قدوة القيادة في الإسلام 9
قدوة القيادة في الإسلام
الحلقة التاسعة : التربية والبناء 2
د. فوّاز القاسم / سوريا
ثالثاً _ الأخلاق المثالية ، والسلوك الرباني :
لقد كانت مرحلة الاستضعاف المكية ، مرحلة تربية للقاعدة الصلبة ، على الأخلاق الفاضلة ، والسلوك الرباني .
وكان مصدر العطاء في ذلك ، هو القرآن الكريم ، الذي هو مصدر كل خلق فاضل ، وسلوك النبي صلى الله عليه وسلم ، الذي وصفه ربه فقال : (( وإنك لعلى خلق عظيم )) القلم (4 ).
وتحدث هو عن نفسه فقال :
(( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق )).رواه الإمام مالك
ولو استعرضنا القرآن المكي الذي كان يتنـزل في هذه المرحلة ، لوجدناه ذاخراً بالكنوز التربوية الخلُقية والسلوكية الفاضلة .
قال تعالى : (( يهدي إلى الرشد )) . الجن ( 2 ) .
*ولعل في قمة هذه الأخلاق الفاضلة ، التمسك بالدين والالتزام بالعبادة :
-(( والذين هم على صلاتهم يحافظون )) . المعارج (34 ).
-(( فاقرؤوا ما تيسر منه ، وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ، وأقرضوا الله قرضاً حسناً ، وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله ، هو خيراً وأعظم أجراً ، واستغفروا الله إن الله غفور رحيم )) . المزمل (20 )
-(( وذكر اسم ربه فصلى )) . الأعلى ( 15 ).
-(( واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا ، ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلاً طويلاً )) الدهر ( 25 ) .
*ومن هذه الأخلاق أيضاً ، الصبر على متطلبات الدعوة ، والإعراض عن المشركين والمكذبين :
-(( فاصبر صبراً جميلاً )) . المعارج (5 ) .
-(( فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت )) . القلم (34 ).
-(( واصبر على ما يقولون ، واهجرهم هجراً جميلاً )) المزمل (9)
-(( فاصبر لحكم ربك ، ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً )).الدهر (25)
-(( وتواصوا بالصبر )). البلد ( 15 ).
-(( إن مع العسر يسراً ، إن مع العسر يسراً )) . الانشراح (5 ) .
*ومنها الإيمان والعمل الصالح :
-(( والعصر إن الإنسان لفي خسر ، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر)).العصر (8 ) .
*ومنها أداء الشهادة ، وحفظ الأمانة ، ورعاية العهد ، والوفاء بالنذر :
-(( والذين هم بشهاداتهم قائمون )) .المعارج (33 ).
-(( والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون )).المعارج (32 ).
*ومنها الحث على الكرم والبذل والإنفاق في سبيل الله ، والنهي عن الشح والبخل :
-(( ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً ، إنما نطعمكم لوجه الله ، لا نريد منكم جزاءً ولا شكوراً )). الدهر (25 ).
-(( والذين في أموالهم حق معلوم ، للسائل والمحروم )). المعارج (25 ).
-(( وأقرضوا الله قرضاً حسناً )). المزمل (20 ).
-(( فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى ، فسنيسره لليسرى)). الليل(7).
-(( الذي يؤتي ماله يتزكى ، وما لأحد عنده من نعمة تجزى ، إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى )) الليل (21 ).
* ومنها الإحسان الى الفقراء واليتامى والمساكين وأولي القربى :
-(( فأما اليتيم فلا تقهر ، وأما السائل فلا تنهر )).الضحى(9) .
-(( كلا بل لا تكرمون اليتيم ، ولا تحضون على طعام المسكين)) الفجر( 18)
-(( أو إطعام في يوم ذي مسغبة ، يتيماً ذا مقربة ، أو مسكيناً ذا متربة)). البلد(14).
* و منها تزكية النفس :
-(( قد أفلح من زكاها )) . الشمس (9).
