الهوية بين دستوري مصر 2012 و 2013
د.غازي التوبة
لماذا الحديث عن الهوية -في هذا الوقت- وفي الدستورين المصريين لعامي 2012 و 2013؟ السبب هو أن الهوية من أهم الأمور المستهدفة من قبل أعداء الأمة خلال القرن الماضي.
فبعد أن جاء الاستعمار، وأسقط دولة الخلافة العثمانية عام 1924، فبقيت الأمة في مواجهة آلة الغرب الثقافية والفكرية الضخمة والتي أرادت استتباع أمتنا، واستلحاقها بهوية الغرب الحضارية، لذلك كان واجب القيادات السياسية والفكرية المحافظة على هذه الهوية، لأن المحافظة على الهوية هو جزء من المحافظة على الأمة.
وإذا اعتبرنا أن الهوية تقوم على ثلاثة عوامل:
1. الدين الإسلامي.
2. اللغة العربية.
3. العروبة.
وجدنا أن هناك تصدعات وتشققات قد أصابت كل عامل من العوامل السابقة، وحتى نستجلي تلك الصورة سنستعرض وضعية كل عامل من العوامل المذكورة أعلاه.
العامل الأول: الدين الإسلامي:
لو استعرضنا وضعية هذا العامل، لوجدنا أنه تعرض إلى التشكيك في كل أصوله التي يقوم عليها بدءاً من الوحي والقرآن: التشكيك في ألوهيته، والإصرار على بشريته، ومروراً بالسنة: التشكيك في جمعها وتصنيفها وعلومها ورجالاتها، وانتهاء بالحضارة الإسلامية: التشكيك في قيمتها ودورها واعتبارها حضارة نقل لكل ما هو سابق عليها.
وبعد التشكيك يأتي ترويج قيم الحضارة الغربية المعاصرة التي تقوم على عالم الشهادة وإلغاء عالم الغيب، وتقوم على نسبية الحقيقة وإلغاء الحقائق المطلقة، وتقوم على المادة وتنكر الروح، وتقوم على تقديس الإنسان والشهوات والدنيا وترذيل وتسفيل كل ما يتعلق بالآخرة والروح والنقل إلخ.. في حين أن كياننا الحضاري يقوم على المزاوجة بين عالم الغيب وعالم الشهادة، وعلى المادة والروح، وعلى الإيمان بالحقائق المطلقة وبالحقائق النسبية، وعلى الجمع بين الدنيا والآخرة، وعلى الجمع بين النقل والعقل. إن هذا التشكيك في قيم الدين الإسلامي وحقائقه ومفاهيمه والترويج لنقيضها جعل الهوية الحضارية للأمة مهددة أكبر تهديد.
العامل الثاني: اللغة العربية:
لقد تعرضت اللغة العربية -خلال القرن الماضي- إلى هجوم عنيف من قبل أعداء الهوية، فاتهموها بصعوبة النحو والإملاء، والعجز عن مواكبة العصر، واتهموها بأنها سبب من أسباب التخلف، ودعوا إلى استبدال العامية بها، أو استبدال اللغات الأوروبية بها، أو كتابتها بحرف لاتيني، ودعوا إلى تغيير قواعد إملائها، ونحوها وقدموا نماذج لذلك، فكتب سعيد عقل ديوان شعر له، بالحرف اللاتيني سماه (يارا).
وكانت نتيجة استصغار شأن اللغة العربية أن فشت اللغة الانكليزية وأصبحت لغة التجارة والتواصل والعلم... وحتى كادت تطغى على اللغة العربية في مصر وغيرها، وأصبحت اللغة العربية مهددة من جانبين: العامية المحلية من جهة، واللغة الإنكليزية من جهة ثانية.
العامل الثالث: العروبة:
تعني العروبة أمرين: الجنس، والفصاحة والبيان والبلاغة، وإذا أخذنا العروبة بالمعنى الأول فلا أعتقد أن هناك أي تهديد للجنس العربي، ولكن التهديد للمعنى الآخر من العروبة وهو: "الفصاحة والبيان والبلاغة"، وهو ما يدخل في تهديد اللغة العربية الذي تحدثنا عنه في العامل السابق.
