هكذا ينظر الفقهاء للمحدثات
مَنْ لا يجري على قواعد الأصول، ومناهج الفقهاء، يقف موقف الرفض (من المحدثات دون تفصيل)، ويوجهون أسئلة يظنونها تُفيد المنع، وتحسم الأمر، فيقولون:
س1/ هل (الاحتفال بالمولد) (عبادة)، فإن كان عبادةً فأين الدليل على مشروعيته؟ ويقصدون دليلاً خاصاً، ولا يكتفون بالدلالة العامة والقواعد الكلية؟
س2/ لو كان عبادة فكيف يتركها النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يفعلها؟ ولا يُبلغها للأمة؟
س3/ هل احتفل الصحابة بمولده، وهم أكثر حبا لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟
والنتيجة التي يصلون إليها:
بما أنَّ (الاحتفال بالمولد) ليس عليه دليل خاص، ولا فعله النبي صلى الله عليه وسلم ولا بلغه لأمته، ولا فعله الصحابة وهم أحرص على الخير وأعلم بمراد الله ... إذاً هو بدعة.
والحقيقة أن هذه الطريقة أشبه بالمغالطة، وأبعد عن المنهجية العلمية، وتوضيح ذلك كما يلي:
أولاً: المنهجية التي سلكها العلماء والفقهاء هي أنْ يعرضوا (الأمر الحادث) على (ميزان الشريعة)، فإن خالفها رفضوه، وإنْ وافقها وحقق مقاصدها واندرج تحت أصولها قبلوه، وهذا ما نص عليه جماهير العلماء.
قال الإمام الشافعي: ((المحدثات ضربان:
1- ما أحدث يخالف كتابا أو سنة أو أثرا أو إجماعا فهذه بدعة الضلال.
2- وما أحدث من الخير لا يخالف شيئا من ذلك فهذه محدثة غير مذمومة)).
وقال شيخ الإسلام أبو شامة المقدسي في الباعث على إنكار البدع: (فالبدع الحسنة متفق على جواز فعلها والاستحباب لها ورجاء الثواب لمن حسنت نيته فيها؛ وهي كل مُـبْـتَدَع موافق لقواعد الشريعة غير مخالف لشيء منها ولا يلزم من فعله محذور شرعي).
وقال الإمام الشاطبي في الاعتصام عن تعريف فالبدعة المرفوضة:
(((هي التي لم يدل عليها دليل شرعي:
(1) لا من كتاب
(2) ولا سنة
(3) ولا إجـماع
(4) ولا قياس
(5) ولا استـدلال معتبر عند أهل العلم لا في الجملة ولا في التفصيل))).
ففهم من كلامه أنَّ ما كان من المحدثات موافقاً للاستدلالات المعتبرة فليس من البدع المرفوضة.
ومتى حكمنا للأمر الحادث بالانسجام مع قواعد الشريعة فلا يؤثر على حُكْمِنَا بقبوله كون الصحابة رضي الله عنهم فعلوه أو تركوه، ولذا وجدنا أموراً كثيرة مندرجة تحت قواعد الشريعة، فعلها الصحابة ولم يفعلها النبي صلى الله عليه وسلم، وفعلها التابعون ولم يفعلها الصحابة، وفعلها أتباع التابعين ولم يفعلها الصحابة ولا التابعون، وهكذا مَنْ بعدهم.
وقد ذكرت في كتابي ((البدعة الإضافية)) كثيراً من الأمثلة التي أحدثها بعض الصحابة ولم يفعلها النبي صلى الله عليه وسلم ولا الخلفاء الراشدون، كما ذكرت كثيراً من الأمور التي فعلها التابعون ولم يفعلها الصحابة .. ومن أحب الوقوف على ذلك فليرجع للكتاب ...
ولكني هنا أذكر بعضاً مما ذكرته هناك؟
كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يعلم الناس الصلاة على نبي الله فيقول: (اللهم يا داحي المدحوات ويا باني المبنيات ويا مرسي المرسيات ... اجعل شرائف صلواتك ونوامي بركاتك ورأفات تحننك، وعواطف زواكي رحمتك على محمد عبدك ورسولك...). والحديث في مصنف ابن أبي شيبة، ومعجم الطبراني الأوسط والشريعة للآجري.
