جلعاد شاليط يتزوج والطلاق بائن في العداء للسامية!
على صفحات الرأي في «نيويورك تايمز»، وليس في أبواب المجتمع أو المنوعات أو حتى أخبار العالم، زفّت باري وايس الخبر السارّ عن اعتزام جلعاد شاليط الزواج من صديقته نيتزان شاباط؛[ زواجه الثالث ] الأمر الذي يعني، من وجهة نظرها، أنّ الأسير السابق الأشهر قد عاد إلى الحياة. وهي، «مثل 14 مليون يهودي في العالم» كما تشدد، تعتبر الخبر مناسبة «عائلية» تُفرح جموع اليهود على نطاق كوني؛ «كأنّ شقيقاً لنا خاتل الموت بأعجوبة لم يكن على قيد الحياة فقط، بل وُهب فرصة من أجل حياة ثانية»، تكتب في مقالتها المعنونة «جلعاد شاليط ابن إسرائيل يتزوج».
وليس لمقالة وايس أن تكتفي بالمستوى العاطفي والإنساني للخبر، أو الإعراب عن الابتهاج لجندي إسرائيلي قضى في الأسر خمس سنوات، وإلا لتوجّب من حيث المبدأ عدم منازعتها في حقّ الاحتفال؛ حتى في أوج الاختلاف معها أو مع العريس حول قضايا أخرى أبعد، وأعمق بكثير، من مجرّد التفهّم التلقائي لأسباب البهجة. لكنّ وايس لا تملك إلا العودة إلى التاريخ التوراتي في قراءاته اليهودية الماضوية الأشدّ تعنتاً ضدّ الحاضر، فتكتب أنّ موافقة دولة الاحتلال على تبادل شاليط مقابل 1027 سجيناً فلسطينياً يخالف المنطق العقلاني؛ ولكنّ «اليهود سوف يردّون عليك بأنّ هذه الواقعة تُظهر قدرة إسرائيل على الوفاء بالقيم اليهودية، أي اختيار قيمة الحياة. الحكومة اقتفت النصّ الديني: كلّ مَن أنقذ حياة فقد أنقذ العالم. وهذا يأخذ على محمل الجدّ الإلحاح الميموني على أنّ تخليص الأسرى هو بين أعظم وصايا الله». وأيضاً: «هذا يثبت أنّ الدولة ــ الأمّة للشعب اليهودي تعمل مثل عائلة، وأنّ سبب العمل على إنقاذ جلعاد، أياً كان ثمنه، مردّه أنه ابن العائلة».
والحال أنّ ابتهاج وايس لم يدفعها، البتة بالطبع، إلى استذكار حقيقة أولى كبرى تقول إنّ شاليط كان أسير حرب، وقع في الأسر أثناء مرابطته على أرض يحتلها الجيش الذي يخدم فيه، وخلال عملية قتالية سقط خلالها إثنان من زملائه وجُرح خمسة آخرون. كما تتناسى الحقيقة الثانية الأكبر، والأشدّ دموية وكشفاً لـ«القيم» الفعلية التي تنتهجها دولة الاحتلال: مقتل 400 فلسطيني من أبناء غزّة، خلال الغارات الأولى التي أعقبت عملية الأسر؛ ثمّ تدمير 14 في المئة من كامل المباني في القطاع، بما في ذلك 21 ألف مسكن؛ ومتابعة الغارات والحروب المصغّرة التي أسفرت عن استشهاد 1400 فلسطيني، بينهم 300 طفل، خلال عملية «الرصاص المصبوب» وحدها، حسب تقارير منظمة العفو الدولية؛ وصولاً إلى فرض الحصار على 1,5 مليون فلسطيني من سكان غزّة. وأمّا الحقيقة الثالثة التي تتغافل عنها وايس، عن سابق عمد بالطبع، فهي أنّ دولة «القيم» إياها نكثت بما اتفقت عليه مع الوسيط المصري الذي تولى عقد صفقة مبادلة شاليط، فأعادت اعتقال عدد من الأسرى الذين أطلقت سراحهم، ولجأت إلى التصفية الجسدية لعدد آخر منهم.
والحال أنّ وايس ليست كاتبة رأي في صحيفة أمريكية كبرى مثل «نيويورك تايمز»، فحسب؛ وليس ابتهاجها بزواج شاليط محض تضامن «عائلي» يهودي، كما تقول؛ بل هي، إلى هذا وذاك، مؤلفة واحد من أكثر الأعمال ضحالة وسطحية، وانحيازاً صهيونياً أعمى، حول العداء للسامية. كتابها «كيف يُكافَح العداء للسامية»، 2019، يختزل سلسلة مسائل معقدة، دينياً واجتماعياً واقتصادياً وسياسياً وثقافياً، إلى «برشامات» مصغرّة؛ تبدو للوهلة الأولى سهلة الابتلاع، لكنها تنتهي إلى عسر هضم فاضح، وتجهيل كارثي، وتشويه لوقائع تاريخية، وخبث مفضوح في توظيف معطيات مختلفة المصادر والمعاني. «أطروحة» الكتاب العظمى هي أنّ العداء للسامية مرض يصيب المجتمعات «حين تلجأ إلى استبدال الحقيقة بالأكذوبة»، إذْ عندها يكون فيروس العداء لليهود قد استقرّ في الجسد الاجتماعي، مما يستوجب العلاج من دون إبطاء.