من الواضح أن هناك تهديداً لهوية الأمة، وقد كانت نتيجة التهديد أن انقسمت الأجيال المعاصرة إلى ثلاثة أقسام:
الأول: قسم تخلّى عن هويته وانساق وراء الهوية الغربية.
الثاني: قسم بقي محافظاً على هويته الإسلامية العربية.
الثالث: قسم ضاع بين الهويتين، فلم يبق محافظاً على هويته السابقة، ولاهو التحق بالهوية الغربية، ومازال الاصطراع قائما بين الهويتين، ومازال الفرز قائما نتيجة اصطراع الهويات.
هذه صورة الهوية غداة ثورة 25 يناير التي كانت تعبيراً عن حركة الأمة في مواجهة استبداد حسني مبارك وظلمه وفساده، وكانت أيضا تعبيراُ عن حركة الأمة في مواجهة آخر حلقة من حلقات المشروع القومي الاشتراكي في التغريب والتأكيد على فشله، ولما كان الدستور المصري الذي وضع عام 2012 جاء تعبيراً عن ثورة 25 يناير، وجاء تعبيراً عن تطلعات الشعب المصري في المحافظة على هويته، والحرص على تثبيتها وترسيخها، وقد جاءت كثير من المواد تؤكد ذلك، لكن حدث انقلاب 3 تموز (يوليو) 2013، والذي عدَل الدستور القديم، فصدر دستور جديد عام 2013 فكيف هي المواد المتعلقة بالهوية؟ وهل سارت الأمور إلى الأفضل؟ أم هي إلى الأسوأ؟ هذا ما سنحاول أن نوضحه في سبعة مجالات: الأول: انتماء مصر. الثاني: مبادئ الشريعة. الثالث: الأسرة. الرابع: الموقف من القيم والأنبياء. الخامس: الشورى. السادس: اللغة العربية. السابع: إلغاء المجلس الوطني للتعليم والبحث العلمي.
المجال الأول: انتماء مصر:
اعتبرت المادة الأولى من دستور 2012 أن "الشعب المصري جزء من الأمتين العربية والإسلامية"، لكن دستور 2013 اعتبر أن مصر "جزء من العالم الإسلامي" ولا شك أن اعتبار مصر جزء من "الأمة الإسلامية" وليست جزءاً من "العالم الإسلامي" أقوى وأصدق في التعبير عن الهوية، وذلك لأن الشعب المصري يلتقي مع أفراد الأمة الإسلامية في العادات والتقاليد والقيم والأخلاق والتوحيد وتعظيم القرآن والرسول و الصحابة إلخ...، ولا شك -أيضاً- أن تفعيل مثل هذه الحقيقة الموضوعية سيعود بالخير والفائدة على الشعب المصري في وجوده وحياته ومسيرته الحضارية
المجال الثاني: مبادئ الشريعة:
نص الدستور المصري لعام 2013 على أن "الإسلام دين الدولة"، واعتبر أن "مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع"، لكن هذه المواد بهذه الصيغة واردة في معظم دساتير الدول العربية، ومع ذلك فإن هوية الأمة كانت في تراجع أمام آلة الغرب الثقافية والفكرية، بسبب عمومية هذه المواد، وعدم وضع آليات دستورية أخرى لتحصين هذه المواد وتطويرها، وقد انتبه دستور 2012 لذلك، فأضاف مادتين، هما: الأولى: تفسير مبادئ الشريعة، وقد جاء التفسير في مادة مستقلة هي المادة 219 ونصت على ما يلي: "مبادئ الشريعة الإسلامية تشمل أدلتها الكلية، وقواعدها الأصولية والفقهية، ومصادرها المعتبرة في مذاهب أهل السنة والجماعة".
الثانية: أن المرجع في تفسير مبادئ الشريعة هم هيئة كبار العلماء، فقد جاء في المادة الرابعة: "ويؤخذ رأي هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف في الشؤون المتعلقة بالشريعة الإسلامية".
أما دستور 2013 فقد حذفت منه المادة 219 التي تفسر مبادئ الشريعة، كما اعتبر دستور 2013 "أن المرجع في تفسير مبادئ الشريعة الإسلامية هو مجموع أحكام المحكمة الدستورية العليا"، و ليس هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف.
