الجدارُ الذي يستند عليه الرؤساء المُستبدّون
لا يكاد يُذكرُ الروس كحلفاء للزعماء و الرؤساء، إلَّا و يتبادر إلى الذهن صورة الجدار الآيل إلى السقوط، الذي ما استند إليه زعيم أو رئيس حليف لهم، سواء في حقبة الاتحاد السوفييتي أو روسيا الاتحادية، إلَّا و انهار به و أطاح به و بنظامه، لدرجة أنّهم أصبحوا نذيرَ شؤم في قصص الحكايا السياسية في العالم أجمع.
و القائمة بذكر أولئك الرؤساء تطول، بيد أنّه يكفي التذكير بعدد منهم: شاوسيسكو، رامز عالية و مواطنه أنور خوجا، نجيب الله و مواطنه بابرك كارمن، صدام حسين، القذافي، علي ناصر محمد و مواطنه علي سالم البيض.
قد يقال إنّ هؤلاء لم تكن روسيا تبادلهم الودّ كما ينبغي، و كانت تنظر إليهم كحلفاء من الدرجة الثانية. ليكُن ذلك، و لكن ماذا يقال بشأن زعيم دولة انشطرت دولته، نتيجة تفاهمات الحرب العالمية الثانية، و أصبحت حديقة خلفية للاتحاد السوفييتي، يصعب التفريط بها، لا بلْ لم يكن في الخاطر أن تعود إلى سابق عهدها، و تتخلّى عنها موسكو.
إنّه " إريش هونيكر:1912ـ 1994" السياسي الألماني، الذي قاد جمهورية ألمانيا الديمقراطية ( ألمانيا الشرقية )، بصفته الأمين العام لحزب الوحدة الاشتراكية، من عام 1971 إلى الأسابيع التي سبقت سقوط جدار برلين في عام 1989.
بدأت مسيرته السياسية في الثلاثينات، عندما أصبح مسؤولًا في الحزب الشيوعي في ألمانيا، وهو ما تسبب بسجنه خلال الحقبة النازية، ثمّ أطلق سراحه بعد الحرب العالمية الثانية، وسرعان ما عاد في نشاطه السياسي، وأنشأ منظمة الشبيبة الحرة الألمانية في عام 1946، وعمل رئيسًا لها حتى عام 1955.
وبصفته سكرتير أمن اللجنة المركزية للحزب في دولة ألمانيا الشرقية الجديدة، كان المتعهد الرئيسي لبناء جدار برلين في عام 1961، وهو في ذلك يتحمَّل مسؤولية الأمر بإطلاق النار، على طول الحدود الألمانية الداخلية؛ بدعوى أنّه أقام للألمانيين جنتهم على الأرض، و يجب عليهم أن ينعموا بها و لا يستبدلوا بها جنة أخرى خارج وطنهم، مهما كانت المغريات و التضحيات .
ومع تراجع حدة التوتر في الحرب الباردة في أواخر الثمانينات، في ظل الإصلاحات الليبرالية للزعيم السوفياتي ميخائيل غورباتشوف، رفض هونيكرجميع التغييرات التي أدخلت على النظام السياسي في ألمانيا الشرقية، لكنه أجبر على الاستقالة من حزبه في أكتوبر 1989؛ سعيًا من النظام الشيوعي للإبقاء على قوته، وبهذا انتهى حكمه على رأس الجمهورية بعد ثماني عشرة عامًا.
قام هونيكر بعد إقالته باللجوء إلى الاتحاد السوفييتي، فلم يجد الحضن الدافئ الذي يقيه من برد موسكو، و من عذابات الضمير التي سببّها لآلاف الأسر الألمانية، التي قضى أبناؤها نحبهم على أسوار برلين، و هم يرمون بأنفسهم خارج جنته المزعومة، التي ضنّ بها على بناته: سونيا، و يانيز، و بيتنانكور، وزوجته التشيلية، وأحفاده، الذين فضلوا أن يعيشوا بالقرب من " روبرتو " في تشيلي، عن أن يكونوا فيها و ينعموا بظلالها الوافرة و سحرها الأخّاذ، فقامت تشيلي باستضافتهم بناء على رغبته.
هرب إلى سفارة تشيلي في موسكو، سنة 1991، عقب إعادة توحيد ألمانيا، لتقوم حكومة تشيلي بتسليمه إلى ألمانيا بعدها بسنة واحدة، لتتمّ محاكمته بسبب دوره في انتهاكات حقوق الإنسان، التي ارتكبها نظام ألمانيا الشرقية، وظل مُعتقلاً لفترة محددة في سجن " موابيت "، و تمّ التخلي عن محاكمته بسبب مرضه بسرطان الكبد، ثم أُفرِج و سُمِح له بعدها أن ينضم إلى عائلته في تشيلي ثانية.
وفي 29 مايو 1994، فارق الحياة عن عمر يناهز 81 عاماً، ومن بعدها أجبرت عائلته على ترك المنزل ومصادرته من الحكومة الألمانية، وطُلبَ منها حتى تتمكن من العيش فيه مرة أخرى، أن تقوم بإسقاط الدعوة ضدها.
و اللافت للنظر أنّه حينما أراد السفر، لم يجد في جيبه ثمن تذكرة الطائرة، فقام الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات بالتبرع له بثمنها، وفاءً له كزعيم دولة تربطها حقبتها الاشتراكية روابط الصداقة بمنظمة التحرير.
وسوم: العدد 851