درس في اختيار القادةمن النبي صلى الله عليه وسلم 3
[باختصار، من مقال للواء الركن محمود شيت خطاب، منشور في مجلة الأمة – كانون الثاني 1984م]
الحلقة 3/3
العقيدة الراسخة:
كان ثلاثون من قادة النبي صلى الله عليه وسلم، من الذين أسلموا قديماً، وكانوا من السابقين إلى الإسلام.
وكان واحد وعشرون قائداً من السابقين الأولين إلى الإسلام، من الذين شهدوا غزوة بدر الحاسمة.
وكان هؤلاء الذين أسلموا قديماً، على جانب عظيم من الإيمان العميق، وهم من الذين ثبت إخلاصهم لعقيدتهم بشكل حاسم، لذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يضع ثقته الكاملة فيهم ويفضّلهم على غيرهم من أصحابه في تولي المراكز القيادية.
ومعنى ذلك أن ثمانين بالمئة ممن تولى المناصب القيادية هم من الذين أسلموا قديماً، وستين بالمئة منهم من البدريّين.
وكان واحد من قادته ممن أسلموا بعد الهجرة، هو كرز بن جابر الفهري، ولّاه النبي صلى الله عليه وسلم قيادة سرية من سراياه، لأنه كان فارساً مغواراً وشجاعاً مقداماً، يُحْسِنُ التعرّض والمطاردة، والسريّة التي تولى قيادتها مؤلفة من الفرسان، مهمّتهم الاندفاع السريع والمطاردة.
وكان واحد من قادته من الذين أسلموا بعد غزوة أُحُد التي كانت في السنة الثالثة الهجرية، وهو عمرو بن أمية الضمري، ولّاه النبي صلى الله عليه وسلم لشجاعته الفائقة ولتطوّعه مختاراً لتحمل الواجب الذي أوكل به إليه، وكان عمرو قد حسُن إسلامه.
وكان خمسة من قادته من الذين أسلموا قبل فتح مكة التي كانت في السنة الثامنة الهجرية، وهم: ابن أبي العوجاء السُّلمي، وخالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعُيينة بن حِصن، وعلقمة بن مُجزِّز.
وقد ولّى ابن أبي العوجاء السلمي على سرية من سرايا الدعوة، إلى قومه بني سُليم، لأنه أعرفُ بمداخلهم ومخارجهم، وأعرف بهم من غيره.
وقد ولّى عليه الصلاة والسلام عُيينة بن حصن، لأنه كان سيّد غطفان، وقد امتنع فخذ من أفخاذ تميم فلم يدفعوا صدقاتهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَن لهؤلاء القوم الذين فعلوا ما فعلوا؟". فانتدب أولَ الناس عُيينةُ، فبعثه قائداً على سرية مؤلفة من خمسين فارساً من الأعراب، ليس فيهم مهاجري ولا أنصاري، ويبدو أن مبادرة عيينة إلى التطوع قبل غيره من الناس، أدّت إلى توليته قيادة هذه السرية التي خلت من المهاجرين والأنصار، وهم المسلمون الأولون الذين لا ينبغي أن يتأمر عليهم غير القادرين من المسلمين الأولين، إلا لضرورة قصوى وحكمة بالغة.
وولّى عليه الصلاة والسلام عَلْقمة بن مُجزّز المدلجي، لأنه كان ذا كفاية قيادية عالية جداً، بالإضافة إلى أنه أسلم وحسن إسلامه، كما أسلم أبوه مُجزّز وأخوه وقّاص الذي استشهد في غزوة ذي قَرَد.
الكفاية العالية:
لم يتسنم قادة النبي صلى الله عليه وسلم مناصبهم القيادية، لأنهم كانوا يتحلون بالعقيدة الراسخة فحسب، إذ لم يُوَلِّ القيادة للذين أسلموا قديماً كافة، بل ولّى قسماً منهم فقط لا يزيد عددهم على ثلاثين قائداً. كما أن البدريين جميعاً لم يتولوا مناصب قيادية على عهده صلى الله عليه وسلم، بل تولى منهم واحد وعشرون قائداً، كلهم ممن تحقق فيهم الشرطان: العقيدة الراسخة، والكفاية العالية.
ولّى عليه الصلاة والسلام خالد بن الوليد وعمرو بن العاص، لكفايتهما القيادية العالية، كما أنهما أسلما وحسن إسلامهما، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعرفهما شخصياً ويعرف أنهما لا يُسْلِمان أبداً عن رهبة ولا لأسباب عاطفية، بل إن إسلامهما عن رغبة وبعد تفكير عميق وقناعة كاملة.
وقَدِمَ خالد بن الوليد إلى المدينة المنورة، مهاجراً إلى الله ورسوله، مطلع صفر السنة الثامنة الهجرية.
قال خالد: "فلما طلعت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، سلّمتُ عليه بالنبوّة، فردّ عليه الصلاة والسلام بوجه طلق، فأسلمتُ وشهدت شهادةَ الحق، فقال صلى الله عليه وسلم: "قد كنتُ أرى لك عقلاً رجوتُ ألا يُسْلمك إلّا إلى خير". وبايعتُه وقلت: أستغفر كل ما أوضعت فيه من صد عن سبيل الله!".
وما يقال عن خالد بن الوليد، يقال عن عمرو بن العاص أيضاً. فقد ولّاه النبي صلى الله عليه وسلم قيادة أصحابه في الجهاد بعد إسلامه.
وقال عليه أفضل الصلاة والسلام عن خالد وعمرو لأصحابه الذين كانوا حوله حين قدما المدينة المنورة مسلمَين: "ألقتْ إليكم مكة أفلاذ كبدها".
وسوم: العدد 861