رقصة "المغتصب أنت" وسرديات تذكير الشرور
وقفن استعداداً لرقصة التحدِّي وسط الميدان. باشَرن إطلاق غضبهنّ الجارف؛ فجاء مشفوعاً بعريضة اتِّهامٍ منطوقة لا مجاملة فيها ولا مداهنة، صدحن بكلماتٍ مدوِّية تناقلتها المقاطع المرئيّة حول العالم فحظيت بإعجاب غامر في منصّات التواصل؛ حتى قبل تأويل مفرداتها عن الأصل الإسباني.
جاء في الهتاف الراقص: "المُغتصِب أنتَ، المجرم أنتَ. إنّها الشُّرطة، الحُكّام، السُّلطة، الرّئيس. الحكومة الظالمة مغتصبة. (...) إنّه اغتصاب؛ ولستُ المذنبة أو ملابسي والمكان (...). المُغتصِب أنتَ، المُغتصِب أنتَ". لم تهبط هذه الكلمات الغاضبة لدى عرضها الأوّل في العاصمة التشيلية سانتياغو من كوكب آخر، حتى أنّ العبارات التي نسجتها فرقة "لاس تيسيس" المسرحية ذات المشرب الفمنستي (الفميني) في نوفمبر/ تشرين الثاني 2019، حرّكت من بعدها صفوفاً من النساء والفتيات استلهمت هذا البلاغ المتأجِّج في عنفوانه من حواضر شتى حول العالم، رغم أنّ الفرقة لم تكن معروفة من قبل.
نبعت الكلمات، التي صاغتها الكاتبة الأرجنتينية ريتا سيغاتو، من واقع يطفح بشواهد مؤلمة وممارسات مؤذية من العنف الجنسي المُخزي ضد النساء، لكنّ المفردات خضعت على ما يبدو لمنظور تأويلي لهذه الشواهد والممارسات أيضاً. تبدو المعطيات المنشورة عالمياً مؤيِّدة لهذه العريضة الاتهامية؛ إلى درجة قد تعمى معها الأبصار الغاضبة عن إدراك الواقع في تعقيده وفهمه في عُمقه أو تشخيص أدواره وتواطؤاته بصفة متحرِّرة من الأهواء الجارفة والأحكام المُسبَقة.
تتصدّر النساء قوائم الضحايا في الاعتداءات الجنسية وجرائم القتل والعنصرية والعنف الأسري حول العالم حقاً، ويتجرّعن مرارات مضاعفة في اللّجوء والنّزوح والتّشريد، ويحملن أعباءً اجتماعية شاقّة داخل البيوت وخارجها، وقد تستنتج نظرةٌ انطباعيّةٌ سابغة أنّ من تسبّبوا بهذه المعاناة في اتِّساعها وتفصيلها هم "الذكور" ببساطة – وإن لم تعبِّر الأغنية عن ذلك بشكل مؤكّد وهو ما لا تنشغل به هذه المقالة في موضوعها - أو هي جمهرة القتلة والمغتصبين من مفتولي العضلات أو أصحاب النفوذ الرِّجال، أو هي سلطات جائرة يقف "ذكور" على رأسها ويتحكّمون بمفاصلها ويوجِّهون سلوكها بإطلاق.
تذكير الشر وتأنيث الخير
لا ينبغي للتّضامن المبدئيِّ الواجب مع ضحايا العنف الجنسيِّ من النّساء والفتيات أو التعاطف مع بواعث أغنية "لاستيسيس"؛ أن يتقاعس عن تمحيص منطق خطابات صاعدة وإنْ حظيَت بكثافة جماهيرية يُستقوَى بها أحياناً لدرء الفحص الواجب والمراجعة النقدية. دون الاقتصار في هذا الشأن على حدود أغنية أو كلمات هتاف وبواعث الحالة الموضعية في تشيلي أو غيرها؛ فإنّ النظرة التي ترى "الذُّكور" جناةً وتَعُدّ "الإناث" ضحايا، أو هكذا تقريباً، تقتضي مراجعاتِ واستدراكات.
