شكري القوتلي وبشار الأسد الدم السوري من خط التابلاين إلى خط الغاز
يبدو أن مقولة (التاريخ يعيد نفسه) وخاصة بالنسبة للدول الضعيفة التي لاتملك وسائل الدفاع عن اسقلالية قرارها، والتي يبقى مصيرها مرهوناً بصراعات ومصالح الدول العظمى، تنطبق اليوم على سورية ومثيلاتها من دول العالم الثالث، بغض النظر عن حاكمها إن كان وطنياً أو عميلاً.
حين تم منح الدول العربية استقلالها تباعاً في أواسط القرن الماضي بما يسمى (وثائق الاستقلال)، فرضت الدول المستعمرة المنسحبة على الدول المستقلة شروطاً يمكن تلخيصها بالزام الأخيرة بالتعاون مع المنسحبة في المجالات الاقتصادية والسياسية والعسكرية وأيضاً أن لاتتحالف أو حتى تتعاون مع دول عدوة من المعسكر الآخر. طبعاً لم يكن لدى الدول المطالبة بالاستقلال في ظروف كهذه خيار الرفض كونها أضعف من أن تدافع عن كامل حقوقها، فالقبول بشئ بالنسبة لها حينها أفضل من لاشئ، وخاصة كي تضمن إخراج الجيش الأجنبي منها. من جهتي فاني أرى عاملاً مشتركاً مابين سورية عام 1946 تحت حكم شكري القوتلي وسورية 2011 تحت حكم بشار الأسد وهو أنها دولة عالم ثالث وغير قادرة على حماية نفسها بنفسها دون مساعدة دولة عظمى. تلك الدول كانت في الماضي 4، أمريكا وانكلترا وفرنسا والاتحاد السوفيتي، وهي اليوم واحدة لامنافس لها عسكرياً وهي أمريكا، والبقية باتت دول عظمى درجة ثانية، روسيا وانكلترا وفرنسا بالاضافة للصين. وعلينا هنا التذكير أن كافة الصراعات العسكرية التي نشبت منذ بداية التاريخ كان محركها الحقيقي هو صراع على الثروات، أي على سرقة ثروات البلاد الأضعف الغير قادرة على حماية نفسها.
حين استقلت سورية عام 1946، كانت هناك أحداثاً هامة تتفاعل في المنطقة في بداية الحرب الباردة بين القطبين وكانت لكل دولة عظمى مصلحة تتعارض مع البقية. كان يهم فرنسا أن تبقى سورية مرتبطة بها عسكرياً واقتصادياً من حيث الاستيراد والتصدير وشراء الأسلحة والدورات العسكرية التدريبية وطبع العملة النقدية وغير ذلك. ولتضمن إنكلترا مصالحها في المنطقة، كانت قد باشرت بوضع الخطط لتشكيل حلف بغداد الذي سيضم أيضاً تركيا وباكستان وإيران بحجة مواجهة التمدد الشيوعي السوفيتي، وكانت عينها على سورية لتنضم لذلك الحلف والذي كانت أمريكا تدعمه دون الانضمام إليه. الإتحاد السوفيتي كان يبحث عن موطئ قدم على شواطئ المتوسط وكانت سورية بشكل طبيعي أحد أهدافه. أما أمريكا فكانت بصدد إنشاء خط أنابيب (التابلاين) لايصال النفط من المنطقة الشرقية في الجزيرة العربية إلى البحر المتوسط عبر الأردن وسورية ولبنان ثم إلى أوربا وأمريكا. بذلك نرى أن سورية كانت تشكل نقطة تقاطع في مصالح كل تلك الدول ولابد أن حكومة الرئيس شكري القوتلي التي لايشك أحد بوطنيتها كانت تعلم ذلك ولكن ربما لم تكن تقدر مخاطر القرارات التي سيتحتم عليها إتخاذها في المستقبل القريب والتي سيكون أحلاها مراً كما يقول المثل. كان شكري القوتلي رجلاً وحدويا يؤمن بأن الوحدة العربية هي أمل الأمة الأوحد للقوة والاستقلال الكامل، ولكن يبدو أنه وبهذه النظرة الرومانسية لم يقدر أن تحقيق هذا الهدف كان شبه مستحيل لأنه سيُحارب من قبل كافة الدول العظمى وكذلك الإقليمية، فالعالم لم يكن مستعداً لدولة أموية أو عباسية جديدة تهدد مصالحه وأمنه من جديد وتهدد أمن دويلته التي كان يخطط لزراعتها في قلب المنطقة وهي إسرائيل. كما لم يفهم شكري القوتلي أن إتفاقية (سايكس بيكو) والحدود التي رسمتها قد وجدت لتبقى وأن كافة الدول العظمى لن تسمح لأي كان على المس بها، وأنه غير قادر بامكانيات سورية على العبث بها.
