الفصل الشهيد "والآن ..." من كتاب "السلام العالمي والإسلام"
نعم.. إنه فصل شهيد، ولعله نبّه كاتبه إلى أنه قد يكون شهيداً مثله، إذا استمر على الجهر بما يؤمن به من أفكار تتوالد من إيمانه بهذا الدين العظيم، وبأن المستقبل لهذا الدين العظيم، برغم أنوف أعدائه الكثر الذين يتداعون عليه من كل حدبٍ وصوب، من الشرق الشيوعي – كان – ومن الغرب المادي الذي يعمل بلا مبادئ ولا أخلاق، إلا مبدأ الكذب والنفاق وصولاً إلى المصلحة المادية الكثيفة التي تقوده إلى محاربة أصحاب المبادئ الحقيقية، المبادئ التي تضمن له السعادة في الدنيا والآخرة معاً، (وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إنَّ الله لا يحب المفسدين). (القصص:77).
مبادئ إنسانية شملت الإنسان مادة وروحاً، هيهات أن تُطاولها حضارة الغرب بشقيها: الرأسمالي، والشيوعي..
ومن هنا كانت وجاءت مناصبة الغرب المادي – بشقيه معاً، الإسلام وقيمه، والمسلمين وحضارتهم – العداء، وكانت نزعتهم إلى صراع الحضارات، وكانت الحروب المدمرة على بلاد المسلمين، منذ نشوء الإسلام، وفي الحروب الصليبية المتوحشة، وفي الاجتياح المغولي المتزامن والمتضامن والمتفاهم والمتواصل مع الحروب الصليبية، وفي غزو نابليون لمصر والشام، وفي الاستدمار الحديث الذي مزق بلاد المسلمين ودمرها باسم الاستعمار، وكان منه، وما زال الدمار...
- 2 –
سيد قطب قامة أدبية شامخة، وناقد ثقفٌ لقفٌ أصيل، اطلع على الثقافة الغربية اطلاع الدارس المنقب عن القيم الإنسانية، قيم الحب والخير والجمال، وتأثر بها، ولكن إلى حين، عندما اقترب منها ومن أهلها، وعايشها وعايشهم عن كثب، زالت الغشاوة عن عينيه، ورجع إلى أصالته، إلى إسلامه، إلى قيمه العربية والإسلامية، فكان منه خلقٌ آخر، كان منه شخصية فكرية فذة، وداعية إلى الله على بصيرة، عرف مكمن الداء، كما عرف الدواء، الجاهلية هي الداء الذي عمّ الشرق والغرب، والشمال والجنوب معاً، والدواء هو هذا الإسلام العظيم، ومبادئه، وتعاليمه، وقيمه الإنسانية العظيمة، التي حملها، وبشّر بها، ودعا إليها خاتم الأنبياء والرسل، محمد عبد الله ورسوله، لتكون خاتمة الرسالات، ومنقذة الإنسان في دنياه وآخراه...
أكبّ سيد المفكر على القرآن العظيم، ثم خرج على الناس بكتابه الهائل (في ظلال القرآن) بعد أن مهد له بعدد من الكتب التي سدت فراغاً كبيراً في المكتبة العربية، تلقفها الناس تلقف الظمآن للماء الفرات في بيداء محرقة: العدالة الاجتماعية في الإسلام – معركة الإسلام والرأسمالية – السلام العالمي والإسلام.. إلخ.. صدر كتاب: السلام العالمي والإسلام في تشرين الأول سنة 1951 واحتل وإخوته المكان اللائق في المكتبة العربية والإسلامية، والحيز المثير في ثقافة المثقفين العرب وغير العرب، وانتبهت الدوائر الاستشراقية – وكثير منها فروع وأقسام في الأجهزة المخابراتية – انتبهت إلى هذا المفكر الذي كان عصياً عليهم في أمريكا وأروبا، والآن جاء ليفضحهم ومخططاتهم التي تريد شراً بالعروبة والإسلام، فأوعزت – تلك الدوائر – إلى المسؤولين المصريين، أن يمنعوا نشر الفصل الأخير من كتاب السلام العالمي والإسلام، فصل (الآن) وهو هذا الفصل الذي نقدم له..
وأعيد طبع الكتاب مرات ومرات، دون أن يفطن القراء إلى خلو الطبعات الجديدة من هذا الفصل الشهيد، واستمر هذا عشرات السنين، حتى فطن له الباحث الكبير الدكتور عبد الرحمن الحجي، وقد ذكر هذا لجلسائه في صنعاء، وكان في تلك الجلسة الأخ الحبيب الأستاذ محمد الحسناوي – رحمه الله تعالى – وعندما رجع الحسناوي إلى مدينة عمان العامرة المحروسة برعاية الله، ذكر لي ذلك، فقمت إلى مكتبتي المتواضعة، وجئت بنسختين لطبعتين من الكتاب، ورأيناهما ولم نر هذا الفصل، وحصلنا على الطبعة الأولى للكتاب، وفيها الفصل المحذوف الذي ظنّ الآمرون بحذفه أنهم قتلوه، وفعلاً هم قتلوه شهيداً، والشهيد حي، وهذا هو مؤلفه سيد قد ارتقى شهيداً من سادة الشهداء في عصره، وهو حي يمشي بين الناس، ويتغلغل في أرواحهم وعقولهم، ويشكلها التشكيل الذي يرضى عنه الله والإسلام، فمن من المنكرين والمثقفين الجادين الذين يحترمون عقولهم وإنسانيتهم، ويعيشون زمانهم، ومن من الدعاة المخلصين الجادين، لم يقرأ سيداً القطب في كل ما كتب، وخاصة: في ظلال القرآن – هذا هو الدين – المستقبل لهذا الدين – دراسات إسلامية – خصائص التصور الإسلامي ومقوماته – مقومات التصور الإسلامي – الإسلام ومشكلات الحضارة – وأخيراً كتابه الذي قاده إلى الشهادة في سبيل الله تعالى: معالم في الطريق.
