة وقادة ، بعكس رجل له عينان كبيرتان ولكن له بصيرة مطموسة ولذلك قال سبحانه ( وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة ) فلابد من الأولويات في التعامل مع الشباب فكما لهم جانب جسدي لهم كذلك جانب عقلي ونفسي وروحي واجتماعي ، فلا نحرص على جانب دون جانب فلابد من الأولويات هنا في هولندا الشاب إذا وجد وقت فراغ نعطي الأولوية لحفظ كتاب الله ولزيارة المساجد ولزيارة الأهل والأقارب ، وليس للأنشطة الرياضية والترفيهية في المنتديات والملاعب الهولندية التي تضم البنات والبنين وقد يرى فيها الشباب مظاهر التفسخ والانحلال الاخلاقي ، فكيف لشاب نرسله ليلعب الرياضة مع بنت لا تلبس إلا قطعتين إحداهما على صدرها والأخرى على عورتها ونقول فيما بعد أن أبناءنا انحرفوا ، وأنتم بلا شك تعرفون جمال البنات الهولنديات وطبيعة نظر الشباب لهن ،  لذلك نحرص على أن يضم المسجد مجموعة من الأنشطة الترفيهية أو حتى الرياضية كي يفرغ فيها الشباب جانبهم النفسي لكن بشرط أن يتعلق كل ذلك بالمسجد فهو الحامي الوحيد والضامن لأبنائنا هنا في بلاد المهجر ، وكذلك الأم لها أولويات إذا فرغت من عملها لا تعطي الأولوية لدور العجزة أو المعاقين من غير المسلمين حتى يقال عنها أنها حساسة وأنها مسلمة حقة ، وإنما تعطي الأولوية لبيتها وأبنائنا وزوجها فكم من امرأة كانت تزور دور الرعاية ودور المسنين في آخر كل اسبوع ولكنها في الأخير جاءت تشتكي من انحراف ابناءها وهروب زوجها ، ونسيت أنها كانت هي السبب الرئيسي في هذا المشكل ، وكذلك الأب له أولويات إذا فرغ من عمله لا يعطي الأولوية لساعات إضافية من العمل ، وإنما يعطي الأولوية لأبنائه وزوجته حتى يحفظهم من شر التواجد والعيش بين أظهر غير المسلمين ، ولذلك قال بعض العلماء [ من لا يضمن أن يكون ولد ولد ولده مسلما فعليه مغادرة هذه البلاد ] فالرجل يعطي الأولوية للأشغال والأعمال وجمع الأموال ويتجاهل أن عليه مسؤولية اجتماعية ونفسية وروحية اتجاه أبنائه كمسؤوليته المالية ، لذلك من المتوقع أن يكون ولد الرجل مسيحيا أو لا دينيا وليس فقط ولد ولد ولده لأن الرجل أهمل أسرته وتشاغل بما يحقق الراحة الاقتصادية ونسي الراحة الأسرية والنفسية ، ولذلك فالأمر جد خطير وعلينا بالعمل على إعادة التفكير في فقه الأولويات في حياتنا خصوصا هنا في أرض المهجر فلابد من تقديم الأصول على الفروع ومن تقديم الفرائض على النوافل وتقديم المتفق عليه على المختلف فيه فأنا لا يهمني الذي يصلي أين يضع يديه وهل يقبضهما أو يسدلهما المهم عندي هي الصلاة فالذي أضاع الأمة هو إضاعة الصلوات واتباع الشهوات فالمهم عندنا أن يدخل أبناؤنا هنا في هولندا أن يدخلوا إلى المسجد وأن لا نضيق عليهم بأن القبض سنة والسدل بدعة ، شبابنا إذا دخل لدور الرعاية الشبابية بهولندا لا يسمع مثل هذه المهاترات وإنما يقدم له ما يريد وتعطى له حرية واستقلال في الشخصية وهو حر في اختيار الجليسة التي تجلس معه في دار الرعاية وفي سنها ولون شعرها حتى له الحق في ممارسة الفساد معها فهو من حقوقه الجسدية والنفسية ، وحينما يدخل إلى المسجد نقتله بخلافاتنا الخاوية الفارغة ، ليس المهم عندي هو إطالة اللحية أو تقصيرها وإنما المهم عندي هو سلامة ابناءنا عقديا ونفسيا في هذه البلاد ، هناك برامج تستهدف ابناءنا برامج ثقافية وتعليمية وترفيهية يراد من خلال سلخ أبناءنا عن هويتهم ودينهم وقيمهم ومبادئهم وتحويلهم إلى شباب هولندين لا يفترقون عن الأصلين إلا من حيث لون الشعر ، هذا هو الأمر الخطير وليس الخطير أن الشباب يحلق لحاهم وبصراحة حضرت أكثر من حالة وفاة ولم أجد حسن الخاتمة أو سوءها يتعلق بطول اللحية أو بقصرها وإنما يتعلق بطبيعة عمل الإنسان في حياته .

الأولى أن نحرص على أبنائنا في هذه البلاد أكثر من حرصنا على أنفسنا ( قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين ).