أليس فيكم رجل رشيد؟!
يحار المرؤ في كيفية التوازن بين التصريحات المتضاربة التي يدلي بها المسؤولون الأمريكيون، فقد صرح وزير الخارجية الأمريكية بومبيو في تغريدة على صفحته بموقع التواصل الاجتماعي، تويتر قائلاً: "تقف طهران وراء ما يقرب من 100 هجوم على المملكة العربية السعودية في حين يدعي روحاني وظريف الانخراط في الدبلوماسية. وفي خضم كل الدعوات إلى وقف التصعيد، شنت إيران الآن هجوماً غير مسبوق على إمدادات الطاقة في العالم. ولا يوجد دليل على أن الهجمات جاءت من اليمن".
كما نقلت صحيفة واشنطن بوست عن مسؤول أميركي أن محققين عسكريين أميركيين وصلوا إلى موقع الهجوم في منشأة بقيق، وأنهم يجمعون معلومات عن الأسلحة المستخدمة هناك.
وأضافت أن المحققين يعملون على أساس الافتراض أن الضربات لم تنطلق من اليمن، وأنهم لا يعتقدون أنها جاءت من العراق.
وأوردت الصحيفة أن تقييما أوليا وجد أن 15 مبنى في بقيق تعرضت لأضرار على الجانبين الغربي والشمالي الغربي، وليس على الواجهات الجنوبية كما هو متوقع إذا كان الهجوم قد جاء من اليمن.
من جهته، قال وزير الدفاع الأميركي مارك إسبر إن الهجمات التي وقعت في الآونة الأخيرة على منشأتي نفط تابعتين لشركة أرامكو السعودية "غير مسبوقة"، وإن الولايات المتحدة تعمل مع حلفائها للدفاع عن النظام العالمي الذي تقوضه إيران.
أما عن رد فعل إيران على هذه التصريحات فقد نقلت شبكة (cnn) الأمريكية عن ظريف القول: "بكل حزم أقول إننا لا نرغب في شنّ حرب؛ لا نرغب في الدخول في مواجهة عسكرية... لكننا لن نتردد في الدفاع عن أرضنا".
وبسؤاله عما يمكن أن تسفر عنه ضربة عسكرية أمريكية أو سعودية ضد إيران، قال ظريف: "حرب شاملة".
بعد كل هذا الوضوح الذي صرح به وزير الخارجية الأمريكية ووزير الدفاع الأمريكي الذي يشير إلى تورط إيران في الهجوم على مصافي النفط السعودية وليس الحوثيين كما ادعوا، وتهديدات ظريف بالحرب الشاملة إذا ما وجهت السعودية أو أمريكا ضربة عسكرية لإيران؛ يطل علينا الرئيس الأمريكي ترامب ليصرح بكل برودة أعصاب ولا مبالاة، ملمحاً إلى احتمال تورط إيران في هجوم أرامكو، مؤكدا رغبته بتجنب الحرب معها، وقال إن بلاده مستعدة لمساعدة السعودية مقابل المال ولكن عليها أن تدافع عن نفسها.
وقال ترامب للصحفيين إن المسؤولين الأميركيين يتحققون من الجهة المسؤولة عن شن الهجمات على منشأتي شركة أرامكو بالسعودية، مضيفا أنه يبدو أن إيران هي المسؤولة إلا أنه يرغب "بكل تأكيد" في تجنب الحرب معها مع أن بلاده تملك "أقوى جيش في العالم"، معتبرا أن "الدبلوماسية لا تستنفد أبدا عندما يتعلق الأمر بإيران".
وأضاف ترامب "أعتقد أن جزءا كبيرا من المسؤولية يقع على السعودية في الدفاع عن نفسها، وإذا كانت هناك حماية منا للسعودية فإنه يقع على عاتقها أيضاً أن تدفع قدراً كبيراً من المال"، ويضيف قائلاً: "أعتقد أيضا أن السعوديين يجب أن تكون لهم مساهمة كبيرة إذا ما قررنا اتخاذ أي إجراء، عليهم أن يدفعوا، هم يفهمون ذلك جيدا".
أمام كل هذه المواقف المخزية لمن جعلتم منه الصديق والوصي عليكم، والذي جعل منكم بقرة حلوب يدفع من تحت الطاولة عدوكم إيران لإخافتكم وإرهابكم بهجمات مدروسة ومبرمجة تعجز عنها كثير من الدول العظمى، ومن فوق الطاولة يندد بإيران ويصفها بالدولة الإرهابية الأولى في العالم، أليس فيكم يا آل سعود رجل رشيد يعي ما يدبر لكم وللعرب والمسلمين؟
ولكن وللأسف الشديد فإن معظم دول العالم تعقد قياداتها اجتماعات طارئة وتعلن حالة الطوارئ في البلاد عقب هجمات محدودة أو عمليات إرهابية تتعرض لها، فإن الموقف السعودي كان مناقضاً لذلك؛ فالرياض لم تحرك ساكناً لصد الهجمات الحوثية خلال الأعوام الماضية وحتى اليوم.