شاع، مثلاً، احتجاجُ أصواتٍ من النِّساء والرِّجال، بصفة متسرِّعة أو غير مدروسة، بأنّ الحكومات والمجالس النيابيّة التي تكثر فيها النِّساء، مثل الدول الاسكندنافية ونيوزيلندا، تركِّز على شواغل السّلام والبيئة والتّعليم والصِّحة، بينما تتوسّع السُّلطات "الذكورية" في شنّ الحروب وخوض سباقات التسلّح.
اعلان
يتغافل هذا الاحتجاج الرّائج عن أنّ الدول الاسكندنافية ذاتها ضالعة في تجارة السِّلاح والانغماس في الأحلاف العسكرية أيضاً، وبعضها خاض حروب القرن الحادي والعشرين أيضاً بصفة مباشرة أو داعمة. لعلّ المعطى الأعمق في هذا الشأن؛ أنّ الدول "الوديعة" إيّاها، بما فيها سويسرا التي ترقد على البحيرات الحالمة بين جبال الألب الجليدية، تتكسّب - ولو بصفة غير مباشرة - من أنظمة استغلالية وتحكّمية وشركات كبرى تتجاوز رقعتها، بما يرسو بعصارات الثروات الطائلة والموارد الأولية وشقاء شعوب أخرى في خزائنها المثقلة بالأموال وبما ينعكس على منسوبها المعيشي المتصدِّر.
يَغُضّ القومُ أبصارَهم أيضاً عن نساء تقلّدن وزارات الدفاع في دول مسلّحة حتى أسنانها؛ منهنّ الفرنسية ميشال أليو ماري (2002-2007) والألمانية أورسولا فون دير لاين (2013-2019) التي صعدت من بعدُ إلى رئاسة المفوضية الأوروبية. وهل عبّرت الأوكرانية غولدا مائير عن جوانب خيِّرة في "عالم السياسة الذكوريِّ" عندما رأست حكومة احتلال حربيٍّ استيطانيٍّ أُقيم على أنقاض فلسطين؟ وما يكون الفارق الذي أحدثته سياسات رئيسة الوزراء البريطانية مارغريت تاتشر غير التصعيد على الجبهة الإيرلندية الشمالية وخوض حرب جزر الفولكلاند وتوسّعها مع شريكها الأمريكي رونالد ريغان في تمكين أنظمة استغلالية متعددة الجنسية من الهيمنة على اقتصاد العالم؟
ماذا، أيضاً، عن وزيرة الخارجية الأمريكية المتغطرسة مادلين أولبرايت، أو لاحقتها كونداليزا رايس، أو حتى النساء المتعجرفات المقرّبات من دونالد ترامب؛ مثل نيكي هيلي وغيرها؟ كيف يمكن تصنيف حكم الشيخة حسينة واجد في بنغلاديش المشبّع بانتهاكات مُزمِنة وإعدامات سياسية يتهاون العالم معها؟ وما الفارق الذي أحرزته أون سان سو تشي في ميانمار غير رعاية حملات التطهير العرقي على مرأى من العالم بحقِّ الروهنغيا رغم حيازتها جائزة نوبل للسّلام وكَسْب تعاطف الأوساط الحقوقية خلال سجنها وإقامتها الجبرية؛ ألم تترافع هذه الزعيمة المتنفذة دفاعاً عن هذه الجرائم الوحشية في المحكمة الجنائية الدولية؛ غير عابئة بأفواج النساء والأطفال وكبار السنّ الذين هُجِّروا قسراً وأُحرِقت قراهم أو وقعوا ضحية القتل والاغتصاب؟
ثم إنّ النِّساء حاضرات أيضاً في الأحزاب العنصريّة والفاشيّة وقوى أقصى اليمين في أوروبا، رغم المنابت "الذُّكورية" الجليّة لبعض هذه القوى التي دأبت على مطاردة النِّساء والرِّجال المحسوبين على مكوِّنات مجتمعية مستهدفة بالكراهية والتّحريض. تصدّرت وجوه نسائية قوى يمينية متطرِّفة في فرنسا وألمانيا والدانمرك وغيرها؛ بصفة مُتناسِبة تقريباً مع المنسوب العام لمشاركة النِّساء في الحياة السياسية في هذه الأقطار، ومن المؤكّد أنهنّ تَرَكْن تأثيراتٍ متعدِّدة على اتِّجاهات السِّياسة وصنع القرار والنِّقاشات العامّة في مجتمع السِّياسيين والسِّياسيات عموماً عبر قارّة تستبدّ بها الحمّى الشعبويّة ونزعات الانغلاق في بواكير الألفية الثالثة.