كذلك فإنها لا تردّ العداء للسامية إلى أيّ مفصل تاريخي في عمر الإنسانية أقلّ من فراعنة مصر، ثمّ العماليق الكنعانيين والأموريين، ورفض اليهود الإقرار بأنّ يسوع هو ابن الله، ونظريات المؤامرة المسيحية المتعاقبة على امتداد التاريخ بعد الميلاد، قبل أن تصل إلى العصور الحديثة حيث الطبعة النازية والعربية تحديداً من فيروس العداء من دون سواه. وفي صدر كتابها تنطلق وايس من واقعة الهجوم على الكنيس الذي ترتاده مع عائلتلها في بتسبورغ، بنسلفانيا، أواخر تشرين الأول (أكتوبر) 2018؛ فتكتب أنها رأت في هتاف «الموت لجميع اليهود»، الذي قيل إنّ المهاجم روبرت غريغوري باورز أطلقه، ترجيعاً لأقوال «جرت على ألسنة العماليق، الأنذال الذين حشروا الإسرائيليين الأضعف في الصحراء وهم على الطريق إلى أرض الميعاد»؛ وأنّ ما «ردّده العماليق يتناسل جيلاً بعد جيل، ويدقّ عندي جرس الإنذار».
لكنها، كما ينبغي لكاتبة مثلها تحمل أعباء أفراح «العائلة» اليهودية وأتراحها معاً، تتذكر شارلز كوفلن، القسّ الأمريكي الشهير الذي كانت عظاته في ثلاثينيات القرن الماضي محطّ أسماع ملايين الأمريكيين؛ وحديثه عن اليهود هكذا: «لقد عشنا كي نرى اليوم الذي اكتنز فيه شايلوك الحديث وبات أكثر بدانة وثروة، يُمتدح ويُعظّم، لأنه يواصل الجريمة العتيقة في الاغتصاب تحت ستار قيادة الدولة الحديثة». وتتذكر، كذلك، أنّ بلدته في ميشيغان اضطُرّت إلى بناء مبنى بريد إضافياً، كي تتمكن من استيعاب قرابة ثمانية آلاف رسالة كانت تصله يومياً، حين كان الزمن لا فاكس فيه ولا رسائل إلكترونية بالطبع. وليس لها إلا أن تستعيد هنري فورد، صانع السيارات الشهير وأحد أبرز أيقونات الرأسمالية الأمريكية خلال النصف الأول من القرن العشرين، في علاقته الشخصية مع أدولف هتلر، ومنحه وسام الصليب الأعظم من مرتبة النسر الألماني في سنة 1938؛ وكذلك شغفه بالتعبير عن كراهية اليهود على صفحات جريدته «ديربورن إندبندنت»…
فصول كتابها الخمسة تتناول تاريخ العداء للسامية ضمن منهج الابتسار ذاته، خاصة في الفصل الثاني الذي يسرد تاريخ الظاهرة منذ القدم، ولكنه يُخضعها لمعيار مطلق مفاده أنّ «اليهودية ليست ديناً فقط، ولا إثنية. اليهودية شعب. وعلى نحو محدد أكثر: إنها شعب له لغة، وثقافة، وأدب، ومجموعة خاصة من الأفكار، والعقائد، والنصوص، والممارسات القانونية. وبكلمة واحدة: له حضارة». هذه الجوهرانية في اصطفاء اليهود، واليهودية، سوف تتناسى أنّ الأديان ثقافات في نهاية المطاف، وأنها استطراداً متحركة ومرنة وبنات التاريخ؛ ولهذا فإنّ هذا التناسي تحديداً هو ما يجعل وايس تبيح لذاتها خلاصات إطلاقية تنسحب على تيارات اليمين مثل تيارات اليسار على امتداد التاريخ البشري، ولكنها تستقرّ خصوصاً عند «الإسلام الراديكالي»؛ غير جاهلة، كما يُنتظَر من أمثالها، ما تمتّع به اليهود من امتيازات تسامح عالية داخل النظام الإسلامي الذمّي، حسب أعتراف الكثير من مؤرّخي العداء للسامية. وكيف لها، تماماً على غرار رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، إلا أن تعود الأدراج إلى مفتي القدس الشيخ أمين الحسيني، في تحديد «جذور» عداء السامية الحديث عند المسلمين!
في مقابل زواج جلعاد شاليط، ثمة طلاق بائن بين حقائق التاريخ وكتّاب يهود يتناولون العداء للسامية بمنظور اختزال الظواهر إلى محض «برشامات» مصغرة؛ وهم، في الضحالة والسطحية والتجهيل، عائلة راضية سعيدة!
وسوم: العدد 865