البغدادي قُتل لكن سوريا في ظل الأسد ليست أكثر أمناً
قامت قوات خاصة أمريكية فجر يوم الأحد بتنفيذ عملية عسكرية شملت استخدام حوالي ثماني مروحيات قتالية على متنها ما بين ٧٠ الى ٨٠ عنصراً من القوات الخاصة المعروفة باسم "دلتا" وانتهت بمقتل زعيم تنظيم "داعش" أبو بكر البغدادي في قرية باريشا في محافظة إدلب شمال غرب سوريا. سرعان ما بدأت ردود الأفعال الإقليمية والدولية على هذه العملية بالظهور تباعاً.
الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قام بتوجيه الشكر إلى عدّة دول من بينها تركيا والعراق وروسيا وسوريا، دون أن يوضّح الأدوار الذي لعبتها هذه الدول أو المطالب التي كان الجانب الأمريكي قد توجّه بها إليها. وللمفارقة، فإنّ روسيا أنكرت أن يكون قد حصل أي تنسيق معها، وشككت في كون العملية قد وقعت من الأساس، مشيرةً إلى أنّه لم يجر في تلك الليلة أي تحليق لطائرات أمريكية أو عمليات قصف!
من ناحية أخرى، سارعت وسائل الإعلام إلى تحليل المعطيات والحدث بتفاصيله وانعكاساته المستقبلية، كما أدلى الخبراء بدلوهم في هذا الموضوع. ولعلّ أبرز ما يمكن ملاحظته في هذا السياق هو التركيز الهائل على الانعكاسات المحتملة لهذه العملية على تنظيم "داعش"، وهيكليته، وقوته، ودوره المستقبلي، وماذا يعني اغتياله بالنسبة إلى سوريا والمنطقة.
قتل البغدادي هو حدث رمزي قوي في هذه المرحلة، لكن ماذا يعني مثل هذا الأمر إلى ملايين اللاجئين السوريين؟
تَجاهَلَ النقاش - كالعادة - الأسباب التي أدت إلى ولادة مثل هذا التنظيم والبيئة التي جعلت من تكاثر خلاياه وتمكينه عسكرياً أمراً ممكناً، وعاد إلى الانشغال العقيم بين من يتوقع عودة التنظيم بقوة وبين من يقول إنّ اغتيال البغدادي قد أضعفه تماماً. لا شك بأنّ قتل البغدادي هو حدث رمزي قوي في هذه المرحلة، لكن ماذا يعني مثل هذا الأمر إلى ملايين اللاجئين السوريين؟ ما هي انعكاساته على ملايين النازحين داخل سوريا؟ ما دلالاته بالنسبة إلى المعتقلين والمحتجزين لدى نظام الأسد؟ كيف سيترك آثاره على العملية السياسية الجارية، وعلى مستقبل سوريا؟
لا أبالغ إذا ما قلت إنّ تأثير هذه العملية على المواضيع التي تمّ ذكرها آنفاً يكاد يكون معدوماً. لماذا؟ لأنّ تنظيم "داعش" - كغيره من التنظيمات الراديكالية والجماعات المسلحة الإرهابية - هو نتيجة في المحصّلة وليس سبباً في حدّ ذاته. هو نتيجة لسياسات أدّت الى خلق أزمات سياسية واقتصادية وأمنية واجتماعية، سياسات إلى ولادة الفوضى والتطرف والفراغ والدمار واللجوء والنزوح. معالجة هذه الظواهر يقتضي معالجة الأسباب، أمّا الغرق في الظاهرة بحد ذاتها - بغض النظر عن اتجاه النقاش - فلا يحل مشكلة اسمها "داعش"، فضلاً عن المشكلات الأخرى المتراكمة، وإنما يحرف الأنظار عن المشكلة الرئيسية وهي نظام الأسد نفسه.
وفقاً لأحدث الإحصاءات، فإنّ تنظيم "داعش" مسؤول عن قتل حوالي ٢.٢٪ من مجمل قتلى المدنيين في سوريا حتى العام ٢٠١٩. لا تلغي النسبة الصغيرة لـ”داعش” حقيقة الدور المدمّر الذي لعبه في الثورة السورية، ابتداءً من غدره بالمعارضة أثناء قتالها لنظام الأسد، وتمزيق صفوف المقاتلين، وتوفير الذريعة الممتازة لتوحيد كل الأفرقاء الدوليين بما في ذلك المتخاصمون، وحرف الأنظار والأولوية عن إسقاط نظام الأسد، لكنّها تدفعنا الى إلسؤال عن المتسبب الأكبر وما هو مصيره؟
نظام الأسد وحده مسؤول عن مقتل حوالي ٩٠٪ من المدنيين السوريين بين الأعوام ٢٠١١ و٢٠١٩. وإذا ما أضفنا روسيا وإيران، فانّ هذه النسبة قد ترتفع إلى حوالي ٩٥٪ ناهيك عن المسؤولية عن تهجير ما يزيد على نصف الشعب السوري أي حوالي ١٣ مليوناً بين لاجئ ونازح. لا شك أن قتل البغدادي أمر مهم، خاصة بالنسبة إلى أولئك الذين كان التنظيم سبباً في قتل أقرابهم أو في تهجيرهم أو في وقوعهم فريسة لنظام الأسد وحلفائه والتحالف الدولي الذي أقيم لمحاربة "داعش"، لكن قتله لن يعيدهم إلى ديارهم، ولن يضمن إنجاز تقدم في العملية السياسية ولن يبعد الأسد ونظامه من السلطة. بالنسبة إلى الشريحة الأكبر من السوريين، فإنّ إبعاد البغدادي من المشهد لا يقدّم ولا يؤخّر مقارنة بإبعاد بشّار الأسد من السلطة.
خلاصة القول إنّ سوريا ليست أكثر أمناً بعد مقتل البغدادي لاسيما في ظل وجود الأسد في السلطة. قوّة أو ضعف تنظيم "داعش" وغيره من التنظيمات المماثلة لا يُستمد من قائده، وإنما من الظروف التي يصنعها قادة لا يقلّون إجراماً وبطشاً عنه كنظام الأسد، ومن البيئة التي يؤمنّها هؤلاء لولادة مثل هذه الجماعات وتكاثرها واستمرارها وفي كثير من الأحيان لتوظيفها في أجندتهم الخاصة لبقائهم في الحكم وضرب إرادة الشعوب، وما أكثر الموظّفين أو المشغلين حينما يكون التطرّف والإرهاب هو المقصد.
وسوم: العدد 848