ولا شك أن حذف المادة 219 التي تفسر مبادئ الشريعة في دستور 2013 هو نكوص في مجال تدعيم الهوية وتعميق وجودها، وترسيخ كينونتها، وكان وجودها في دستور 2012 خطوة متقدمة في بناء الهوية، لأن النص على أن "مبادئ الشريعة، المصدر الرئيسي للتشريع" وتفسير مبادئ الشريعة بالمادة 219، والعودة إلى هيئة كبار العلماء أقوى من الاقتصار على أحكام المحكمة الدستورية العليا في تفسير مبادئ الشريعة، و بخاصة عندما يأتي تفسير مبادئ الشريعة مشتملا على "الكليات والقواعد الأصولية والفقهية" ويأتي التحديد في "مذاهب أهل السنة والجماعة"، ويمكن أن نعتبر هذا التحديد خطوة متقدمة في مواجهة التغريب من جهة، وفي تدعيم هوية الأمة من جهة ثانية.
المجال الثالث: الأسرة:
لا شك أن الأسرة جزء من الأمة، وإن تحصينها يتحمله طرفان، هما: الدولة والمجتمع، وهذا ما انتبه له دستور 2012، وقد اشتمل ذلك الدستور على المادة 10 التي تقول:"الأسرة أساس المجتمع، قوامها الدين والأخلاق والوطنية. وتحرص الدولة والمجتمع على الالتزام بالطابع الأصيل للأسرة المصرية..إلخ".
لكن دستور 2013 جعل الحرص على استقرار الأسرة مقصوراً على الدولة واستثنى المجتمع من ذلك فجاء في المادة 10: "الأسرة أساس المجتمع، قوامها الدين والأخلاق الوطنية، وتحرص الدولة على تماسكها واستقرارها وترسيخ قيمها"، وليس من شك أن جعل الحرص على استقرار الأسرة مرتبط بالدولة –وحدها- فيه قصور ونقص وخطورة على هويتها، والأجدى اشتراك كل من الدولة والمجتمع في ذلك.
المجال الرابع: القيم والأنبياء:
لقد أقر دستور 2012 مادتين، الأولى: تنص على أن تقوم الدولة برعاية الأخلاق والآداب والتربية والقيم واللغة والتراث، وهي مادة 11، التي تقول: "ترعى الدولة الأخلاق والآداب والنظام العام، والمستوى الرفيع للتربية والقيم الدينية والوطنية، والحقائق العلمية، والثقافة العربية، والتراث التاريخى والحضارى للشعب؛ وذلك وفقا لما ينظمه القانون."
الثانية: تنص على حظر الإساءة و التعريض بالأنبياء والرسل كافة، وهي المادة 44، والتي جاء فيها: " تُحظر الإساءة أو التعريض بالرسل والأنبياء كافة."
لكن دستور 2013 حذف هاتين المادتين، وليس من شك بأن حذف هاتين المادتين يعتبر تراجعاً في مجال الهوية، لأن رعاية الدولة للأخلاق والقيم يعتبر تدعيماً لهوية الأمة، لأن الإسلام جاء لإتمام مكارم الأخلاق كما وضح الرسول -صلى الله عليه وسلم- ذلك، حيث قال: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق." وكما يعتبر حظر الإساءة للأنبياء والرسل معلماً جيداً في دعم هوية الأمة، لأن ديننا وتراثنا الأخلاقي يقوم على الإيمان بجميع الرسل والأنبياء الذين سبقوا رسولنا محمد –صلى الله عليه وسلم- وتوقيرهم واحترامهم وتعظيمهم.
المجال الخامس: الشورى:
لقد وردت كلمة "الشورى" في المادة السادسة من دستور 2012 وكانت المادة كما يلي:
" يقوم النظام السياسى على مبادئ الديمقراطية والشورى، والمواطنة التى تسوى بين جميع المواطنين فى الحقوق والواجبات العامة إلخ.."
ثم حذفت كلمة "الشورى" في المادة الخامسة من دستور 2013، وأصبحت المادة الخامسة كما يلي: "يقوم النظام السياسي على أساس التعددية السياسية والحزبية، والتداول السلمي للسلطة إلخ.."
