أمينة قطب وداعا اختاه.. كلمات بعد الرحيل
من وحي جراح القلم
عندما علمت برحيلها
لم أتمالك نفسي ووجدتني أفشل في حبس دمعتين تحجرتا في محجري فأطلقت سراحهما طوعا لا كرها….ولذت لصمت عميق قبل أن أبحر في زورق الذكريات التي حملتني لبدايات رحلتي الى الله… عندما كنا نرهف السمع للنشيد الاسلامي في شغف ونهم كانت كلماته شاعرية رقراقة تهزني من الأعماق.. كتبتها أخت فاضلة لم تزل تحتل مكانة رفيعة في القلب والوجدان.. إنها أمينة قطب شقيقة الفرقدين سيد ومحمد قطب
تلك المنارة السامقة في سماء وسمو الأخلاق والتجرد لله ومعرفة الله ومعيته …
إن القلم يجاوز قدره وهو يخط كلمات ما بعد الرحيل….
كلمات وفاء وذكرى…
أنها إحدى الاخوات من الرعيل الاول في الخط النسائي للحركة الاسلامية
انها وبكل بساطة الأخت التي جمعت بين القدوة الرائعة في أبهى تجلياتها قدوة تتحرك ولكن في صمت تترجم الفكرة المتألقة إلى عمل بناء متواصل المدد والقيادة بالمواقف والثبات على العهد
هي نبتة خير وعطاء ترعرت وأزهرت في بيت آل قطب… وأنعم به من بيت وأكرم به من لبنةسامقة…
وكيف لا تكون أمينة قطب قدوةوقيادة
ومثالا يحتذى وأنموذج الروعة التي تبهر بالاسلام والاسلام وحده....
ماذا عساي أن أكتب من كلمات وقد شق القلب حزنا بعد ان ترجلت هاته الفارسة النبيلة عن جوادها وهي تمضي في صدق لتلتحق بقوافل الراحلين الى عالم الغيب والشهادة
ليت أمهات المسلمات وأخواتنا المؤمنات الطاهرات العفيفات يقفن وقفات تأمل عميقة في سيرتها العطرة وحركة عملها بين الناس بل وامتشاقها لليراع تكتب بإبداع وتنظم الشعر الماتع في سلاسة وعمق أخاذ ومبهر وتبدع القصة القصيرة فتعلو وتزهر
وهي الى هذا وذاك شقيقة شهيد وزوجة شهيد وخالة شهيد
مع المحن كانت لها ألف قصة وغصة
فقد تعرضت الأسرة لكثير من المحن، ففي عام 1954م حُكم على سيد قطب الشقيق الأكبر بالسجن لمدة 15 عامًا، وفي 1965م قبض على أفراد أسرة آل قطب كلهم، وعذبوا عذابًا شديدًا، ونصبت المحاكم العسكرية، وتولى الفريق محمد فؤاد الدجوي رئاسة المحكمة، وحكم على سيد قطب بالإعدام.
..
وحكم عليها بالسجن 10 سنوات مع الأشغال الشاقة، قضت منها ست سنوات وأربعة أشهر بين السجن الحربي وسجن القناطر حتى أفرج عنها أوائل عام 1972م،.
عندما كانت أمينة في شرخ الشباب وعنفوانه ومحنة الاخوان في أشدها وأخوتها ما بين المعتقلات والاقبية… تقدم لخطبتها امير دولة عربية
فلم يهتز لها رمش أاو حاجب وقد أعرضت عنه الاعراض الجميل.. لأن مطلبها في الزوج كان بعيدا عن مطلب كل أنثى….
وتلك وقفة للتأمل ونحن ما بين أحداث جسام ورسول يهان ودين مستبدل بشرائع بني علمان وهرج وهزيج مريج من الصخب
هذا الموقف الرائع والصعب والمحرج يعني لنا الكثير والكثير ومن ذلك قوة وعمق مصادر التلقي التي نهلت منها أمينة فتاة وشابة
انها العودة الى الفطرة والفطرة وحدها
تذكرنا أمينة قطب بتلك الفتاة المسلمة التي تقدم لخطبتها الصحابي الجليل جليبيب وكان ذميم الخلقة عميق الخلق… وقصته مشهورة في كتب السير..