فهل يصح أو يجوز أن نقول: لماذا يعلم الناس (عبادة الصلاة على النبي) صلى الله عليه وسلم بصيغة لا تُعرف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهل جهل أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم هذا الخير وعلمه علي رضي الله عنه، وهكذا بقية الأسئلة التي يوردونها.
وأحدث عثمان رضي الله عنه أذانا في الجمعة وأجمع الصحابة على فعله، فهل يصح أو يجوز لنا أن نقول لو كان هذا الأذان عبادة لأرشدنا إليه الرسول صلى الله عليه وسلم، وإذا كان هذا الأذان ديناً وخيراً فكيف يغيب عن مَنْ هو أفضل منه، كيف لم يفعله أبو بكر ولا عمر؟
وهل وردت مثل هذه الأسئلة على أذهان الأئمة والفقهاء؟
مثال آخر:
كان ابن عباس والحسن البصري وطائفة من السلف (يُعرِّفون) والتعريف هو الاجتماع يوم عرفة بغير عرفة تشبهاً بالحجاج، وقد أخرج ابن أبي شيـبة بسنده عن الحسن قال: (أوَّلُ من عَـرَّفَ بالبصـرة ابن عباس).
قال الأثرم: سألت أحمد بن حنبل عنه فقال: أرجو أنَّه لا بأس به قد فعله غير واحد الحسن وبكر وثابت ومحمد بن واسع كانوا يشهدون المسجد يوم عرفة.
وقال ابن تيمية: (فأما قصد الرجل المسلم مسجد بلده يوم عرفة للدعاء والذكر فهذا هو التعريف في الأمصار الذي اختلف العلماء فيه، ففعله ابن عباس ...).
وقد ذكرت المسألة والروايات التي فيها وأقوال الفقهاء في كتابي (البدعة الإضافية) فليراجعه من أحب، ولكني أقول: هل يصح أن نعترض على الصحابة وأئمة السنة، بمثل هذه الأسئلة، فنقول مثلاً:
لو كان ((التعريف)) عبادة لأمر الله بها، أو أمر بها رسوله، ولو كان التعريف خيراً لفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، هل كتم رسول الله هذا الخير عن أمته، هل جهل الخلفاء الراشدون أبو بكر وعمر وعثمان وعلي حكم (التعريف) وعلمه ابن عباس، هل وهل وهل، أيصح أن تقال هذه الأسئلة، أم أنَّ المنهج الرشيد هو أنْ ننظر للمسألة، ونضعها في ميزان الشرع لنستخرج حكمها.
ابن تيمية رحمه الله كان يكرر الفاتحة من الفجر حتى تطلع الشمس، وهذا أمر لم يرد ولم يثبت فعله عن النبي ﷺ ولا عن أحدٍ من أصحابه، قال الحافظ عمر بن علي البزار في الأعلام العلية في مناقب ابن تيمية (ص38): (وكنت مدة إقامتي بدمشق ملازمه ـ أي ملازماً لابن تيمية ـ جلَّ النهار وكثيراً من الليل، وكان يدنيني منه حتى يجلسني إلى جانبه وكنت أسمع ما يتلو وما يذكر حينئذ، فرأيته يقرأ الفاتحة ويكررها ويقطع ذلك الوقت كله أعني من الفجر إلى ارتفاع الشمس في تكرير تلاوتها).
فلم يرَ الشيخ تقي الدين ابن تيمية حرجاً من التزام ذكر مُعَيَّن وهو الفاتحة، في وقت مُعَيَّن، بصفة مُعَيَّنة.
فكيف لو وجهنا هذه الأسئلة لهذا الفعل من الشيخ تقي الدين ابن تيمية وقلنا:
هل هذا الفعل عبادة أم لا ؟ والجواب: نعم عبادة وليس عادة ولا لهواً
ثم نقول: فهل ورد دليل يدل على مشروعية (تكرار الفاتحة من الفجر إلى ارتفاع الشمس)؟ والجواب: لم يرد.
ثم نقول: هل هذا الخير كتمه الرسول صلى الله عليه وسلم عن أمته، وهل غاب هذا الخير عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين وهم أعلم وأحرص على الخير، وهُدِيَ إليه ابن تيمية؟
أما نحن فلا والله ما نورد هذه الأسئلة على ابن تيمية ونرى أنه لم يفعل في هذه المسألة إلا ما يُحمد عليه.
