تهافت المنطق التبريري في خطاب نصر الله
تهافت المنطق التبريري في خطاب نصر الله
فادي شامية
طغى المنطق التبريري على خطاب الأمين العام لـ "حزب الله"؛ السيد حسن نصر الله في خطابه الأخير. ورغم اعتماده على الفرضيات الذهنية والجدل المنطقي إلا أن مبرراته بقيت متهافتة في تفسير ما يعاني منه اللبنانيون، والشيعة منهم على وجه التحديد:
أولاً: قدّم نصر الله تعريف حزبه لـ "الإرهاب التكفيري"، فهو بحسبه؛ التكفير مضافاً إليه "عدم قبول الآخر الذي يختلف عقائدياً أو سياسياً أو فكرياً (بحيث) ويذهبون إلى الاستباحة والإلغاء". يضاف هذا التعريف إلى جملة تعريفات كثيرة مختلف عليها لـ "الإرهاب"، لكن عيبه الأساس أنه ينطبق على أدبيات وسلوكيات "حزب الله" نفسه؛ فأدبيات الحزب العقائدية تعج بتكفير الآخر، منذ مولد الرسالة التي يؤمن بها الحزب إلى يومنا هذا، وأدبياته السياسية تفيض بتخوين الآخر إلى حدٍ كبير، أما سلوكياته؛ فغير متسامحة. لم تكن كذالك عندما فرض الحزب حجمه على الواقع الشيعي بقتاله حركة "أمل"، ولم تتغير كذلك عندما شطب الحزب جسدياً معارضيه من الأحزاب كافة، بما في ذلك المقاومون منهم، وصولاً إلى اتهامه من أرفع المحاكم الدولية باغتيال رفيق الحريري وعدد كبير من قيادات "14 آذار"، وتالياً فإن تعريف نصر الله للإرهاب التكفيري ينطبق عليه، مع فارقٍ واضح؛ أنه وحزبه أكثر حنكة وبراغماتية من الجماعات التكفيرية الجاهلة التي تعاديه.
ثانياً: في معرض رده على منتقدي تدخل حزبه في سوريا؛ اعتبر نصر الله أن تحميله مسؤولية استجلاب الإرهاب إلى لبنان ليس إلا منطقاً تبريرياً للإرهاب نفسه، متسائلاً: "قبل أن نذهب إلى سوريا، ألم يكن في لبنان حربٌ فرضها هؤلاء في الشمال وبعض المخيمات؟" والجواب قطعاً: لا، لأن الإرهاب الذي كان يواجهه لبنان قبل تدخل "حزب الله" في سوريا هو أشبه بالإرهاب الذي يعانيه أي بلد في العالم، كما أن بعضاً منه مصدّر من النظام السوري، وهو في كل الأحوال مختلف عن الحال الجديد الذي وصلنا إليه، باعتراف نصر الله نفسه؛ الذي أقر بأن "الأمر يستحق الصبر، وتحمل التبعات، لأن الشهداء الذين سقطوا بالتفجيرات هم كالذين استشهدوا في سوريا، وهذه الشهادات والدماء والجراح، وهذا الصبر والتحمل هو جزء من هذه المعركة".
ثالثاً: لما كان نصر الله يعلم أن تبريره السابق ليس مقنعاً، أقله لغير جمهوره، فلقد اندفع في فرضية تبريرية أخرى، تقوم على أساس أنهم "جايين جايين" (أي أن الإرهاب قادم إلى لبنان الآن أو لاحقاً)، ما يبرر –بحسبه- حرباً استباقية! وللمفارقة فإن منطق الحرب الاستباقية هو نفسه التي تعتمده "إسرائيل" في عدوانها على العرب عامة، والفلسطينيين واللبنانيين خاصة. وأهم من ذلك؛ إغفال نصر الله للسبب الذي دعا بعض الجماعات المسلحة في سوريا إلى تهديد حزبه، باعتباره مسؤولاً عن معاناة السوريين منذ البدء (في المظاهرات الأولى كان "حزب الله" حاضراً وكان المتظاهرون ينددون به).
رابعاً: يسأل نصر الله: "لماذا يحق لكل دول العالم والسعودية وتونس وغيرها أن تقلق من وجود شبابها في هذه الجماعات المسلحة في سوريا، ولا يحق لنا كلبنانيين؟"، وهنا يبلغ منطق نصر الله قمة التهافت؛ لأن التبريرات التي ساقها نصر الله دليل عليه لا له، فإذا كان نصر الله معجباً بالإجراءات التي اتخذتها السعودية وتونس لمنع مشاركة الشباب في القتال في سوريا، فالأحرى به أن يتوقف عن إرسال شباب حزبه للقتال في سوريا، لا أن يفعل العكس، وتالياً فإنه إذ يدعو الحكومة الجديدة لحماية لبنان من تداعيات القضية السورية، فعليه أن يرضخ لتجريم مشاركة مقاتليه في سوريا في حال كان منسجماً مع ما يقول!