* والرحمة والإحسان والتقوى :
-(( وتواصوا بالمرحمة )). البلد (17).
-(( إنا كذلك نجزي المحسنين )).المرسلات(44).
-(( إن المتقين في ظلال وعيون )). = = .
* والعفة والطهر :
-(( والذين هم لفروجهم حافظون )).المعارج (35).
* وعدم الركون إلى الدنيا ، وعبادة المال :
-(( ألهكم التكاثر حتى زرتم المقابر )) التكاثر (1).
-(( وتأكلون التراث أكلاً لما ، وتحبون المال حباً جماً )).الفجر (19).
* والابتعاد عن العادات الذميمة ، كالهمز ، واللمز ، والغيبة، والنميمة ، والحلف الكاذب :
-(( ويل لكل هُمَزة لُمَزة )).الهمزة (7).
-(( ولا تطع كل حلاف مهين ، همّاز مشّاء بنميم ، منَّاع للخير معتد أثيم ، عُتُلٍّ بعد ذلك زنيم )).القلم (13).
* والابتعاد عن الغش والاحتكار وسوء المعاملة في البيع والشراء:
-(( ويل للمطففين ، الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون ، وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون )) المطففين (1).
وهكذا مع عشرات غيرها من الدروس التربوية ، والتي تصب كلها في خدمة بناء القاعدة الصلبة ، التي يعول عليها في حمل أعباء هذه الرسالة الخالدة .
أما المصدر الثاني للتربية الخلقية الفاضلة ، فهو سلوك النبي صلى الله عليه وسلم وقدوته الكريمة ، باعتباره القائد الأول ، والمربي الأكمل لأبناء هذه الدعوة المباركة .
كيف لا وقد زكاه الله من رأسه إلى رجليه .!
• فقد زكى لسانه ومنطقه فقال : (( وما ينطق عن الهوى )).النجم
• وزكى بصره فقال : (( ما زاغ البصر وما طغى )). =
• وزكى قلبه فقال : (( ما كذب الفؤاد ما رأى )). =
• وزكى عقله فقال : (( ما ضل صاحبكم وما غوى )). =
• وزكى علمه فقال : (( علمه شديد القوى )). =
• وزكى خلقه فقال : (( وإنك لعلى خلق عظيم )).القلم(4)
ويطول بنا المقام لو رحنا نستقصي كامل أخلاقه وصفاته وشمائله صلى الله عليه وسلم ، فقد أُلفت فيها الكتب والمجلدات كما ذكرنا . ويكفي أن نذكّر في هذا المقام بحديث عائشة رضي الله عنها ، عندما سئلت عن خلقه صلى الله عليه وسلم ، فقالت : كان خلقه القرآن … ولقد رأينا للتو ، ما هي أخلاق القرآن …
ولما كان الخلق الفاضل ، والسلوك النبيل لا يُؤَسس في المجتمع بالتعاليم المرسلة أو الأوامر والنواهي فحسب ، بل لا بد لها من القدوة الحسنة .
لأن التربية لا تصلح إلا إذا اعتمدت على الأسوة الحسنة .
والرجل السئّ يستحيل أن يترك في نفوس من حوله أثراً طيباً .
إنما يتوقع الأثر الطيب ممن تمتد العيون إلى شخصه ، فيروعها أدبُه ويسبيها نبلُه ، وتقتبس ، بالإعجاب المحض ، من خلاله ، وتمشي بالمحبة الخالصة في آثاره .
ولا بد لكي يحصل التابع على قدر كبير من الفضل ، أن يكون في متبوعه قدر أكبر وقسط أجل .لذلك فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه ، مثلاً أعلى للخلق الفاضل الذي يدعو إليه.
ولقد كان يغرس بين أصحابه هذا الخلق السامي بسيرته العاطرة ، قبل أن يغرسه بما يقول من حكم ومواعظ ...
فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن فاحشاً ولا متفحشاً .
وكان يقول : (( خياركم أحاسنكم أخلاقاً ))البخاري .