خلال فترة حكم شكري القوتلي الديمقراطية الأولى (1943-1949) كان ميالاً للوحدة مع العراق، مما كان ربما سيقوده إلى الانضمام إلى حلف بغداد، وهذا ماأغضب الاتحاد السوفيتي من جهة، ولكنه أيضاً أغضب فرنسا التي رأت في ذلك خروج سورية من هيمنتها إلى الهيمنة البريطانية. كما أن أمريكا طلبت منه الموافقة على إتفاقية أنابيب (التابلاين) ضمن شروط رآها مجحفة بحق سورية، مما دعاه إلى تحويل الإتفاقية إلى البرلمان لدراستها واتخاذ القرار، مما بدوره أغضب أمريكا التي، كغيرها من الدول العظمى حين تتعامل مع دول (صغرى)، تفضل التعامل مع الأفراد وليس البرلمانات. استغلت أمريكا حالة الغليان التي سادت سورية بعد هزيمة حرب فلسطين عام 1948 ورفض حكومة القوتلي توقيع إتفاقية الهدنة مع إسرائيل، وكذلك تحميل السياسيين الهزيمة للعسكريين وخاصة قائد الجيش حينها (حسني الزعيم) فشجعت الأخير على القيام بالانقلاب ووعدته بالاعتراف به كرئيس مقابل توقيع إتفاقية (التابلاين) وتوقيع إتفاقية الهدنة، وهذا كان تماماً ماحصل. يمكننا القول هنا أن وطنية شكري القوتلي وحرصه على مصلحة سورية انقلبت عليه وعلى البلاد شراً، ويبقى السؤال هنا أنه لو اتبع حينها سياسة مختلفة واتخذ قرارات مختلفة، فهل كان ذلك سيجنب سورية مسلسل الانقلابات العسكرية وبالتالي النهاية الدموية التي وصلت إليها اليوم؟ عملياً فقد سنحت له فرصة جديدة خلال فترة حكمه الثانية (1955-1958) إلا أنه عاد وتخطى الخطوط الحمراء الموضوعة للمنطقة باللعب بحدود (سايكس بيكو) حين اتخذ قرار الوحدة مع مصر والذي كان لاشك قراراً وطنياً صرفاً إلا أنه لعب بالمحظور. ويبدو أن كل ذلك دعا الدول المؤثرة لاتخاذ قرار حصر حكم سورية في المستقبل بيد رجل يعرف حجم سورية ويتصرف على أساسه من جهة ويفهم أنه (عميل) وأن مهمته محصورة بتنفيذ مايطلب منه من جهة ثانية وأنه مقابل ذلك مطلق اليد بما يفعله في سورية وشعبها وأيضاً بما يقوله على وسائل إعلامه طالما أنه لاتحيد عن الخط.
بعد حوالي ستين عاماً على إتفاقية (التابلاين) وانقلاب حسني الزعيم، وعشية ثورات الربيع العربي، كانت أحداثأ هامة قد غيرت وجه الشرق الأوسط والتحالفات الدولية ومصادر الطاقة. خرجت إيران، شكلياً على الأقل، من الفلك الأمريكي إلى حكم الملالي الذي يحلم بالتوسع على حساب جيرانه القريبين والبعيدين على حد سواء مما هدد العديد من حلفاء أمريكا المنتجين للنفط. قيام حرب أهلية في لبنان والسماح لسورية باحتلاله فيما بعد لتصفية المقاومة الفلسطينية. أصبحت إسرائيل دولة نووية وماعادت بحاجة أوربا أو أمريكا لحمايتها ووقعت معاهدتي سلام مع جارتيها مصر والأردن في حين استمرت في حالة تفاهم ووئام مع الحكم الطائفي في سورية دون الحاجة إلى معاهدة سلام دائمة معها كون إتفاقية كهذه قد تفتح ملف الجولان المحتل الذي لاتريد أي دولة أن تفتحه. انتهت الحرب الباردة وانهار الاتحاد السوفيتي لترثه روسيا الاتحادية التي وصل إلى سدة الحكم فيها رجل مخابرات سابق يحلم باعادة أمجاد بلاده مستغلاً سيطرته على العديد من مصادر الطاقة العالمية وخاصة الغاز. غزت أمريكا دولة عربية رئيسية هي العراق وقامت باسقاط النظام فيها والهيمنة عليها ثم تسليمها لايران ضمن تفاهمات إقليمية ومصالح مشتركة. باتت سورية الدولة الوحيدة في المنطقة التي تعتمد على السلاح الروسي بعد القضاء على نظام صدام حسين في