حديث المبادرات

حديث المبادرات

أ.د. حلمي محمد القاعود

[email protected]

لعل مبادرة الأستاذ صلاح الإمام الساخرة من أفضل المبادرات التي طرحت مؤخرا لإنهاء الانقلاب العسكري الدموي الفاشي .إن السخرية تنسينا مؤقتا ما قام به العسكر الذين ألقوا إرادة الشعب المصري في سلة الزبالة وألغوا الدستور الذي صاغته لجنة منتخبة وحلوا المجلس التشريعي  ، فضلا عن اختطافهم الرئيس الشرعي ومحاكمته ظلما وعدوانا والتشهير به على ألسنة  أبواق البيادة وكتابها وشهود الزور ، ومحرفي الكلم عن مواضعه ، والمبشرين بالحكم الاستبدادي الديكتاتوري الذي لا يعرف معني الحوار أو الحرية أو كرامة المواطن المصري .

مبادرة صلاح الإمام تمنحنا ابتسامة في زمن الاكتئاب والعار وشهود الزور ، وهو يصوغها وفقا للمبادرات التي طرحت من هنا وهناك ويعلم أصحابها أن الانقلاب العسكري الدموي الفاشي لا يقبل المبادرات ، ولا يؤمن بالحلول السلمية لمشكلات الوطن ، ولا يقبل أن يحكم مصر مدنيون منتخبون يرضاهم الشعب المصري بملء إرادته وحر اختياره .. ومن الملاحظ أن أهم هذه المبادرات طرحت من جانب مؤيدي الانقلاب على الشرعية ، وداعميه والمنتفعين به بصورة وأخرى ، وهم في الوقت نفسه واثقون باعترافهم أن الانقلاب لا يلقي بالا للمبادرات ولا يعبأ بها ، ولا يلقي إليها اهتماما من أي نوع ، اللهم إلا ملء الفراغ السياسي وإشغال الناس بكلام لا طائل من ورائه .

الأستاذ جمال سلطان يقول مثلا عن المبادرة التي طرحها الدكتور حسن نافعة المقرب من سلطة الانقلاب إنها لم تنل استجابة منذ طرحها قبل أسابيع مثلما كان مصير المبادرة التي طرحها جمال نفسه ، وأوحى أن أطرافا في التحالف الداعم للشرعية قبلت بها أو صاغتها، يقول جمال  :

" ومبادرة الدكتور نافعة التي تنشر للمرة الأولى تم تسليمها إلى شخصية رفيعة في الحكم حاليا ، بطلب من تلك الشخصية ، حسب ما أخبرني بذلك ، غير أنه ـ مع الأسف ـ لم يجر التعامل معها بشكل جدي وعملي حتى الآن ، رغم مرور أسابيع عليها " .

وهذا يؤكد أن الانقلابيين لا يؤمنون بالحوار ، ولكنهم يؤمنون بالأمرالواقع والخضوع له وإلا فالبيادة فوق الرءوس جميعا !

يختلف الأمر لدي الانقلابيين في بلادنا عما يجري في أوكرانيا مثلا مع وضوح التدخل الخارجي هناك من جانب الروس والأميركان ، فالناس في الشوارع لا يبرحونها ويطالبون بما يرونه حقوقا ديمقراطية ، وقد اضطر رئيس الوزراء الأوكراني للاستقالة إرضاء للمتظاهرين ومن أجل وحدة الوطن وسلامته ، ومؤخرا أعربت السلطة الأوكرانية عن انفتاحهاعلى إمكانية إجراء انتخابات مبكرة لإنهاء الأزمة السياسية التي تفجرت قبل شهرين احتجاجا على تراجع الرئيس فيكتور يانوكوفيتش عن توقيع اتفاقية اقتصادية مع الاتحاد الأوروبي والاستعاضة عنها بأخرى مع روسيا.

وأعلن يوري ميروشنيتشنكو ممثل الرئيس يانوكوفيتش في البرلمان أن الرئيس يمكن أن يقر انتخابات نيابية ورئاسية مبكرة لإنهاء الأزمة السياسية غير المسبوقة التي تمر بها البلاد.

وفي تصريح لوكالة الصحافة الفرنسية قال ميروشنيتشنكو إن الرئيس طرح خطتين للخروج من الأزمة، تقضي الأولى بـ"العفو عن المتظاهرين الموقوفين على أن يخلي المتظاهرون المباني الرسمية التي يحتلونها، أما الثانية فتقضي بإجراء انتخابات مبكرة".