وكيف ان فطرة الفتاة دعتها ونادتها للظفر به زوجا وما الذمامة في الخلقة بشيء أمام سمو الاخلاق ومراتب الاستعلاء الايماني
فالقرد ذا قبح اذا زينته
والبدر لايحتاج للتزيين
يكفيها من زواجها من جليبيب مقولة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد انتهاء الغزوة التي ظفر فيها بالشهادة
ولكني افتقد جليبيا
كلما وقفت عليها في إبحاري داخل بطون كتب سير الاعلام النبلاء بكيت بكاء شوق لتلك المرتبة السامية
ولكني افتقد جليبيبا
كل الناس تفرقوا يطلبون قتلاهم واما جليبيب فلا أحد يبحث عنه فكان من علو منزلته عند الله جل وعلا افتقاد رسول الله لجليبيب
ولكني افتقد جليبيبا
امينة قطب انتظرت اطلالة فارس من فرسان النبل.. فرسان تحت راية النبي…
وطال الانتظار فأطل عليها خاطب جديد من العيار الثقيل دائما
ذلك العيار الثقيل الذي تلهث وراء الظفر به الكثيرات ممن ولعن وشغفن بالقشور…
جاء الخاطب يطرق بابها وهو سفير دولة عربية وجيه فأعرضت عنه ببساطة لم يتعوّدها من لم يشم ريح الإيمان ويتفيأ ظلال القرآن….
.وكيف لا وأخوها الشهيد هو من فتح الله عليه بتفسير قوله تعالى{ ولا تهنوا ولاتحزنوا وانتم الاعلون ان كنتم مؤمنين}
ذلك الاستعلاء بالايمان الذي يصل بالله في دقّ الأمور وجليلها فيترك في النفس طمأنينة وسكينة ورضا
وسرعان ما جاء من أقصى المدينة رجل يسعى في خطبتها فقير ولكنه غني جدا بعدة الايمان…
إنه كمال الدين السنانيري وكان يعمل في محطة القطارات فقبلت به بلا تردد
ولكن تجري الرياح بما لا تشتهي النفس إذ أن الاعتقال طاله كبقية من قال {آمنا …}
وجاء وزار الفجر اقتادوه لخمسة دقائق امتدت لغياب دام 15سنة
فكانت امينة قطب قمة في الوفاء طال الانتظار, ولكن ما عيل صبرها ولم ترنو نفسها الى النكول لو للحظة فتور عابرة..
يقول الشيخ عبد الله عزام رحمه الله وهومن أعلى طبقات الشهداء في العصر الحاضر
عن هاته الخطبة والوفاء
{انها اطول خطبة في الإسلام}
لأنها انتظرته 15سنة
وبعد خروجه من بطن الحوت وإتمام مراسيم الزواج لم يمكث معها كمال الا قليلا وسرعان ما حزم حقائبه ليلتحق بالجهاد الأفغاني في الزمن الجميل العام 1980
وبعد قرابة العام اقفل راجعا والأمل يحذوه لمواصلة تلك الرحلة مع زوجته ولكنه وجد نفسه مرة أخرى في بطن الحوت
يمتد الألم ورحلة الجهاد والشقاء ولكن أمل ورجاء أمينة كان في الله جل وعلا لقوله تعالى
{إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون ويرجون من الله ما لا ترجون}
ويلفظ كمال الدين السنانيري رحمه الله انفاسه الاخيرة في القبو...
وتظل الرائدة في قمة صبرها قمة الشموخ في زمن الانكسار الذليل
لزوجها كتبت أجمل وأروع القصائد تقطّع النياط من الألم العميق ..من قوة اللفظة وعمق العبارة وجزالة الكلمات جمعتها في ديوان شعر كان من أحب الكتب إلى قلبي إبتعته من إحدى المكتبات وظل معي زمنا طويلا
{رسائل الى شهيد…}
من قصائد الديوان كانت أناشيد الزمن الجميل التي تذكرتها فسالت دموعي من الذكرى تقول امينة قطب رحمها الله
وتلمس في شعرها تجسيد التصورات بكل صدق و إحساس و وصف للحركة الجهادية في الأمة في القرن الحالي و السابق و الآلام والصعوبات التي مرت بالأمة و التضحيات التي قدمت في سبيل هذا الدين
تقول لزوجها كمال :
هل تـــــــرانا نلتقـــــي أم أنهــــــــا كانت اللقيا على أرض السراب؟!