وكان ابن تيمية يذهب إلى الأماكن المهجورة، ويمرغ وجهه في التراب انكسارا وتذللاً لله تعالى ((أي: عبادة)) طالباً من الله أن يفتح عليه وهذا أمر لم يرد بهذا الوصف
يقول ابن عبد الهادي في كتابه العقود الدرية من مناقب شيخ الإسلام أحمد بن تيمية (ص42): (وكان رحمه الله يقول ربما طالعت على الآية الواحدة نحو مئة تفسير ثم أسأل الله الفهم، وأقول يا معلم آدم وإبراهيم علمني وكنت أذهب إلى المساجد المهجورة ونحوها، وأمرغ وجهي في التراب، وأسأل الله تعالى وأقول يا معلم إبراهيم فهمني).
فهل يصح أن نورد عليه في هذه القضية الأسئلة السابقة، ثم نلزمه بأنه جاء بتشريع جديد، وأنه اخترع في الدين وابتدع، وأنه هُديَ إلى ما لم يهتد له الصحابة والتابعون!!
ونقول: إنَّ فعله هذا وإنْ لم يرد عليه دليل خاص، ولكنه داخل تحت الأدلة العامة الآمرة بالتذلل لله والانكسار بين يديه والتواضع له سبحانه وتعالى.
كما نقول بأن فعل الشيخ تقي الدين ابن تيمية رحمه الله وإن كان لم يرد به دليل خاص ولا فعله النبي صلى الله عليه وسلم ولا فعله الصحابة ولا التابعون مع أنهم أعلم وأتقى وأحرص على الخير، وأدرى بسبل الخير وطرائقه ... كل هذا ليس مبررا لمنعه أو اعتباره بدعةً ...
فهل يقول المحرمون للاهتمام والاحتفاء والاحتفال بالمولد النبوي كقولنا؟؟!!
ويذكر لنا ابن القيم في مدارج السالكين (1/446) عن ابن تيمية أمرً عجيباً فيقول: (ومن تجريبات السالكين، التي جربوها فألفوها صحيحة: أن من أدمن يا حي يا قيوم لا إله إلا أنت أورثه ذلك حياة القلب والعقل.
وكان شيخ الإسلام ابن تيمية ـ قدس الله روحه ـ شديد اللهج بها جدا. وقال لي يوما: لهذين الاسمين ـ وهما الحي القيوم ـ تأثير عظيم في حياة القلب. وكان يشير إلى أنهما الاسم الأعظم. وسمعته يقول: من واظب على أربعين مرة كل يوم بين سنة الفجر وصلاة الفجر يا حي يا قيوم، لا إله إلا أنت، برحمتك أستغيث حصلت له حياة القلب، ولم يمت قلبه).
فالشيخ تقي الدين ابن تيمية قَيَّدَ هذا الذكر بعدد، وقَيَّدَهُ بزمن، وأثبت له ثمرة، وحث عليه بقوله (من واظب عليه).
وقول ابن القيم: (ومن تجريبات السالكين) يستفاد منه أن السالك إلى الله تعالى إذا جرب نوعاً من الأذكار، وإن لم يكن هذا الذكرُ مأثوراً ووجد بعد التجربة نفعاً لذلك الذكر، كصلاح قلبه، وإقباله على الطاعة، وتوبته من ذنوبٍ كان يقارفها، فلا حرج عليه في الـمداومة عليه، بل ولا حرج عليه في أن يدل طلابه وأحبابه على تلك النتيجة التي وصل إليها وفتح الله عليه بها.
فهل يصح أن نسرد قائمة الأسئلة التي يوردها (المحرمون للاهتمام بحادثة المولد الشريف) على الشيخ ابن تيمية، ثم نحاول إلزامه بأنه قد ابتدع وزاد في الدين، وأنه كيف غاب هذا الأمر المحيي للقلوب عن الصحابة والتابعين مع أنهم أعلم وأتقى وأحرص على الخير ... الخ
وأجاز ابن تيمية أن يستعمل المسلم ((المسبحة)) ((داخل الصلاة)) ليحسب ((تكرار سورة واحدة)) ... قال ابن تيمية في الفتاوى الكبرى (2/233) فقال مجيباً على مسألة: (فيما إذا قرأ القرآن، ويعد في الصلاة بسبحة، هل تبطل صلاته أم لا ؟:
الجواب: إن كان المراد بهذا السؤال أن يعد الآيات، أو يعد تكرار السورة الواحدة، مثل قوله: قل هو الله أحد بالسبحة فهذا لا بأس به، وإن أريد بالسؤال شيء آخر، فليبينه، والله أعلم).