قد تُلتمَس تأويلاتٌ محتملة لبعض هذه الحالات النِّسائية، من قبيل أنها تعبِّر عن تملُّق "المنحى الذكوريِّ السّائد" أو أنّ الأمر يتعلّق بهيمنة "أنظمة ذكوريّة متجذِّرة" على التجارب السِّياسية والإداريّة للرِّجال والنِّساء معاً؛ لكنّ مواصلة الانجراف مع هذه التأويلات بلا استعداد للمراجعة النّقدية أو التّمحيص الواعي؛ يُفصِح عن نزوع أيديولوجيّ لا يصحّ ستره أو تملّقه بدعوى التعاطف السّاذج مع المظالم النسائية.
تتشبّع السردية بالتناقضات في حقول شتى. فعندما امتدّت مطاردة النزعة "الذكورية" المُفترَضة إلى اللُّغة، كما حدث في الألمانية التي شهد فضاؤها جدلاً في هذا الشأن، جرى الإلحاح على تحاشي الاكتفاء بالجمْع المذكّر بضغط من أصوات فمنستية (فيمنية) وغيرها، لكنّ تطبيق ذلك لا يكاد يسري في الواقع على مُفردات ذات دلالة سلبيّة. صار يُقال مثلاً: الطّالبات والطّلبة أو الأستاذات والأساتذة أو الأخصائيّات والأخصائيّون؛ وهذا حسَن ولا تثريب عليه، ولم يُجترأ على القوْل: الإرهابيّات والإرهابيّون أو السّارقات والسّارقون، فهذه الأخيرة وما لفّ لفّها احتفظت بصيغة التّذكير في واقع الاستعمال غالباً. يُؤخَذ هذا المثال الساطع في البيئات الناطقة بالألمانية تعبيراً عن تحيّز لِسانيّ مُؤدلَج؛ بما يوحي بأنّ المنطق اللُّغوي الذي يزعم تحرِّي التكافؤ والمساواة لا يبدو سابغاً على الاستعمالات جميعاً في واقع التطبيق؛ رضوخاً لنزعة تذكير الشرّ وتأنيث الخير على ما يبدو.
معنى أنّ الظلم ذكوري وضحاياه نساء
تنجرف عرائض الاتِّهام الجماهيريّة، ومنها التي تأتي في كلمات رقصة التحدِّي، خلف تعريف أحاديٍّ صارم للظُّلم والقهر أو القتل والتنكيل أو الابتزاز والاغتصاب؛ فهي تُصَوَّر على أنها ممارساتٌ ذكوريّة وأنّ ضحاياها هنّ النساء. لا ريب أنّ من النِّساء والفتيات ضحايا في مجالات شتى، بما يندى له الجبين، وأنهنّ يتصدّرن قوائم الاستهداف الجائر في بعض المجالات، لكنّ اعتبارهنّ "الضّحايا" حصراً يشي بمنظور انتقائيٍّ لا يعترف بالواقع من حوله، وهو منطق مُختَلّ يُطيح بحقوق الإنسان التي يتكبّد رجال وشبّان وأطفال عناء انتهاكها في الواقع أيضاً.
