دلالة المفردة القرآنية مستعلية متفردة منضبطة في سياقها ..
وليست بالدلالة الاصطلاحية القاصرة أو المقصورة للدراسات المنهجية
وهذه الخصوصية الدلالية في القرآن الكريم ، مزلة زلت فيها أقدام البعض من أبعاض العلماء . حين عجزوا عن إدراك خصوصية المفردة القرآنية في سياقها الخاص ، فحملوا دلالة على دلالة ، ومعنى على معنى ، فخبطوا وما زال بعضهم يخبطون .
إن أول ما يتعلمه طالب الدراسات المنهجية في ميدان البحث أن عليه أن يضبط مصطلحاته وعناوينه فيحدد بدقة ماذا يريد منها . حتى يعطى الحق على قصرها على ما يريد .
وكانت تلك طريقة حجة الإسلام الغزالي رحمه الله تعالى في كتبه . أنه كان يخص كل باب من أبواب البحث بتحميدة خاصة به ، تواءمه حتى ضُرب المثل بروائع تحميداته ، واعتبرت من بدائع " حسن الاستهلال " المعبر عن المقصود في الباب ، ثم يثني العنان ليحدد بالضبط محددات الموضوع الذي يفيض فيه .
وكان الراغب الأصفهاني رحمه الله تعالى وهو من شهب علماء الإسلام ، ومعاصر للإمام الغزالي قد ألف كتابه السابق حسب علمي والفريد : مفردات القرآن ، والذي حاول أن يجعل منهم بمثابة معجم قرآني ، يميز فيه على مستوى الدلالة في استعمالات اللفظ الواحد ، ولكنه ضرب بالمعول ضربة أو ضربتين ولم يستوف ..
وللخروج من التنظير لا بأس أن نلجأ إلى التمثيل لتقريب المفهوم ، وتجسيد النظري في العملي :
مثلا ما هي دلالة ألفاظ مثل الإيمان ..والإسلام .. والتقوى ..والصدق في سياقات القرآن الكريم ..
وما هي دلالات ألفاظ مثل : الظلم ..والفسق .. والشرك ..والكفر ..وهل لهذه الألفاظ دلالة واحدة في كل السياقات ؟
والألفاظ الاصطلاحية الشرعية مثل الصلاة ..والزكاة ..والصوم ..والجهاد ..هل وردت دائما بنفس المعنى الاصطلاحي المتردد في العديد من الآيات ..
عندما نقرأ : وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية ، أليس من الواجب أن نميز في دلالة كلمة الصلاة في سياقها ، غير فهمنا للصلوات الخمس ...
وعندما يقول سيدنا عيسى : وأوصاني بالصلاة والزكاة ..أو عندما تقول أمه من قبل : إني نذرت للرحمن صوما ، أفليس من الواجب أن ترشدنا ألفاظ مثل الصلاة والزكاة والصوم إلى دلالات في غير الصور التي آل إليها الأمر في شريعتنا ؟؟
نجح الفقهاء نجاحا باهرا في التمييز المبكر بين الدلالة اللغوية والدلالة الاصطلاحية للفظ القرآني ، .فبينوا وفصلوا وحددوا . ولكن بعضهم قصر في بعض المواطن ، واشتركوا هم والمفسرون معهم في بعض هذا على السواء . وقصروا عن وضع حدود للدلالات الاصطلاحية في سياقاتها المتعددة في آيات القرآن الكريم .
وأعود للمثل ..
ذُكر الظلم في القرآن الكريم في سياقات كثيرة ، وكان أقصاها في الدلالة قوله تعالى على لسان لقمان ( إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ) . فعرف الظلم بأنه صورة من صور الشرك العقدي بالله والعياذ بالله . ..ولكن في سياق قرآني آخر نقرأ في وصف الذين اصطفاهم الله من عباده ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ ) ونقرأ ( الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ.) ونقرأ ( فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ ) فندرك أن للظلم في سياقات القرآن دلالات متصلة منفصلة في الوقت ذاته ، وندرك أن المفسر لن يكون مفسرا ، والفقيه لن يكون فقيها ما لم يدرك حدود الاتصال والانفصال في دلالات هذه الألفاظ في تجلياتها المتعددة ضمن سياقاتها المنضبطة .