ولا شك أن وجود مفهوم "الشورى" إلى جانب الديمقراطية إغناء للهوية، لأنه يجعلنا نستفيد من التراث السياسي الموجود في كتب السياسة الشرعية والأحكام السلطانية، بغض النظر عن حجمه وتاريخيته، فعندها نضعه تحت مجهر البحث على أن نستفيد منه في إغناء تجربتنا السياسية وتطويرها وبخاصة أنه مرتبط بشخصيتنا الحضارية التاريخية، وعندما نحذفه كما في فعلنا في دستور 2013 نكون أضعفنا هوية الأمة الحضارية.
المجال السادس: اللغة العربية:
لا شك أن تدعيم اللغة العربية والاهتمام بها عامل رئيس في تدعيم هوية الأمة، وهذا ما دعا إليه دستور عام 2012 في المادة 12 والتي تقول:
"تحمي الدولة المقومات الثقافية والحضارية واللغوية للمجتمع، وتعمل على تعريب التعليم والعلوم والمعارف."
لكن دستور 2013 أضعف الاهتمام باللغة العربية واحتوت المادة 48 على عبارة تشجيع حركة الترجمة، فجاءت المادة كما يلي: "وتشجع الدولة حركة الترجمة من العربية وإليها."
ليس من شك بأن استخدام عبارة "وتشجع الدولة حركة الترجمة من العربية وإليها" أضعف بكثير من عبارة " تعمل (الدولة) على تعريب التعليم والعلوم والمعارف"، وهذا إضعاف للهوية وتراجع في تدعيمها.
المجال السابع: إلغاء المجلس الوطني للتعليم والبحث العلمي:
أقر دستور 2012 وجود "مجلس وطني للتعليم والبحث العلمي" في مادة 214 التي تنص على الآتي: "يختص المجلس الوطنى للتعليم والبحث العلمى بوضع استراتيجية وطنية للتعليم بكل أنواعه وجميع مراحله، وتحقيق التكامل فيما بينها، والنهوض بالبحث العلمى، ووضع المعايير الوطنية لجودة التعليم والبحث العلمى، ومتابعة تنفيذ هذه الاستراتيجية."
لكن دستور 2013 ألغى هذا المجلس، ولا شك أنها خطوة إلى الوراء، وكان عليه أن يستفيد من هذا المجلس في تدعيم وتفعيل الهوية الحضارية للشعب المصري، فجاء هذا الإلغاء ليضيف خسارة أخرى في مجال بناء الهوية وتدعيمها في مصر.
استعرضنا في ما سبق عدداً من المواد التي وردت في دستور 2012 والتي جاءت تدعيماً للهوية الحضارية للشعب المصري، والتي كانت مكسباً كبيراً بالمقارنة مع كل الدساتير السابقة، ولكن دستور 2013 جاء –كما رأينا- ألغى كل هذه المكاسب، ووثقنا كل تلك المخاسر مادة مادة.
ومما يؤسف له أن يأتي الأزهر الذي يمكن أن نعتبره بحق أكبر محافظ على هوية الأمة، يأتي ليقول: إن دستور 2013 أفضل من دستور 2012، مع أن العكس هو الصحيح، والحقيقة أن دستور 2013 أزال كل المكاسب التي قدمتها ثورة 25 يناير في مجال تدعيم الهوية، ويمكن أن نعتبره انتكاسة في مجال بناء الهوية، وكان من حقنا على الأزهر –وهو الممثَّل في لجنة الخمسين التي صاغت دستور 2013- ألا يسمح للجنة بمحو المكاسب التي حصلت عليها مصر في دستور 2012، ولكنه –بكل أسف- لم يفعل ذلك.
الخلاصة: أفرزت ثورة 25 يناير في عام 2012 دستوراً متقدماً بكل المقاييس على الدساتير السابقة في مصر وفي العالم العربي، وبخاصة في مجال تدعيم الهوية، لكن انقلاب 3 تموز "يوليو" أصدر دستوراً عام 2013 محا من الدستور السابق كل الإيجابيات والمكاسب، ومما يأسف له أن الأزهر كان شاهداً ومشاركاً في ذلك الارتكاس والانتكاس.