خامساً: يستهزئ نصر الله بشعار النأي بالنفس الذي رفعته الحكومة التي جاء هو بها، وهذا غريب، لكن الأغرب أن "حزب الله" وافق على إعلان بعبدا، وجوهر هذا الإعلان هو النأي بالنفس عن القضية السورية، كما أن قيادات الحزب كلها أشادت بسياسة النأي بالنفس، بل إن نائب الأمين العام للحزب الشيخ نعيم قاسم وصل به الأمر إلى حد اعتبار "الوضع في لبنان مضبوط بقرار النأي بالنفس" (12\3\2013)، بل إن نصر الله نفسه أشاد بسياسية النأي بالنفس قبل عام من الآن قائلاً: "النأي بالنفس مبدأ مهم، والأهم عدم إقحام الموضوع السوري في لبنان، ونحن نقول بإبعاد لبنان عن الصراع في سوريا" (16\2\2013).
سادساً: يختصر نصر الله المشهد السوري بصورةٍ واحدة فقط؛ نظام يقاتل تكفيريين، ويختصر واقع القوى التي تقاتل جيش النظام السوري بـ "داعش" و"النصرة"، وهذا تحريفٌ واضح للواقع، لأن المشهد السوري أعقد من وجود تكفيريين؛ تسبّب قمع النظام وتعديه على الذات الإلهية والحرمات والمقدسات باستجلابهم من العالم أجمع (فضلاً عن أن داعش على صلة ما بالنظام)، كما أن نسبة هؤلاء من حجم المقاتلين لا تتعدى بأحسن الأحوال 10% من القوى المقاتلة (الجيش الحر، والجبهة الإسلامية، وجيش الإسلام، وجبهة الأصالة، وهيئة الدروع، وجبهة الثوار السورية، والجبهة الجنوبية...)، وأهم من ذلك كله أن الجيش الحر والقوى الثورية السورية الأخرى (الجبهة الإسلامية تحديداً وهي تضم عشرات آلاف المقاتلين) هي التي قاتلت وتقاتل "داعش" وتخرجها حالياً من معاقلها في سوريا... وهذا كله يعني أن نصر الله قدّم استنتاجات خاطئة بناها على مقدمات محرفة!
سابعاً: بدا واضحاً في خطاب نصر الله تقديمه الحرب على من يسميهم تكفيريين على ما عداه؛ لدرجة أنه أدرج الحكومة الجديدة في هذا الإطار، وراح يفصّل الموجبات التي على كل طرف أن يتحملها في مواجهة الإرهاب، متناسياً أن أول أسباب هذا الإرهاب -بعد تدخله في سوريا- هو استكباره على الشراكة الوطنية؛ التي يريدها لفظاً ويخالفها فعلاً، وعلى سبيل المثال لا الحصر، فقد تضمن الخطاب إياه الاستكبار المعهود؛ فنصر الله اعتبر ثوار سوريا كلهم سماً يتهدد كل الطوائف، مقدماً نفسه -دون تكليفٍ من أحد- مدافعاً عن هذه الطوائف؛ بإرساله آلاف المقاتلين إلى سوريا، في ما يعتبره "معركة مصيرية وتاريخية"، قائلاً لبقية اللبنانيين: "أنتم أحرار (في رفض السياسية التي فرضها). نحن ندفع عنكم السم الذي تظنونه كوكتيل"!
ثامناً: على جري عادته في نسبة رزايا حزبه وحلفائه إلى الفريق الآخر؛ قال نصر الله: "من جملة أهداف العمل التكفيري إيجاد فتنة بين المخيمات ومحيطها. لماذا الإصرار على أن قادة بعض الجماعات يجب أن يكونوا من الفلسطينيين، والإصرار على أن بعض السيارات خرجت من المخيمات؟!". والواقع أن التحريض على المخيمات جارٍ وعلى وتيرة عالية من قِبَل الحزب وحلفائه ووسائل الإعلام التابعة له، لا من قِبَل خصومه، حتى بات الأمر موضع تندر في الشارع، إذ لا بد أن يكون لأي سيارة مفخخة علاقة بأحد المخيمات، ولو من باب نفخ دولاب هذه السيارة!، مع أن قادة الفصائل الفلسطينية كلها تعمل على عدم حضانة أي مجرم متورط بأي عملية إرهابية تضر بالمخيمات؛ على غرار الضرر الذي تسبب به شاكر العبسي -المصدّر من النظام السوري إلى مخيم نهر البارد-.
من الواضح في التعبئة الإعلامية الجديدة لـ "حزب الله" أن كل الأدبيات والسياسات باتت مربوطة بالحرب المصيرية والتاريخية -وفق تعبير نصر الله- مع "التكفيريين"، بما في ذلك استحضار الموروثات العقدية والتاريخية (أخفاها نصر الله بالحديث عن الوحدة الإسلامية مع أنها شائعة جداً في الشارع الشيعي هذه الأيام)، إضافة إلى ربط الصراع مع العدو الإسرائيلي بالصراع مع "التكفيريين"، لدرجة تشبيهه قتلى الحزب في سوريا، بشهداء الحزب في لبنان، مغفلاً حقيقة أن شهداء المقاومة كانوا يدافعون عن أرض محتلة، فيما يقاتل الثوار السوريون اليوم عن أرضهم، لئلا يحتلها لهم "حزب الله".