إنه الشهيد الحي، المفكر العملاق سيد قطب رحمه الله رحمة واسعة (يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم واالله متم نوره ولو كره الكافرون) (الصف: 8).
-3-
قد يقول قائل: وهل تهتم أمريكا بضخامتها وعنجهيتها وهي الإمبراطورية العظمى في تكنولوجيتها، وأسلحتها، واقتصادها، ومراكز دراساتها، وأجهزتها الأمنية، وجيشها (الذي لا يقهر وقد قُهر مراراً) وعملائها المتناثرين في الأرض، وعلمائها، إلى آخر ما هنالك من مكونات القوة الغاشمة التي تمتلكها، أمريكا هذه تهتم لمفكر اسمه سيد قطب، ولفصل في كتاب من كتبه؟
من سيد قطب، وما قيمة فصل من كتاب منشور في بلد (متخلف) هي مصر، حتى تتابعه أمريكا؟
يا حسرة على العباد!!
أجل أمريكا وسائر الدول المتقدمة التي تحترم نفسها، وتعمل لصالح أوطانها، وتحرص على أمنها، تهتم بالأفكار الخلاقة وأصحابها المتميزين، وخاصة العصيين منهم عليها، وعلى أجنداتها التي ترعى مصالحها لا مبادئها، كالديمقراطية وحقوق الإنسان، وخاصة في بلاد العرب والمسلمين...
إن لدى أمريكا جيشاً من العملاء، من النخب العربية فمن دونهم، وهؤلاء يزودونها بالمعلومات التي تهمها، ومنها الكتب والكتابات المتميزة، لأنها تحسب للكلمة وصاحبها حسابها.. إنهم يقرؤون (مثلنا!) ويتدارسون ما يقرؤون (مثلنا تماماً) ولقد رأيت في مكتبة الجامعة الأمريكية في بيروت ما أذهلني.. حتى النشرات التي كان الإخوان المسلمون يوزعونها علينا نحن طلبة الثانوي في خمسينيات القرن العشرين، شاهدتها هناك وصورتها وعدت بها إلى مدينتي (حلب الشهباء) وسيد – في كتبه ومقالاته وأبحاثه – جاء بأفكار لو وجدت من يتبناها، لكان لها ولنا شأن آخر... ولكنه التخلف الذي لا يتجزأ يضرب أطنابه في ديار أدعياء العروبة والإسلام...
ويا حسرة على العباد.. - 4 –
في هذا الفصل الشهيد (الآن) فضح – سيد – المخططات الأمريكية وعملاءها ومطاياها الذين يقدمون لها كل ما تأمرهم به، ولو كان على حساب شعوبهم وأوطانهم وقيم أمتهم ودينهم، وأحياناً على حسابهم هم.. وأين العجب؟ أليسوا مطايا للراكبين؟
وهل للمركوب كرامة أو إرادة؟
ومن هنا يأتي التخوف من إيقاظ الجماهير على واقعها البئيس، حيث (الجزم العسكرية) تسحق إرادة الشباب المنحازين لشعوبهم، وأوطانهم، وأمتهم، ودينهم.. بتلك الجماهير يخوفون الحكام المستبدين، حتى صارت كوابيس تغشاهم في يقظتهم المشغولة بسعار الجنس والشهوات الهابطة، وبمنامهم سنوات بل عقوداً طوالاً، وهم يلهثون وراء الحرام، من مال وقصور ورفاه وجنس مسعور، واستبداد وظلم لا يقلان عن حدة سعار الجنس في بلاد الرقيق الأبيض، حيث التفريط الرعيب بثروات البلاد والعباد، وتبذيرها على الموائد الخضراء والحمراء..
يخوفونهم من أن تثور بهم وعليهم تلك الجماهير المسحوقة، والمتطلعة إلى الحرية والعدل والكرامة.
كيف حذفوا هذا الفصل دون أن يثور أحد؟ دون أن يعترض أحد؟ دون أن ينبهنا أحد؟
هله هو الخوف؟ .. لا أظن.
هل هو الجهل؟ .. نعم..
وإلا .. فأين مراكز البحوث عندنا؟
أين مراكز الدراسات والمعلومات التي تُنبه الغافلين؟!
كان سيد مؤسسة ثقافية وحده..
كان سيد مؤسسة بحثية وحده.
كان سيد مؤسسة دعوية وحده..
كان سيد قد عرف زمانه، وعلم إسلامه، واستقامت طريقته..
فعمل لإحياء النفوس، لعلها تسعى إلى تحقيق وجودها، وهو يعلم أن أعداء هذا الدين لن يسمحوا بقيام دولة أو دويلة إسلامية، ولو في أقاصي الأرض، فكيف بمصر أو سورية؟!!
كان سيد ينظر بنو الله..
ويفكر بنور الله..
ويسعى لإسعاد الإنسان بأن يحيا بنور الله.. وبذل حياته كلها من أجل ذلك..
ضحى بصحته، ومركزه، وبأسرته المجاهدة النبيلة، من أجل ذلك فسلاماً سيد الشهداء..
سلاماً سيد قطب في الخالدين..
وسوم: العدد 836