وعن أنس رضي الله عنه قال : خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين ، والله ما قال لي أفٍّ قط ، ولا قال لشيء :
لم فعلت كذا ؟ وهلا فعلت كذا ؟
وعنه رضي الله عنه : إن كانت الأمة ، لتأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتنطلق به حيث شاءت .!
وكان إذا استقبله الرجل فصافحه ، لا ينـزع يده من يده ، حتى يكون الرجل هو الذي ينـزع يده .
ولا يصرف وجهه عن وجهه ، حتى يكون الرجل هو الذي يصرفه .
ولم يُر مقدماً ركبتيه بين يدي جليس له . الترمذي
وعن عائشة رضي الله عنها قالت : ما خُيّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً ، فان كان إثماً كان أبعد الناس عنه . وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه في شئ قط ، إلا أن تنتهك حرمات الله فينتقم . وما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً قط بيده ولا امرأة ولا خادماً ، إلا أن يجاهد في سبيل الله تعالى . رواه مسلم .
وعنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(( إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف ، وما لا يعطي على سواه )) . مسلم .
وعن عبد الله بن الحارث ، قال : ما رأيت أحداً أكثر تبسماً من رسول الله صلى الله عليه وسلم . الترمذي .
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أحسن الناس ، وأجود الناس ، وأشجع الناس .
وكان سمحاً لا يبخل بشيء أبداً ، شجاعاً لا ينكص عن حق أبداً ، عدلاً لا يجور في حكم أبداً ، صدوقاً أميناً ، قبل البعثة وبعدها ..
ولقد أثنى على شمائله ، وأعجب بأخلاقه الأعداء والأصدقاء ، ولقد وقفنا من قبل على نماذج من شهاداتهم به ، ولا بأس أن نذكر بشهادة خديجة رضي الله عنها التي قالت فيها : إنك لتحمل الكلَّ ، وتُكسب المعدوم ، وتُعين على نوائب الحق .
وكان صلى الله عليه وسلم دائم البِشر ، سهل الطبع ، لين الجانب .
ليس بفظ ولا غليظ ، ولا صخّاب ، ولا فحّاش ، ولا عتّاب ، ولا مدّاح …
من جالسه أو قاربه لحاجة صابره ، حتى يكون هو المنصرف عنه .
ومن سأله حاجة لم يرده إلا بها ، أو بميسور من القول …
قد وسع الناس خلقُه ، فصار لهم أباً ، وصاروا عنده في الحق سواء.
وكان صلى الله عليه وسلم يمازح أصحابه ، ويخالطهم ، ويجاريهم، ويداعب صبيانهم ، ويجلسهم في حجره .
قالت عائشة رضي الله عنها : ما كان أحد أحسن خلقاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ما دعاه أحد من أصحابه ، ولا من أهل بيته إلا قال : لبيك …
وقال أنس رضي الله عنه : ما التقم أحد أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم ناجاه فينحي رأسه ، حتى يكون الرجل هو الذي ينحي رأسه . وما أخذ أحد بيده فيرسلها ، حتى يرسلها الآخر .
وكان يبدأ من لقيه بالسلام ، ويبدأ أصحابه بالمصافحة ، ولم يُرَ قط مادّاً رجليه بين أصحابه ، فيضيق بهما على أحد .
وكان يكرم من يدخل عليه ، وربما بسط له ثوبه ، ويؤثره بالوسادة التي تحته ، ويعزم عليه بالجلوس عليها إن أبى …
وكان يكنّي أصحابه ، ويدعوهم بأحب أسمائهم إليهم ، تكرمة لهم . وكان لا يقطع على أحد حديثه حتى يتجوز فيقطعه بانتهاء أو قيام . . وبذلك فعلاً يكون خلقه القرآن ، صلى الله عليه وآله وسلم .
فجدير بكل من تصدى لمهمات قيادية ، أو تقلّد مسؤوليات في العمل الدعوي العام ، أن يقتدي به ، ويسير على نهجه …