في ظلال مطلع سورة الممتحنة
[ مختصراً من تفسير سورة الممتحنة – في ظلال القرآن – سيد قطب ]
(يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تُلقون إليهم بالمودة، وقد كفروا بما جاءكم من الحق، يُخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا باللّه ربكم). إلى قوله تعالى: (وودّوا لو تكفرون)..
تبدأ السورة بذلك النداء الودود الموحي: (يا أيها الذين آمنوا).. نداء من ربهم باسم الإيمان الذي ينسبهم إليه. يدعوهم ليبصرهم بحقائق موقفهم، ويحذرهم حبائل أعدائهم.
(لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة)..
فيُشعر المؤمنين بأنهم منه وإليه. يعاديهم من يعاديه. فهم رجاله المنتسبون إليه الذين يحملون شارته في هذه الأرض، وهم أحباؤه. فلا يجوز أن يلقوا بالمودة إلى أعدائهم وأعدائه.
ويذكرهم بجريرة هؤلاء الأعداء عليهم وعلى دينهم وعلى رسولهم، وعدوانهم على هذا كله:
(وقد كفروا بما جاءكم من الحق. يخرجون الرسول وإياكم. أن تؤمنوا بالله ربكم)..
فماذا أبقَوا بعد هذه الجرائر الظالمة للموالاة والمودة؟ كفروا بالحق، وأخرجوا الرسول والمؤمنين، لا لشيء إلا لأنهم آمنوا بالله ربهم. إنه يُهيّج في قلوب المؤمنين هذه الذكريات المرتبطة بعقيدتهم، وهي التي حاربهم المشركون من أجلها، لا من أجل أي سبب آخر. فهي القضية التي عليها الخلاف والخصومة والحرب.
وإذا تمحضت القضية هكذا وبرزت، ذكّرهم بأنه لا محل إذن للمودة بينهم وبين المشركين إن كانوا قد خرجوا من ديارهم ابتغاء رضوان الله وجهاداً في سبيله:
(إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي)..
فما يجتمع في قلبٍ واحدٍ أن يهاجر ابتغاء مرضاة الله، مع مودة لمن أخرجه من أجل إيمانه بالله!.
ثم يحذرهم تحذيراً خفياً مما تُكِنُّ قلوبهم، وما يُسِرُّون به إلى أعدائهم وأعداء الله من المودة، وهو مطلع على خفية القلوب وعلانيتها:
(تُسِرّون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم).
ثم يهددهم تهديداً مخيفاً، يثير في القلب المؤمن الوجل والمخافة:
(ومن يفعله منكم فقد ضلّ سواء السبيل)..
وهل يخيف المؤمن شيء كما يخيفه أن يضل سواء السبيل بعد الهداية والوصول؟!
(إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء)..
فلا تَعرِضُ لهم فرصة يتمكنون فيها من المسلمين حتى يوقعوا بهم ما يملكون من أذى ومن تنكيل بالأيدي وبالألسنة وبكل وسيلة وكل سبيل.
والأدهى من هذا كله والأشد والأنكى:
(وودّوا لو تكفرون)..
وهذه عند المؤمن أشد من كل أذى ومن كل سوء يصيبه باليد أو اللسان. فالذي يَوَدّ له أن يخسر هذا الكنز العزيز، كنز الإيمان، ويرتد إلى الكفر، هو أعدى من كل عدو يؤذيه باليد وباللسان!.
والذي يذوق حلاوة الإيمان بعد الكفر، ويهتدي بنوره بعد الضلال، ويعيش عيشة المؤمن بتصوراته ومداركه ومشاعره واستقامة طريقه وطمأنينة قلبه يكره العودة إلى الكفر كما يكره أن يُقذفَ في النار.
وسوم: العدد 868