العراق. اكتشف العالم مصدراً رئيسياً آخراً للطاقة إلى جانب البترول وهو الغاز الطبيعي، حيث تسيطر روسيا كما ذكرنا على سوقه العالمية كونها أكبر منتج ومصدر له. تم اكتشاف كميات هائلة من ذلك الغاز لاحقاً في إمارة قطر الخليجية ورأت أمريكا وحلفائها الأوربيون في ذلك فرصة لكسر إحتكار روسيا لتلك المادة الحيوية ومحاربتها إقتصادياً بايصال الغاز القطري إلى أوربا عبر أنابيب تمر من الجزيرة العربية وسورية وتركيا. مشروع خط الغاز القطري وضع بشار الأسد في وضع مشابه لوضع شكري القوتلي قبل ستين عاماً حين طلب منه السماح بتمرير الخط من سورية. فوجد نفسه أمام الموافقة وإغضاب حليفيه الروسي والايراني مما قد يقود إلى رحيله، أو رفض الخط، وهذا مافعله، مما أدى إلى إغضاب الغرب الذي بدأ بالعمل على ترحيله، وهذا مااصطدم مع المعارضة الإسرائيلية. أي أن ترحيله، وما قد يترتب على ذلك من تدمير للبلد، كان وارداً مهما فعل، ولكن ماحصل أنه راهن على حليفيه الروسي والايراني لحمايته. والسؤال هنا أنه لو وافق على المراهنة على الغرب، فهل كان الروس والايرانيون سيسلمون بالأمر الواقع ويتجنبا مواجهة أمريكا وحلفائها في الناتو، وهل سيتجنبا كذلك تحدي رغبة إسرائيل بالابقاء على حكم عائلة الأسد لسورية كونها الأسرة التي منحتها الجولان دون قتال في حرب عام 1967؟ الفرق بين الزمنين، أن إسرائيل لم تكن عاملاً فاعلاً في زمن القوتلي وماتلاه، وبالتالي كثرت الانقلابات كونها نتيجة لصراع الدول العظمى على سورية. ولكن حين أصبحت إسرائيل دولة عظمى بحد ذاتها ومنحها الأسد الجولان، أصبح نظامه بحمايتها، وباتت رسالتها لبقية الدول العظمى أن تصارعوا ماشئتم أن تتصارعوا ودمروا ماشئتم أن تدمروا، ولكن لاتقربوا من نظام الأسد. فهم الأسد الأب ومن بعده الابن أن نظامهما محمي من قبل القطبين الشرقي والغربي وأيضاً الاقليمي المتمثل باسرائيل، وبالتالي لعبا دائماً على التناقضات بين تلك الاطراف وكانا يتلقيان بين الحين والآخر بعض الصفعات التأديبية لاعادتهما إلى الخط المرسوم أو الشكلية ليتم استثمارها إعلامياً لدعم سيناريو المقاومة والممانعة.
طبعاً المقارنة هنا ليست بين نظام وطني كنظام شكري القوتلي قاوم رئيسه الاستعمار وانتخب من قبل الشعب وبين نظام عميل كنظام الأسد ورث رئيسه الحكم من أبيه وأوغل الإثنان في دماء الشعب حتى قبل أن تقوم الثورة، ولكن المقارنة هنا بين الحالتين التاريخيتين، والهدف هو الاستنتاج أن الدول الضعيفة، وطنية كانت حكوماتها أم عميلة، هي دول لاسيادة لها وبالتالي لاحول لها ولاقوة. فهي إن اتخذت القرارات الوطنية سيتم معاقبتها بانقلابات عسكرية أو إغتيال قادتها من قبل الدول الطامعة، وهي إن اتخذت القرارات الخيانية، سيتم معاقبتها من قبل أعداء الدول الحامية لها. والدول العظمى عادة لاتحارب بعضها على أراضي بعضها كي لاتدمرها، بل على أراضي الدول الصغيرة التي تدور في فلكها والتي إن دمرت أم لم تدمر فالأمر لايهمها. وبالتالي فعلى حكام الدول الضعيفة دائماً إتخاذ القرارات التي بالدرجة الأولى تحقن الدماء وتجنب البلاد الدمار، وإن كانت هذه القرارات أحياناً مجحفة بحق الوطن، وذلك على مبدأ إختيار أهون الشرين أو كما يقول المثل (ماحاجك للمُر فقال الأمّر). ويبدو في نهاية المطاف أن لاوطنية القوتلي ولاعمالة الأسد نجحتا في تجنيب سورية المصائب التي وصلت إليها.
وسوم: العدد 836