سكة حديد الحجاز شريان الحياة اﻹسلامية
في الأول من شهر أيلول 2019 يكون قد مضى على مد خط السكة الحديدية التي تم بناؤها خلال ثمان سنوات مئة وتسعة عشرة سنة، وابتهج المسلمون بوجودها لثماني سنوات، ثم دُمّرت.
فما هي قصتها؟ وفي عهد من أنشئت؟ ومن الذي قام بتدميرها؟
من محطة "حيدر باشا" التي تم إنشاؤها في عام 1900 كبداية لانطلاق مشروع "سكة حديد الحجاز"، ينطلق القطار من إسطنبول إلى محطة قطار في المدينة المنورة (لا تزال قائمة حتى يومنا هذا) مروراً بحلب وحماة وحمص ودمشق وعمان ومعان وتبوك والمدينة؛ متحديًا المكان والزمان، فيقطع المسافة في 3 أيام وقد تصل إلى 5 أيام في حال توقفه في استراحات دمشق، معان أو مدائن صالح، بعد أن كان يقطعها الحجاج بمدة تتراوح ما بين شهرين ونصف إلى ثلاثة أشهر عبر استخدام الجمال.
ففي منتصف القرن الثامن عشر ظهرت ثورة صناعية في بريطانيا، غيرت أحوال العالم، وتمكنت بريطانيا من استعمار بعض الدول الضعيفة وقامت بإنشاء سكة حديدية فيها ﻹرسال الجنود.
وفي نفس الفترة اعتلى سدة الحكم في اسطنبول سلطان؛ يعد آخر سلطان فعلي للدولة العثمانية؛ إنه السلطان عبد الحميد الثاني، وقد كتب السفير اﻹنجليزي عند توليه الحكم رسالة إلى حكومته يقول فيها: إن "السلطان عبد الحميد رجلًا ضعيف البنية وضعيف التفكير، وإن الدولة ساقطة لا محالة." وخابت ظنون السفير وأسياده في إنكلترا، فحكم السلطان 30 عامًا، حارب فيها اﻷعداء والمتآمرين على الدولة العثمانية في الداخل والخارج.
وكان من أهم مآثر السلطان عبد الحميد الثاني رفض بيع فلسطين لليهود، وكذلك سكة حديد الحجاز، لم يلتفت السلطان للمثبطين الذين قالوا باستحالة إقامة مثل هذا المشروع.
وفور إعلانه عن المشروع، شنت الصحف اﻷوروبية حملة تهكم كبيرة على السلطان ومشروعه، بهدف ثني السلطان عنه، وإسقاط الدولة العثمانية. فأرسلت بريطانيا جواسيسها لتخريب هذا المشروع.
كلف المشروع ميزانية الدولة العثمانية، فعرضت بعض البنوك اﻷوروبية قروضاً لتمويله مقابل امتلاك أسهم فيه، فرفض السلطان ذلك رفضاً قاطعاً؛ حين قال: "إن هذا الخط ليس ملكا لي، بل ملك لجميع المسلمين في جميع أرجاء العالم اﻹسلامي."
وأعلن السلطان في جميع أرجاء العالم اﻹسلامي عن أكبر حملة تبرع لبناء خط سكة حديد الحجاز، وتبرع من ماله الخاص بمبلغ 50,000 ليرة ذهبية (تعادل ثروة في ذلك الزمان) لصالح المشروع، كما خصص 18 بالمئة من ميزانية الدولة للمشروع.
تسابق مسلمو العالم للتبرع، ووصلت أكبر تبرعات من مسلمي الهند. إلا أنّها رغم ذلك لم تَكفِ، فماذا فعل السلطان؟
أمر الجنود العثمانيين بالمشاركة في بنائه، فبمشاركتهم لا يضطر لجلب أيدٍ عاملة، ويوفر الأجرة، وعند انتهاء المشروع يتقاعد الجندي نهائيا مكافأة له.
إلا أن العجز استمر، فجاءت فكرة الملصقات وطوابع البريد لسكة حديد الحجاز، فأمر بطباعتها وأمر الدوائر الحكومية بعدم قبول أي معاملة ما لم يكن عليها طابع سكة الحديد، واستحسن الشعب تلك الفكرة وأصبح دخل الطوابع لخط سكة الحديد.
ورغم ذلك لم تكفِ تلك اﻹجراءات لميزانية المشروع وكادت أن تئد فكرته، فتدخل السلطان مجددا وأمر بإجراء جريء، حيث أمر بحسم جزء من مرتبات موظفي الدولة لصالح إقامة خط سكة الحديد، وقال إن الحسم مرتجع حال انتعاش ميزانية الدولة.
بدأ العمل في المشروع في عام 1900، وأسند أمر البناء إلى مهندسين مسلمين، ونظراً ﻷن كلية الهندسة افتتحت قبل سبع سنوات في إسطنبول فإن الخريجين لم تكن لديهم الخبرة الكافية فبحث السلطان عن أعظم وأشهر مهندس في السكة الحديدية فكان المهندس اﻷلماني "مايسنر"، وللتغلب على ندرة الماء في الصحراء الشاسعة، أمر السلطان ببناء صهاريج ماء على طول خط سكة الحديد في مسافة ما بين 50 إلى 70 كيلومتر، فبدأ حفر اﻵبار في الأماكن التي يوجد فيها ماء على طول الطريق، وكان يحمل الماء على ظهور اﻹبل إلى الصهاريج.