فلم يرَ ابن تيمية حرجاً في استعمال السبحة داخل الصلاة، ولم يرَ حرجاً في تكرار سورة مُعَيَّنة وبعدد مُعَيَّن، مع كون ذلك كله غير وارد عن النبي ﷺ ولا عن السلف الصالح.
واستذكر أيها اللبيب كل الأسئلة أعلاه ...
وكان سيد العلماء الإمام مالك بن أنس رحمه الله لا يركب بالمدينة دابة، ويقول: (أستحي من الله أن أطأ تربة فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بحافر دابة).
فهل نلوم الإمام مالك على مشاعره هذه، ونسرد عليه الأسئلة المعروفة، فنقول له: أأنت أكثر حباً لرسول الله من صحابته، ومع ذلك ركبوا الدواب وفعلوا وفعلوا .... الخ
إن القانون في المحدثات هو ما أشار إليه الإمام الأصولي الكبير سلطان العلماء العز بن عبد السلام بقوله: وقال الإمام سلطان العلمـاء العز بن عبد السلام (ت 660هـ) في قواعد الأحكام في مصالح الأنام (2/204): (والطريق في معرفة ذلك أن تعرض البدعة على قواعد الشريعة: فإن دخلت في قواعد الإيجاب فهي واجبة، وإن دخلت في قواعد التحريم فهي محرمة، وإن دخلت في قواعد المندوب فهي مندوبة، وإن دخلت في قواعد المكروه فهي مكروهة، وإن دخلت في قواعد المباح فهي مباحة).
منقول
كتبه/ د. سيف علي العصري
4 ربيع الأول 1437هـ
16 / 12 / 2015هكذا ينظر الفقهاء للمحدثات
مَنْ لا يجري على قواعد الأصول، ومناهج الفقهاء، يقف موقف الرفض (من المحدثات دون تفصيل)، ويوجهون أسئلة يظنونها تُفيد المنع، وتحسم الأمر، فيقولون:
س1/ هل (الاحتفال بالمولد) (عبادة)، فإن كان عبادةً فأين الدليل على مشروعيته؟ ويقصدون دليلاً خاصاً، ولا يكتفون بالدلالة العامة والقواعد الكلية؟
س2/ لو كان عبادة فكيف يتركها النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يفعلها؟ ولا يُبلغها للأمة؟
س3/ هل احتفل الصحابة بمولده، وهم أكثر حبا لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟
والنتيجة التي يصلون إليها:
بما أنَّ (الاحتفال بالمولد) ليس عليه دليل خاص، ولا فعله النبي صلى الله عليه وسلم ولا بلغه لأمته، ولا فعله الصحابة وهم أحرص على الخير وأعلم بمراد الله ... إذاً هو بدعة.
والحقيقة أن هذه الطريقة أشبه بالمغالطة، وأبعد عن المنهجية العلمية، وتوضيح ذلك كما يلي:
أولاً: المنهجية التي سلكها العلماء والفقهاء هي أنْ يعرضوا (الأمر الحادث) على (ميزان الشريعة)، فإن خالفها رفضوه، وإنْ وافقها وحقق مقاصدها واندرج تحت أصولها قبلوه، وهذا ما نص عليه جماهير العلماء.
قال الإمام الشافعي: ((المحدثات ضربان:
1- ما أحدث يخالف كتابا أو سنة أو أثرا أو إجماعا فهذه بدعة الضلال.
2- وما أحدث من الخير لا يخالف شيئا من ذلك فهذه محدثة غير مذمومة)).
وقال شيخ الإسلام أبو شامة المقدسي في الباعث على إنكار البدع: (فالبدع الحسنة متفق على جواز فعلها والاستحباب لها ورجاء الثواب لمن حسنت نيته فيها؛ وهي كل مُـبْـتَدَع موافق لقواعد الشريعة غير مخالف لشيء منها ولا يلزم من فعله محذور شرعي).