ثم ولَّت وتلاشــــــــــــى ظلُّهــــــــا واستحالت ذكــــــــــرياتٍ للعذاب
هكذا يســــــــــــــأل قلبي كلمـــــــا طالت الأيام من بعــــــــــد الغياب
فإذا طيفــــــك يرنــــــو باســـــــمًا وكأني في استماع للجـــــــــــواب
أولــــــم نمــــضِ على الدرب مـعًا كي يعــــود الخـير للأرض اليباب
فمضينا فـــــــــــي طريــــق شائك نتخلى فيـــــــــــه عن كل الرغاب
ودفنَّا الشــــــــــوق فـــــي أعماقنا ومضينا في رضــــــــاء واحتساب
قد تعاهـــــــــــدنا على الســير معًا ثم عاجلت مُجيبًا للذهــــــــــــــاب
حين نـــــــــــاداك ربٌّ منعـــــــــمٌ لحياة في جنـــــــــان ورحـــــــاب
ولقــــــــــــاء فـــي نعيــــم دائــــم بجنود الله مرحى بالصحــــــــــاب
قدَّموا الأرواح والعمـــــــر فـــــدا مستجيبين على غــير ارتيــــــــاب
فليعُد قلبك مـــــــن غفلاتـــــــــــه فلقاء الخلد في تلك الرحـــــــــــاب
أيها الراحل عذرًا في شكــــــــاتي فإلى طيفك أنَّات عتـــــــــــــــــاب
قد تركــــــت القلب يــــدمي مثقلاً تائهًا في الليل في عمق الضبــاب
وإذ أطـــــــــوي وحيدًا حائــــــرًا أقطع الدرب طويلاً في اكتئـــــاب
فإذ الليل خضـــــــــــمٌّ مـــــوحِشٌ تتلاقى فيه أمواج العـــــــــــــذاب
لم يعُــــــــد يبــق فـــــي ليلي سنًا قد توارت كـــــل أنــــوار الشهاب
غير أني سوف أمضي مثلمـــــــا كنت تلقـــاني في وجــــه الصعاب
سوف يمضي الرأس مرفوعًا فلا يرتضي ضعفًا بقـــول أو جــــواب
سوف تحذوني دماء عابقـــــــات قـــــــد أنارت كل فــــــجٍ للذهــــاب
وقالت :
شاقني صوتك الحبيبُ على الهاتف يدعو ألاّ يطول غـــــيابي
شاقني أن تقول لي: طال شوقي قد غدا البيتُ موحشاً كاليباب
شاقــني ذلك النـــــداء حـــــنوناً فلتعـــــــودي لعالم الأحــــباب
شاقــــني أن تقــــول: حُبك بعداً لا تعــيـــدي بواعث الأســباب
أمينة قطب الأديبة والقصاصة والشاعرة المسلمة أتحفت خزانة الادب الاسلامي بالكثير من أجمل إبداعها… وتركت بصماتها القوية في هذا الثغر المهم من ثغور الفكر والثقافة الاسلامية والانسانية
انتهت رحلتها الطويلة بوفاتها………
بلا صخب ولا وصب
ما حز في نفسي وأثار شجوني أنني ولاعتبارات متعددة وطيلة الزمن الذي مضى ولن يعود كنت منفصلا عن معرفة ما حوالي من تطورات وأحداث… ومن جملتها أنني علمت بعد زمن على رحيلها .. خبر وفاتها العام 2007م… فعقدت العزم على كتابة هاته الكلمات التي لن توفيها قدرها مستحضرا ذكرى الرحيل
دائما يرحل العظماء المسلمون الصادقون في صمت بينما الضجيج والصخب يعلو ان مات الحقراء التافهون
ما أحوج اخواتنا السائرات في طريق الدعوة إلى تلمس سبيلها والاحتذاء بها فقد كانت رحمها الله منارة سامقة لاتبارى
رحم الله امينة قطب واسكنها فسيح جناته واسبغ عليها رحماته
كلماتي هاته قطرة في نهرهاته العملاقة في الادب والكلمة الصادقة
تصب في بحر الاسلام والقيم لتضيف إليه مسحة من وفاء لمن سبقونا في الطريق ومضوا في الرحلة الى آخر الشوط
السجن المركزي القنيطرة
{{عندما غابت عنا الشمس}}
وسوم: العدد 839