وظهرت بعد ذلك مشكلة هجمات البدو على السكة، فقد رفضتها معظم القبائل باستثناء أمير "رابغ". فقد كانوا يرون أنفسهم ملوك الصحراء وتجارها، وأنّ مرور الحجاج بالقطار من أراضيهم سيضر بمصالحهم فهاجموهم.
أرسل السلطان قوة عسكرية تعمل على خط سكة الحديد، كما أرسل وفدا للقاء العشائر البدوية والاستفسار عن سبب مهاجمتهم، فأخبروه بأنهم سيخسرون ماديا لعدم مرور الحجاج بأراضيهم فأمر بتعويض رجال القبائل ماديا وإكرام شيوخهم.
بدأ العمل في عام 1900، وكان العمال ينجزون سنوياً 150 كيلومتر، وهو معدل عالٍ في ذلك الزمان، وفي عام 1902 تفشى وباء الكوليرا في منطقة خط سكة الحديد في "عمّان" مما أدى إلى وفاة جنود عثمانيين وتوقف العمل سبعة أشهر.
وعندما وصل المشروع إلى مدائن صالح، أصدر السلطان أمرًا باستبعاد المهندس اﻷلماني "مايسنر" وجميع العاملين من غير المسلمين معه، لعدم رغبته بتجاوز أي شخص غير مسلم للمنطقة.
وفي الأول من أيلول 1908 افتتح المشروع، في اليوم الذي تولى فيه السلطان "عبد الحميد" الحكم. وبعد ثماني سنوات من العمل المضني الشاق، نجح المشروع رغم تهكم أوروبا فابتهج العالم اﻹسلامي بافتتاحه. وكانت في القطار مقطورة خاصة للصلاة فقط.
ولم تكن سكة حديد الحجاز للقطار فقط بل أيضا للتلغراف (إنترنت ذلك العصر).
كان عدد قاصدي مكة من اﻷناضول من معتمرين وحجاج من 10,000 إلى 15,000 شخص سنويًا، ووصل عددهم بعد افتتاح القطار إلى 300,000 شخص.
وفي عام 1909 تمردت مجموعة من الجيش العثماني على السلطان "عبد الحميد" وتم خلعه ووضعه تحت اﻹقامة الجبرية، وتولى الحكم بعده السلطان "محمد السادس" شكليا، وكان الحكم الفعلي لثلاث ضباط طلعت باشا وأنور باشا وجمال باشا (ضباط الاتحاد والترقي).
استمر العمل في خط سكة حديد الحجاز حتى قدوم ضابط المخابرات البريطانية "توماس إدوارد لورانس" إلى البلاد العربية في عام 1911، الذي كان يجيد اللغة العربية وكان مهتمًا بتاريخ القبائل العربية وثقافتهم وعاداتهم.
وفي عام 1914 قامت الحرب العالمية اﻷولى بين دول الحلفاء، فاختار ضباط الاتحاد والترقي الدخول في الحرب إلى جانب ألمانيا، ورفضت غالبية الشعب ذلك. كانت ألمانيا تقف ضد بريطانيا وفرنسا وروسيا، لذلك أصبحت اﻷراضي العثمانية مستهدفة من قبل الحلفاء، وكان أهم هدف لبريطانيا هو تدمير سكة حديد الحجاز (التي كانت تربط العرب بالدولة العثمانية).
ولا يفوتنا أن نذكر أن جمال باشا أقدم على إعدام معارضيه في الشام، مما ساعد في تأجيج الثورة على العثمانيين.
أرسلت المخابرات البريطانية لورانس الذي عُرِف لاحقًا بـ"لورانس العرب" إلى الحجاز ﻹقناع القبائل العربية بالتمرد على الدولة العثمانية، ووعدهم بتأسيس دولة عربية خاصة بهم، فصدقوه وقامت الثورة العربية الكبرى وثار العرب للتخلص من جمال باشا.
ووصلت السفن اﻹنجليزية محملة بالديناميت إلى البحر اﻷحمر لتفجير سكة حديد الحجاز على يد لورانس الخبير باستخدامها، وبدأ بتدمير شريان الحياة اﻹسلامية خط سكة حديد الحجاز في عام 1916، بعد ثماني سنوات من الحياة توقفت هذه القاطرة؛ ولا تزال رغم العديد من اللقاءات بين مسؤولي الحكومات في البلدان التي تمر بها سكة حديد الحجاز هذه (تركيا وسورية والأردن والسعودية) دون الاتفاق على إعادة مد هذه السكة الحيوية التي إن تم إعادة تفعيلها وعملت عليها قطارات حديثة التيسير لحجاج بيت الحرام في توفير كثير من الأموال والمصاريف الباهظة التي يتكلف بها الحجاج عن طريق النقل بالطائرات.
وسوم: العدد 840