وقال الإمام الشاطبي في الاعتصام عن تعريف فالبدعة المرفوضة:
(((هي التي لم يدل عليها دليل شرعي:
(1) لا من كتاب
(2) ولا سنة
(3) ولا إجـماع
(4) ولا قياس
(5) ولا استـدلال معتبر عند أهل العلم لا في الجملة ولا في التفصيل))).
ففهم من كلامه أنَّ ما كان من المحدثات موافقاً للاستدلالات المعتبرة فليس من البدع المرفوضة.
ومتى حكمنا للأمر الحادث بالانسجام مع قواعد الشريعة فلا يؤثر على حُكْمِنَا بقبوله كون الصحابة رضي الله عنهم فعلوه أو تركوه، ولذا وجدنا أموراً كثيرة مندرجة تحت قواعد الشريعة، فعلها الصحابة ولم يفعلها النبي صلى الله عليه وسلم، وفعلها التابعون ولم يفعلها الصحابة، وفعلها أتباع التابعين ولم يفعلها الصحابة ولا التابعون، وهكذا مَنْ بعدهم.
وقد ذكرت في كتابي ((البدعة الإضافية)) كثيراً من الأمثلة التي أحدثها بعض الصحابة ولم يفعلها النبي صلى الله عليه وسلم ولا الخلفاء الراشدون، كما ذكرت كثيراً من الأمور التي فعلها التابعون ولم يفعلها الصحابة .. ومن أحب الوقوف على ذلك فليرجع للكتاب ...
ولكني هنا أذكر بعضاً مما ذكرته هناك؟
كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يعلم الناس الصلاة على نبي الله فيقول: (اللهم يا داحي المدحوات ويا باني المبنيات ويا مرسي المرسيات ... اجعل شرائف صلواتك ونوامي بركاتك ورأفات تحننك، وعواطف زواكي رحمتك على محمد عبدك ورسولك...). والحديث في مصنف ابن أبي شيبة، ومعجم الطبراني الأوسط والشريعة للآجري.
فهل يصح أو يجوز أن نقول: لماذا يعلم الناس (عبادة الصلاة على النبي) صلى الله عليه وسلم بصيغة لا تُعرف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهل جهل أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم هذا الخير وعلمه علي رضي الله عنه، وهكذا بقية الأسئلة التي يوردونها.
وأحدث عثمان رضي الله عنه أذانا في الجمعة وأجمع الصحابة على فعله، فهل يصح أو يجوز لنا أن نقول لو كان هذا الأذان عبادة لأرشدنا إليه الرسول صلى الله عليه وسلم، وإذا كان هذا الأذان ديناً وخيراً فكيف يغيب عن مَنْ هو أفضل منه، كيف لم يفعله أبو بكر ولا عمر؟
وهل وردت مثل هذه الأسئلة على أذهان الأئمة والفقهاء؟
مثال آخر:
كان ابن عباس والحسن البصري وطائفة من السلف (يُعرِّفون) والتعريف هو الاجتماع يوم عرفة بغير عرفة تشبهاً بالحجاج، وقد أخرج ابن أبي شيـبة بسنده عن الحسن قال: (أوَّلُ من عَـرَّفَ بالبصـرة ابن عباس).
قال الأثرم: سألت أحمد بن حنبل عنه فقال: أرجو أنَّه لا بأس به قد فعله غير واحد الحسن وبكر وثابت ومحمد بن واسع كانوا يشهدون المسجد يوم عرفة.
وقال ابن تيمية: (فأما قصد الرجل المسلم مسجد بلده يوم عرفة للدعاء والذكر فهذا هو التعريف في الأمصار الذي اختلف العلماء فيه، ففعله ابن عباس ...).