إنْ التّسليم بسردية "النِّساء هنّ الضّحايا"؛ يستبطن تنكّراً فجّاً لملايين البشر من سجناء الرّأي والضّمير الذين تكتظّ بهم سجون الظُّلم ومراكز الاعتقال الجماعية الجائرة في أرجاء الأرض، وأمثالهم من المفقودين والقتلى. وهل يصحّ إغفال واقع المقهورين الذين يقاسون صنوف الشقاء والحرمان عبر المعمورة، أو حشود المشتغلين في الحقول والمناجم والمعامل ضمن ظروف أقرب إلى الاستعباد عبر أقاليم الجنوب وصولاً إلى حقول إسبانيا وإيطاليا المتوسّطية التي يعمل فيها فاقدو الخيارات والأوراق الثبوتية الذين أبحروا من بؤس الجنوب إلى فردوس أرضي متوهّم في اليابس الأوروبي؟
أليس الأحرى بالمدافعين عن الحقوق والعدالة والكرامة الإنسانية؛ الاعتراف بمحنة الإنسان – عموماً - في واقع يتسيّده البشر دون التكلُّف في اشتقاق سردية مستقلّة بالنِّساء في هذا الشأن ومحاولة تفسير التّاريخ من خلالها؟ إنّ الانطلاق من محنة الإنسان عموماً لا يقضي بالانتقاص من خصوصية محنة النِّساء وعُمق آلامهنّ في الماضي والحاضر؛ وهو ما يستحقّ تسليط الأضواء عليه وكشف أبعاده ومكافحته بواعثه ومحفِّزاته بلا هوادة. ثمّ إنّ وجوه الاستغلال المركّب التي تقاسيها نساء وفتيات، بعضهنّ في سنّ الطفولة أيضاً، مهما بدت جسيمة؛ لا تسوِّغ التواني عن الاعتراف بضلوع نساء في ممارسات جائرة أيضاً بصفة مباشرة أو غير مباشرة؛ ومثل هذا لا يدين سوى من جِئن بشيء من ذلك، ولا تَزِرُ وازرةٌ وِزْرَ أخرى.
عزل النساء عن الاجتماع الإنساني
تُوحِي بعض الخطابات المتذرعة بالفمنستية (الفيمنية) بمحاولة الاستقلال بالنِّساء عن الاجتماع الإنساني؛ عبر إسباغ تصوّرات مثاليّة أو طهوريّة عليهنّ أو إكسابهن صفة الضحية وحسب، وهي سردية تقع في مأزق الانتقاص من النِّساء أساساً باختصاصهنّ بتصنيف مستقلّ وإخراجهنّ – في وجوه مخصوصة - من دائرة الفعل المؤثِّر في حركة الواقع والتاريخ. إنّ وَصْم الاستغلال بالذكورية بلا احتراز؛ لا يُعين على فهم الاستغلال في مسالكه وتشخيص تمظهراتِه المتعدِّدة، وهو ما يسري على مسالك الجَوْر والاستعباد والقتْل والانتهاكات عموماً؛ بضحاياها من النِّساء والرِّجال معاً، وإن تفاوتَت النِّسَب في إحدى الكفّتيْن حسب أنواع المظالم والتعدِّيات.
ممّا لا يستوقف خطاباتِ تذكير الشرّ وتأنيث الخير، عادةً، أنّ الفجوة الاستغلالية القائمة بين بعض النِّساء قد تزيد أحياناً عن الفجوة النمطية بين الرِّجال والنِّساء، وهو ما يمكن تعقّبه حتى في عالم الأجور والامتيازات والحظوة أيضاً. من القسط القول إنّ النساء البائسات اللّواتي يَشقَيْن في مشاغل الملابس والحقائب والأحذية يقضين حياتهنّ في كدّ وتعب مقابل فتات الأجر لإنتاج سلع تتبارى نساءٌ محظيّات في بيئات أخرى في اقتنائها بأثمان باهظة، وقد يربح بعض "الذُّكور" عوائد وفيرة من خلال أدوار الوساطة بيْن من يَعمَلْن بشقاء ومن يشترين بسخاء. وقد تقف بعض "الإناث" على رؤوس امبراطوريّات التكسّب هذه؛ بدءاً من الفرنسية كوكو شانيل التي أحاطت بسيرتها انتقاداتٌ جسيمة؛ ومن جاء بعدها على هذا النّهج.