وتكتفي السعودية بتسخير إعلامها في توجيه رسائلها إزاء الحرب في اليمن، وهو ما انعكس على تدهور الوضع بالبلاد؛ باعتباره يرفض تصوير ما تتعرض له المملكة بأنه تجاوز للخطوط الحمراء، ويهدد أمن وسلامة البلاد، رغم الخسائر الاقتصادية الكبرى التي تتعرض لها.
وأبقت وسائل الإعلام السعودية على خطاب التطمين وإنكار حدوث أي آثار بسبب تلك الهجمات، واكتفت بتطمين الشارع السعودي بالرد "الحازم"، عبر نقل تصريحات الجانب الرسمي، كان آخرها تصريح لولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، الذي قال عقب الهجوم الذي استهدف أرامكو: إن "للمملكة الإرادة والقدرة على مواجهة هذا العدوان"، وهذه التطمينات تشبه إلى حد بعيد ما يردده النظام السوري بعد كل اعتداء إسرائيلي على الأراضي السورية منذ نصف قرن، بأنه سيقوم بالرد المناسب في الزمان والمكان الذي يحدده النظام.
بعد كل هذا الوضوح في الابتزاز من قبل الرئيس الأمريكي وجشعه وطمعه لابد من أن يتخذ السعوديون القرار الشجاع والصائب، ويلتفتوا إلى مصالحهم وأمن بلادهم، ويفتشوا عن مستشارين صادقين وأوفياء ومخلصين، ولعل في مقدمة هؤلاء الذين غُيبوا عن مراكز القرار من أصحاب العقول النيرة والأكف البيضاء التي لم تتلوث بالمفاسد، وفي مقدمتهم علماء الأمة الصادقين الذين يخشون على الوطن ويضعون خبراتهم في خدمته، ولا يبخلون بتقديم المهج والأرواح في الدفاع عنه والذود عن حياضه، وإذا ما حدث خطأ في الاختيار والتغييب فلا غضاضة من العودة إلى جادة الصواب والتصحيح، فهذا سيدنا عمر الفاروق رضي الله عنه يرسل إلى قاضيه أبي موسى الأشعري كتاباً يقول فيه:
سَلامٌ عَلَيكَ، أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ الْقَضَاءَ فَرِيضَةٌ مُحْكَمَةٌ وَسُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ فَافْهَمْ إِذَا أُدْلِىَ إِلَيْك، فَإِنَّهُ لاَ يَنْفَعُ تَكَلُّمٌ بِحَقٍّ لاَ نَفَادَ لَهُ، آسِ بَيْنَ النَّاسِ فِي وَجْهِك وَعَدْلِك وَمَجْلِسِك؛ حتى لَا يَطْمَعَ شَرِيفٌ فِي حَيْفِك، وَلَا يَيْأَسَ ضَعِيفٌ مِنْ عَدْلِك. الْبَيِّنَةُ عَلَى مَنْ ادَّعَى، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ، وَالصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، إِلاَّ صُلْحًا أَحَلَّ حَرَامًا، أَوْ حَرَّمَ حَلاَلاً، لاَ يَمْنَعَكَ قَضَاءٌ قَضَيْتَهُ اليوم فراجعت نفسك فيه، وهُديتَ فيه لرشدك، أن ترجع إلى الحق؛ فَإِنَّ الْحَقَّ قَدِيمٌ وَمُرَاجَعَةُ الْحَقِّ خَيْرٌ مِنَ التَّمَادِي في الْبَاطِلِ".
ونتمنى على السعوديين الاختيار الصحيح لبعض الدول؛ ليجعلوا منها حليفة وصديقة لهم، لتكون إلى جانبهم عند الإحن والمحن ووقوع المدلهمات، والابتعاد عن الدول ذات الأنظمة المخادعة والمضللة والقاهرة لشعوبها والطامعة في الدولار، فكيف لكم أن تأمنوا على سلامة بلادكم منها وهي تقهر شعوبها وتجوعهم وتظلمهم، وتفتك بعلمائها ومفكريها وعقلائها، وتقرّب الباغين والفاسدين والوصوليين ومروجي المخدرات وتضعهم في مراكز القرار، والعالم أصبح قرية صغيرة أمام انتشار وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، ولم يعد هناك مظلة يختبئ تحتها الضالون والمضلون، فهذه الفضائح تزكم الأنوف تملأ صفحات التواصل الاجتماعي والمحطات الفضائية.
يا أهلنا في السعودية نتمنى عليكم أن تغتنموا الوقت فالوقت إن طال فليس لصالحكم، وعليكم حرق المراحل والاعتماد على النفس والمراجعة الحقيقية والسريعة؛ فلا يحك ظهركم مثل ظفركم، وهذا عدوكم يريد بلادكم وثرواتكم، ومقدسات المسلمين التي تحملتم أمانة حمايتها لنحو قرن من الزمان، فلا تفرطوا فيها فينالكم خزي الدنيا والآخرة، ولعنة الله والملائكة والناس أجمعين.
وسوم: العدد 843