وقد ذكرت المسألة والروايات التي فيها وأقوال الفقهاء في كتابي (البدعة الإضافية) فليراجعه من أحب، ولكني أقول: هل يصح أن نعترض على الصحابة وأئمة السنة، بمثل هذه الأسئلة، فنقول مثلاً:
لو كان ((التعريف)) عبادة لأمر الله بها، أو أمر بها رسوله، ولو كان التعريف خيراً لفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، هل كتم رسول الله هذا الخير عن أمته، هل جهل الخلفاء الراشدون أبو بكر وعمر وعثمان وعلي حكم (التعريف) وعلمه ابن عباس، هل وهل وهل، أيصح أن تقال هذه الأسئلة، أم أنَّ المنهج الرشيد هو أنْ ننظر للمسألة، ونضعها في ميزان الشرع لنستخرج حكمها.
ابن تيمية رحمه الله كان يكرر الفاتحة من الفجر حتى تطلع الشمس، وهذا أمر لم يرد ولم يثبت فعله عن النبي ﷺ ولا عن أحدٍ من أصحابه، قال الحافظ عمر بن علي البزار في الأعلام العلية في مناقب ابن تيمية (ص38): (وكنت مدة إقامتي بدمشق ملازمه ـ أي ملازماً لابن تيمية ـ جلَّ النهار وكثيراً من الليل، وكان يدنيني منه حتى يجلسني إلى جانبه وكنت أسمع ما يتلو وما يذكر حينئذ، فرأيته يقرأ الفاتحة ويكررها ويقطع ذلك الوقت كله أعني من الفجر إلى ارتفاع الشمس في تكرير تلاوتها).
فلم يرَ الشيخ تقي الدين ابن تيمية حرجاً من التزام ذكر مُعَيَّن وهو الفاتحة، في وقت مُعَيَّن، بصفة مُعَيَّنة.
فكيف لو وجهنا هذه الأسئلة لهذا الفعل من الشيخ تقي الدين ابن تيمية وقلنا:
هل هذا الفعل عبادة أم لا ؟ والجواب: نعم عبادة وليس عادة ولا لهواً
ثم نقول: فهل ورد دليل يدل على مشروعية (تكرار الفاتحة من الفجر إلى ارتفاع الشمس)؟ والجواب: لم يرد.
ثم نقول: هل هذا الخير كتمه الرسول صلى الله عليه وسلم عن أمته، وهل غاب هذا الخير عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين وهم أعلم وأحرص على الخير، وهُدِيَ إليه ابن تيمية؟
أما نحن فلا والله ما نورد هذه الأسئلة على ابن تيمية ونرى أنه لم يفعل في هذه المسألة إلا ما يُحمد عليه.
وكان ابن تيمية يذهب إلى الأماكن المهجورة، ويمرغ وجهه في التراب انكسارا وتذللاً لله تعالى ((أي: عبادة)) طالباً من الله أن يفتح عليه وهذا أمر لم يرد بهذا الوصف
يقول ابن عبد الهادي في كتابه العقود الدرية من مناقب شيخ الإسلام أحمد بن تيمية (ص42): (وكان رحمه الله يقول ربما طالعت على الآية الواحدة نحو مئة تفسير ثم أسأل الله الفهم، وأقول يا معلم آدم وإبراهيم علمني وكنت أذهب إلى المساجد المهجورة ونحوها، وأمرغ وجهي في التراب، وأسأل الله تعالى وأقول يا معلم إبراهيم فهمني).
فهل يصح أن نورد عليه في هذه القضية الأسئلة السابقة، ثم نلزمه بأنه جاء بتشريع جديد، وأنه اخترع في الدين وابتدع، وأنه هُديَ إلى ما لم يهتد له الصحابة والتابعون!!
ونقول: إنَّ فعله هذا وإنْ لم يرد عليه دليل خاص، ولكنه داخل تحت الأدلة العامة الآمرة بالتذلل لله والانكسار بين يديه والتواضع له سبحانه وتعالى.
كما نقول بأن فعل الشيخ تقي الدين ابن تيمية رحمه الله وإن كان لم يرد به دليل خاص ولا فعله النبي صلى الله عليه وسلم ولا فعله الصحابة ولا التابعون مع أنهم أعلم وأتقى وأحرص على الخير، وأدرى بسبل الخير وطرائقه ... كل هذا ليس مبررا لمنعه أو اعتباره بدعةً ...
فهل يقول المحرمون للاهتمام والاحتفاء والاحتفال بالمولد النبوي كقولنا؟؟!!