ونقرأ قوله تعالى ( أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) بعد قوله تعالى ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ... أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا. ) ويخبرنا المفسرون أن مفهوم المخالفة ليس مقصودا في هذا السياق ، وأن المقصود هو تمام الإيمان ..!!
ونقرأ في القرآن الكريم في سياقات كثيرة ألفاظ الإيمان والإسلام والتقوى والصدق ونقرأ ألفاظ الكفر والظلم والفسق والعصيان فندرك أن لكل لفظ من هذه الألفاظ دلالته الخاصة أو تجليه الخاص في سياقه . وأن الخلط بين دلالة هذا اللفظ في سياق ودلالته في سياق آخر هو نوع من الجهل والتجهيل والغرور والتغرير .
وكان أول الخوارج أول من وقع في هذه التلبيسات مستخدمين آيات القرآن الكريم التي كانوا يقرؤونها فلا تجاوز حناجرهم ، ويرد عليهم سيدنا علي رضي الله عنه : كلمة حق أريد بها باطل .
ندرك اليوم أكثر من أي وقت مضى أن القرآن الكريم الذي خاطب الكافرين بقوله : لا أعبد ما تعبدون ، كان يوجه الخطاب إلى كافرين لهم معبود وعبادة . وهؤلاء مثلا لا يدخلون في عداد العدميين الغارقين في الإنكار الذين لا يعبدون ولا يعترفون بعبادة ولا بعاقبة أخلاقية لكل ما يفعلون ..فتأمل !!
ندرك عندما يعلمنا القرآن الكريم أن نقول لأهل الكتاب ( وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ ) أنهم غير أولئك الذين خاطبناهم بالقول ( لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ) وإن كان القرآن قد خاطب هؤلاء في سياق ثالث بقوله ( لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ ) فتأمل يا رعاك الله ...
على من يقرأ القرآن الكريم أن يدرك ابتداء أنه أمام خطاب رباني مستعل ، لكل مفردة فيه فضاؤها وأفقها ودلالتها وتجلياتها ..
وأن على من يقارب هذا القرآن أن يقاربه بعلم وفقه وتقوى .. وأن منطق الفهم المعوّم على طريقة جزازة العشب لا يصلح أمام هذا الكتاب العظيم ..!!
ولأمر مهم وخطير ذهب الإمام البخاري إلى ترجمة أحد أبواب صحيحه تحت عنوان " كفر دون كفر .." كفر لا يخرج من الإسلام ، وكفر لا يخرج من الملة ، وكفر لا يخرج من فضاء الإيمان بالمعبود والعاقبة ، وكفر هو الجحود الأسود والنكران الأعظم..
فالكفر الذي لا يخرج من الإسلام هو نوع من الظلم والبغي والتجاوز الذي ضرب له رسول الله مثلا بكفر العشير ..
والكفر الذي لا يخرج من الملة ، هو النوع من الظلم الذي يظل معه الكتابي كتابيا ، وهذا أمر مهم ، يظل الكتابي كتابيا فتؤكل ذبيحته ، وتنكح محصنته ، وتنطبق عليه كثير من أحكام أهل الكتاب ..
والكفر الذي لا يخرج صاحبه من فضاء الإيمان العام ، هو كفر الخبط والخلط على مستوى التصور والسلوك ، ويبقى الإنسان معه مؤمنا بمعبود في أي تصور وصورة ، وتقول له لا أعبد ما تعبدون . ويؤمن صاحبه بعاقبة أخلاقية تحاسب على الظلم وتكافئ على الإحسان ..
والكفر في الصورة الرابعة المريعة في صورة الذين قالوا : وما يهلكنا إلا الدهر . وما أكثرهم في هذا الزمان ، وبين هذه الدلالات الأربع في القرآن دلالات ودلالات لمن أحب أن يستقصي فيتعلم ويعلم ..
ويبقى ضابط الدلالة في الثواب والعقاب قوله تعالى : (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ، وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ).
وكيف يراه ؟! ذلك أمر الله ، وفعل الله .. نعلم أن الله ملك عدل ونعلم أن الله على كل شيء قدير .
وسوم: العدد 865