وإذا كان الأكرانيون يتحركون في الإطار الديمقراطي والحرص عليه ؛ فالانقلابيون في مصر لا شأن لهم بذلك ولهم منطهم المختلف . . منطق القوة وحده هو الذي يحكم تصرفاتهم مع شعب مصر الشقيقة ، أما منطقهم مع الأعداء والأجانب فهو الحوار اللين الهادئ وتقديم التنازلات إلى آخر مدي وانظر كيفية التعامل مع العدو النازي اليهودي ومع الحبشة وسدها الذي يصر الأحباش بعد الانقلاب على تعليته إلى مستوى يخالف المواصفات العالمية وتوسعة خزانه ليتضاعف مرات عديدة دون أن يزيد معدل توليد الكهرباء نكاية في مصر وجكومتها الانقلابية .

الطريف أن المبادرات المطروحة اليوم تصر على إدانة الشرعية والشعب المصري ، وتقديم الترضية للانقلابيين الذين صادروا الحرية وداسوا على الديمقراطية وسفكوا الدماء وقتلوا الآلاف ونكلوا بالشعب كله واعتقلوا أكثر من عشرين ألفا فيهم الشيوخ والمرضى والنساء والأطفال ويلاحقون معارضي الانقلاب أينما كانوا ، ويؤلهون قائد الانقلاب ويوزعون صوره وتماثيله مجانا في الميادين والشوارع ، ناهيك عما يردح به بصاصو الأمن وكتاب البيادة والأبواق المأجورة على مدار الساعة .  

المبادرات التي تطرح الآن لا يعنيها استعادة الحرية والديمقراطية فضلا عن دماء الشهداء الذين قتلوا  وتم طبخهم في ميدان رابعة العدوية ، وأقصى ما تقدمه بعض المبادرات هو الدية للشهداء والتسامح مع القتلة الفجرة ، وكأن لم تكن هناك ثورة ولا تضحيات ولا إسقاط لنظام مجرم فاجر ظل يمتص دم مصر على مدى ستين عاما .

ومن مفارقات المبادرات التي يطرحها مؤيدو الانقلاب أن يكون زعيم المتآمرين وهو الأستاذ محمد حسنين هيكل رئيسا لجماعة الحكماء الذين تقترحهم إحدى المبادرات ! كيف يكون المتآمر حكما وهو المتهم والجلاد وصانع المحنة والمأساة ؟

إن الدكتور حسن نافعة ناصري ولا يخفي ناصريته ، ولكنه حين يقترح أسماء ناصرية ورئيسا ناصريا للجنة الحكماء فإنه يكون كمن فسر الماء بعد الجهد بالماء . لقد ارتكب الناصريون جريمة تاريخية لن ينمحي عارها أبد الدهر حين زينوا لقائد الانقلاب أن ينقلب على الشرعية ويهدر الإرادة الشعبية ، ثم يصعدوا بعدها على جنازير الدبابات إلى سدة الحكم والمناصب الأخرى في الدولة فهم الآن يقودون الحكومة الانقلابية الفاشلة ، ويستولون على الصحافة والمجلس الأعلى للصحافة والمجلس القومي لحقوق الإنسان والمجلس القومي للمرأة والنقابات المؤثرة والإذاعة والتلفزيون والثقافة ، ويتحكمون بصفة عامة في تحريك الحالة السياسية التي تمكنوا منها بجنزير الدبابة وتلميع البيادة ويصوغون مستقبل البلاد المظلم دون أن يهتز لهم ضمير !

العجيب أن من يروجون لمبادرات مؤيدي الانقلاب يلقون باللائمة دوما على الإسلاميين ، ويرون أنه لا يحق لهم أن يعلقوا عليها ، فتعليقاتهم لا تعجب ولا ترضي ، لأنهم يعيشون في الخيال ولا يلامسون أرض الواقع ويخرجون من حدود العقل إلى حافة الجنون.

أصحاب المبادرات يتناسون شيئا مهما للغاية وهو إرادة الشعب التي أسقطت مبارك  ، ويتجاهلون أنها أقوي من الدبابات والصواريخ والطائرات والمعتقلات والأحكام القضائية الجائرة. وأعتقد أن إرادة الشعب ستقدم في النهاية مبادرة يقبلها الناس جميعا . ولا غالب إلا الله !