ويذكر لنا ابن القيم في مدارج السالكين (1/446) عن ابن تيمية أمرً عجيباً فيقول: (ومن تجريبات السالكين، التي جربوها فألفوها صحيحة: أن من أدمن يا حي يا قيوم لا إله إلا أنت أورثه ذلك حياة القلب والعقل.
وكان شيخ الإسلام ابن تيمية ـ قدس الله روحه ـ شديد اللهج بها جدا. وقال لي يوما: لهذين الاسمين ـ وهما الحي القيوم ـ تأثير عظيم في حياة القلب. وكان يشير إلى أنهما الاسم الأعظم. وسمعته يقول: من واظب على أربعين مرة كل يوم بين سنة الفجر وصلاة الفجر يا حي يا قيوم، لا إله إلا أنت، برحمتك أستغيث حصلت له حياة القلب، ولم يمت قلبه).
فالشيخ تقي الدين ابن تيمية قَيَّدَ هذا الذكر بعدد، وقَيَّدَهُ بزمن، وأثبت له ثمرة، وحث عليه بقوله (من واظب عليه).
وقول ابن القيم: (ومن تجريبات السالكين) يستفاد منه أن السالك إلى الله تعالى إذا جرب نوعاً من الأذكار، وإن لم يكن هذا الذكرُ مأثوراً ووجد بعد التجربة نفعاً لذلك الذكر، كصلاح قلبه، وإقباله على الطاعة، وتوبته من ذنوبٍ كان يقارفها، فلا حرج عليه في الـمداومة عليه، بل ولا حرج عليه في أن يدل طلابه وأحبابه على تلك النتيجة التي وصل إليها وفتح الله عليه بها.
فهل يصح أن نسرد قائمة الأسئلة التي يوردها (المحرمون للاهتمام بحادثة المولد الشريف) على الشيخ ابن تيمية، ثم نحاول إلزامه بأنه قد ابتدع وزاد في الدين، وأنه كيف غاب هذا الأمر المحيي للقلوب عن الصحابة والتابعين مع أنهم أعلم وأتقى وأحرص على الخير ... الخ
وأجاز ابن تيمية أن يستعمل المسلم ((المسبحة)) ((داخل الصلاة)) ليحسب ((تكرار سورة واحدة)) ... قال ابن تيمية في الفتاوى الكبرى (2/233) فقال مجيباً على مسألة: (فيما إذا قرأ القرآن، ويعد في الصلاة بسبحة، هل تبطل صلاته أم لا ؟:
الجواب: إن كان المراد بهذا السؤال أن يعد الآيات، أو يعد تكرار السورة الواحدة، مثل قوله: قل هو الله أحد بالسبحة فهذا لا بأس به، وإن أريد بالسؤال شيء آخر، فليبينه، والله أعلم).
فلم يرَ ابن تيمية حرجاً في استعمال السبحة داخل الصلاة، ولم يرَ حرجاً في تكرار سورة مُعَيَّنة وبعدد مُعَيَّن، مع كون ذلك كله غير وارد عن النبي ﷺ ولا عن السلف الصالح.
واستذكر أيها اللبيب كل الأسئلة أعلاه ...
وكان سيد العلماء الإمام مالك بن أنس رحمه الله لا يركب بالمدينة دابة، ويقول: (أستحي من الله أن أطأ تربة فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بحافر دابة).
فهل نلوم الإمام مالك على مشاعره هذه، ونسرد عليه الأسئلة المعروفة، فنقول له: أأنت أكثر حباً لرسول الله من صحابته، ومع ذلك ركبوا الدواب وفعلوا وفعلوا .... الخ
إن القانون في المحدثات هو ما أشار إليه الإمام الأصولي الكبير سلطان العلماء العز بن عبد السلام بقوله: وقال الإمام سلطان العلمـاء العز بن عبد السلام (ت 660هـ) في قواعد الأحكام في مصالح الأنام (2/204): (والطريق في معرفة ذلك أن تعرض البدعة على قواعد الشريعة: فإن دخلت في قواعد الإيجاب فهي واجبة، وإن دخلت في قواعد التحريم فهي محرمة، وإن دخلت في قواعد المندوب فهي مندوبة، وإن دخلت في قواعد المكروه فهي مكروهة، وإن دخلت في قواعد المباح فهي مباحة).
وسوم: العدد 856