معضلة الوصم الذكوري للعنف
إنّ استسهال الرُّكون إلى وَصمٍ ذكوريٍّ للعنف والتّنكيل يُفضي إلى إشكال مفهوميّ حَرِج للسّردية ذاتها من واقع ممارسات شتّى في الواقع البشريّ؛ مثل التي تقترفها مجنّدات الاحتلال بحقِّ الأسيرات الفلسطينيات، أو ما ارتكبته جندية الاحتياط الأمريكية السابقة ليندي إنغلاند من فظائع مصوّرة يندى لها الجبين بحق أسرى عراقيين في سجن أبو غريب سنة 2004 (كُشِف النقاب عن قليل جداً من صورها المقدّرة بالمئات)، فهل هذه "انتهاكات ذكورية" أيضاً أم أنه وجه مقابل لها؛ كأن تكون "تسلّطاً أنثوياً" مثلاً بالمنطق ذاته؟
إن جاز التّسليم بمقولة "الأنظمة الذكورية المستبدّة"؛ فإنّ النساء يرتقين في بعضها أدواراً يضطهدن من خلالها النِّساء والرِّجال معاً. ولا يخفى أنّ الجيش التي تفرّد عالمياً بفرض التجنيد الإلزاميِّ على النِّساء منذ تأسيسه؛ ظلّ جيشَ احتلالٍ واضطهادٍ وإذلالٍ وجرائم حرب أيضاً؛ وإن حمل اسم "جيش الدفاع الإسرائيلي". واصل هذا الجيش الجائر تبرير انتهاكاته الجسيمة جولةً بعد جولة عبر جهاز دعائي يتولّى تسويغ القتل والهيمنة الجائرة؛ تشغل نساء حاذقات أدواراً متقدِّمة فيه، ثمّ إنه يجد من سياسيات العالم وإعلاميّاته من ينبرين لتجميل صورته أيضاً ضمن عموم الجوقة الداعمة لانتهاكاته.
وقد وجدت بعض النساء والفتيات في هذا الجيش الصهيوني تحديداً فرصاً مُغرية لممارسة الإذلال والتنكيل، إلى حدّ السّادية الصّريحة أحياناً، بحق نساء ورجال سرّاً وعلانية. يفضح السلوك المصوّر بالهواتف الذكية بعض ما يجري من تلذُّذ في إطلاق النار أو إظهار البهجة بممارسة التنكيل بحق رجال فلسطينيين معصوبي الأعين وبعضهم من كبار السنّ؛ كما فعلت جندية الاحتلال أيدين أبرغيل في سنة 2010 التي نشرت صورها في هذا الموقف الإذلالي مع تعليق "أجمل فترة في حياتي"!. وتباهت زميلة لها بعد ثمان سنوات (أكتوبر/ تشرين الأول 2018) بأنها أطلقت النّار على شاب فلسطيني أعزل بعد أن أمرته بالرّكض وحرصت على تصوير الجريمة في مقطع أرسلته إلى زميلها للتّباهي بالفعلة الشنعاء.
أين تقع هذه الممارسات الوحشية، المتفشية في عالمنا بلا حدّ، من مفهوم العنف الذكوريِّ وحدوده المرسومة في خطابات صاعدة؟ لا تقتصر المعضلة على انتهاكات التّنكيل السّافر؛ فمن الإنصاف الإشارة إلى شواهد أخرى قد تأخذ طابع السّطوة الثقافية/ الطبقية؛ التي تتذرّع أحياناً بالفمنستية (الفيمنية) في مسعاها لاضطهاد نساء وفتيات والانتقاص من حقوقهنّ في اختيار اللِّباس مثلاً أو حريّتهنّ في التعبير عن الالتزام الدينيِّ. من المألوف أن تستعمل هذه الفئة/ الطبقة القيَم في مواجهة القيَم، أو أن تضرب قيمةً نبيلةً بذاتها؛ عبر توظيف "حقوق المرأة" مثلاً ذريعةً للانتقاص من حقوق المرأة، فهي تتذرّع بالمرأة ضد المرأة وبرفض الذكورية لاستهداف "الإناث".
