خمسون اتحاد الرقباء
«اتحاد الكتّاب العرب»، وليد حزب البعث في سوريا وليس «الاتحاد العامّ للأدباء والكتّاب العرب»، يواصل هذه السنة إحياء الذكرى الخمسين لتأسيسه، سنة 1969؛ بموجب المرسوم التشريعي 72، القاضي بإحداث منظمة أنيطت بها مهامّ «التأليف والترجمة في مجالات الشعر والقصة والمسرح والنقد والدراسة والبحث، وما يتصل بها من نشاطات فكرية في الحقل الثقافي والأدبي». يومذاك كانت لائحة المؤسسين قد ضمّت أمثال زكريا تامر، أحمد حيدر، سليمان العيسى، حنا مينه، علي الجندي، أنطون مقدسي، عمر الدقاق، أديب اللجمي، علي كنعان، فؤاد نعيسة، فاضل السباعي، سعيد حورانية، يوسف الخطيب، عبد الله عبد، ممدوح عدوان، محمد عمران، فارس زرزور، جورج سالم، عزيزة هارون، سليمان الخش (الرئيس الأوّل للمنظمة)، وصدقي إسماعيل (الرئيس التالي، حتى عام 1971).
ولا يُذكر هذا الاتحاد إلا ويقفز اسم علي عقلة عرسان، الكاتب والمسرحي الذي تربّع على منصب الأمين العامّ للمنظمة طوال 28 سنة؛ واستحقّ ــ قولاً وفعلاً في الواقع ــ لقب رئيس مخفر مختصّ بالرقابة على مصنّفات الأدب السوري المعاصر، والتنكيل بكتّاب كان يرتأي تصنيفهم في خانة المارقين، أو العصاة، أو المنشقين عن خطّ الاتحاد/ خطّ السلطة. طريف، مع ذلك، أنّ عرسان لم يكن في عداد 33 أديباً سورياً كُرّموا، في سنة 2007، تحت صفة مؤسسي الاتحاد، لسبب بسيط في الواقع، هو أنّ الرجل لم يكن في عداد المؤسسين؛ وكان ضمّه إلى اللائحة سيبدو «حامضاً» تماماً حتى عند رعاة التكريم يومذاك (عضو القيادة القطرية لحزب البعث هيثم سطايحي، وزير الإعلام محسن بلال، وكوليت خوري المستشارة الأدبية عند بشار الاسد)، ممّن يندر أن «يحمض» لديهم أمر! لكن «تكريم» عرسان كان قد اتخذ وجهة أخرى أكثر تشريفاً، إذا جاز القول، إذْ أنه انتُخب عضواً في اللجنة المركزية لحزب البعث، ثمّ أعيد انتخابه ثانية؛ إلى جانب رفيقيه نقيب الصحافيين صابر فلحوط، ونقيب الفنانين أسعد فضة. صحيح أنّ الموقع الجديد هذا لم يكن يتيح له أن يصول ويجول في ميادين الأدب والكتابة (أي الترهيب والرقابة) كما كان يفعل في منصبه السابق المزمن، إلا أنّ عرسان وجد أكثر من طريقة للبقاء في الواجهة، وإسقاط ظلّه على مشهد… فقير أصلاً، وبائس. على سبيل المثال، في العدد 1035 من جريدة «الأسبوع الأدبي»، الناطقة باسم الاتحاد، نقرأ دراسة بعنوان «الرسم بالكلمات عند الشاعر علي عقلة عرسان»، بتوقيع د. فاخر صالح ميّا؛ لكننا نقرأ المادّة ذاتها ـ(وأقصد: حرفياً، بدون زيادة أو نقصان) في العدد 1037 من الدورية ذاتها، أي بعد أسبوعين فقط! فهل قدّر التحرير أنّ غليل الجماهير إلى قراءة هذه التحفة النقدية، عن ذلك الشاعر الفحل، لم يرتوِ تماماً من نشر أوّل، ولا بدّ من نشر ثانٍ للتحفة ذاتها؟ وكي لا نغمط الناقد حقّه في اقتباس نموذج من درّته تلك، هنا فقرة مما .يقول: «تبدو الكتابة لي حالة إبداعية أو موقفاً تلتقي فيه شفاه الموت والحياة في قبلة لاهبة. إن حبّ الحياة عند الشاعر علي عقلة عرسان هو الذي يبقى وحده سليماً لا يتطرق إليه الفساد ولا ينطق محياه قط أقوى مما ينطق من عالم الموت (…)، الدم عند الشاعر يتآخى مع الإيقاع، والشاعر هنا رسام يرسم بالدم ويلوّن، يستخدمه بشكل فني انطلاقاً من موقف فكري أو فلسفي لأن هناك علاقة مكانية بين الشاعر وصورة الدم مكتسبة من سياق التصوير حتى غدا الدم نظرية يتخذه الشاعر لتحقيق التوازن وأن يعلم الآخر أشياء كثيرة عن الدم والموت بوصفه رمز الانتماء إلى الوطن»! كذلك لا يُذكر هذا «الاتحاد» إلا وتُستحقّ استعادة حكاية الروائي السوري الكبير هاني الراهب (1939ــ 2000)، الذي شارك في مؤتمر الكتّاب السوريين سنة 1985، فأغلظ في القول ضدّ المكتب التنفيذي «المنتخَب»، واعتبرهم مجرد عناصر شرطة رقابية تعمل لدى أجهزة السلطة. بعد أيّام معدودات اعتُقل الراهب في مطار دمشق وهو في طريقه إلى اليمن حيث كان يعمل مدرّساً بالإعارة، وسُحب جواز سفره، كما فُصل على الفور من وظيفته كأستاذ للأدب الإنكليزي في جامعة دمشق، وظلّ طوال سنتين ممنوعاً من السفر. البطل الثاني في هذه الحكاية، أو لعلّه الأوّل في الواقع، كان أحمد درغام: عميد كلية الآداب في حينه، و… عضو اللجنة المركزية في حزب البعث، صاحب لقب «جدانوف البعث» بسبب هوسه بممارسة الرقابة الثقافية والفكرية. تبقى إشارة تتوخى إنصاف الحقائق التاريخية، في أنّ خمسينية هذا العام هي احتفاء باتحاد الكتّاب الرقباء، وحدهم، لأنّ للكتّاب السوريين تواريخ احتفاء أخرى باتحادات وروابط عديدة بدأت منذ مطالع القرن الماضي خلال حكم العثمانيين، في الصالونات الأدبية التي أسستها كاتبات سوريات في دمشق وحلب (صالون مريانا مراش الحلبي مثلاً، الذي سبق صالون مي زيادة القاهري). ولعلّ أبرز المحطات بعد استقلال سوريا كانت «رابطة الكتّاب السوريين»، و«رابطة وحي القلم»، و«جماعة الكتّاب التقدميين» و«أسرة الأصدقاء» في حلب، و«أسرة الكواكبي» في دير الزور، و«رابطة الأدب السوري الجديد» في اللاذقية. وبين احتفاء وآخر، أو مئوية وخمسينية، ثمة أديب وثمة… رقيب!
وسوم: العدد 852