بلغ الأمر ببعض الأصوات في أوروبا أن اعتبرت ظهور النساء والفتيات بملابس محتشمة على الشاطئ مسلكاً ذميماً، وجرى التوسّع في تسمية ذلك اللِّباس الاختياري "بوركيني" (برقع/ بكيني) بغرض التحقير، في حملة تشويه جارفة استهدفت الضّغط المعنويِّ على هذا الاختيار وربّما محاولة حظره إجرائياً أو تجريمه معنوياً؛ بما يقضي بحرمان نساء وفتيات من فرص الاستمتاع بالشواطئ كغيرهنّ.
انساقت بعض الخطابات الفمنستية (الفمينية) خلف نزعة الضحية، وقد جيء بذلك توطئةً تبريريّةً لخطاب الاتهام التعميميِّ الصارم الذي يُعلِن أنّ "المُغتصِب أنتَ.. المُجرِم أنتَ"، مع ما يحرِّض عليه ذلك من توجّهات انتقامية رمزيّة أو صريحة أحياناً، وقد تأتي بصفة متطرِّفة على منوال حركة "فيمن" المتذرِّعة بالنساء التي تستعمل جسد المرأة العاري أداةً تظاهر أو وسيلة تنكيل معنوي بالأحرى في الفضاء العام وفي دور العبادة خصوصاً، إلى درجة انساقت فيها مع موجة العداء للإسلام وحمّى الإسلاموفوبيا في أوروبا باقتحام مراكز إسلامية (استوكهولم مثلاً) ومؤتمرات جامعة للمسلمين معظم مرتاديها من النساء والفتيات (لوبورجيه، باريس).
حاجة إلى الفهم
تبقى التصوّرات النّمطية الجاهزة عن "الاستغلال الذُّكوري" جديرةً بالتّمحيص وفحص سريانها السابغ على الواقع دون التدحرج إلى نفي هذا الاستغلال أو استبعاده، فإحالة الشرور جميعاً في هذا الشأن إلى "المجتمع الأبويّ الباترياركيّ الذكوريّ"؛ محفوفة بإشكاليات جمّة قد تُفضي مثلاً إلى محاولات ترقيعيّة لتسويغ اضطراب السّرديّة أو ضعف قدرتها التفسيرية للظّواهر في عمومها؛ ومنها حالات تضطّلع فيها نساءٌ بأدوار قيادية فاعلة ومشهودة في المجتمع عيْنه أو يَشغَلْن فيه بعض مواقع الحظوة والامتيازات المتضخِّمة.
لِمَ لا يُفهَم الاستغلالُ في سيرورته الاجتماعية والتاريخية والثقافية بصفة تحتَمِل أن تأتي من الرِّجال ومِن النساء أيضاً؟ وإنْ تصدّر الرجالُ مجتمعاً ما ارتبطَ بهم الاستغلال الظّاهر ممّا قد يُتوقّع من النِّساء أيضاً لو تقلّدن أدواراً رياديّة؛ وإن اختلفت بعضُ الكيفيّات والمظاهر وطرائق توظيف الاقتدار على الظُّلم والقهر والبطش أو التعبير عن الهيمنة والتسلّط والاستغلال؛ باعتبارها مسالك تتحرّك ضمن فجوة السلطة وفوارق الحظوة وتبايُن الاقتدار.
قد يقود الرِّجال والنِّساء أنظمةً استغلاليةً أو ظالمة أو معتدية؛ أو ينخرطون في خدمتها أو يتربّحون منها بأقدار شتى؛ وقد يتشاركون الهيْمنة بمقدار انخراطهم في الحالة أو انتفاعهم من عوائدها. وتُتوقّع الخيريّةُ وما يُناقضها من النِّساء ومن الرِّجال أيضاً، فتكون المرأة مثالاً للوَجهيْن في العِظَة والاعتبار، وهذا يؤكد حضورها في الاجتماع البشري عبر التاريخ؛ وقد قال الله تعالى: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ، وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) سورة التحريم 10-11.
وسوم: العدد 857