مسارح رفعت الأسد: ترهيب بعد ترغيب

مسارح رفعت الأسد: ترهيب بعد ترغيب

صبحي حديدي

لكي لا تظلّ جنيف ـ 2 هي وحدها خشبة مسرح العبث، حيث فصول الشدّ والجذب الممسرحة تُكسب واشنطن وموسكو وقتاً مستقطعاً للانفلات من مواجهة العواقب الإنسانية، والمستويات الأشدّ وحشية، وتلك الهولوكوستية، التي بلغتها المأساة السورية على يد النظام؛ توجّب توفير مسارح إضافية، يُدار فيها العبث بطرائق أخرى، ليست أقلّ إهانة لسواد السوريين، في عمق آلامهم وآمالهم، وإنْ كانت أشدّ ابتذالاً وجهالة ونذالة. وهكذا، بعد غيابات قصيرة الأمد دائماً، وفواصل حضور دائبة مكرورة، قفز إلى الواجهة رفعت الأسد: عمّ بشار الأسد، وقدوة ماهر الأسد، ونائب حافظ الأسد سابقاً؛ القائد السابق، الأوّل والأخير، لكتائب ‘سرايا الدفاع، الوحدات العسكرية/الميليشياتية طائفية التكوين والفلسفة، الأشدّ بطشاً وهمجية في تاريخ ‘الحركة التصحيحة’؛ وأحد كبار تماسيح الفساد وذئاب النهب على امتداد تاريخ سوريا الحديث والمعاصر، والقديم أيضاً، أغلب الظنّ…

رياح جنيف ألقت به إلى السوريين، مجدداً، وبعد أن خسر الرهان على أنّ روسيا الاتحادية سوف تبادر إلى تبنّيه كـ’معارض خارجي’ في جنيف ـ 2؛ فأدلى بدلوه في أمور كثيرة، لا تجوز فيها إلا صفة السفاسف والتوافه والترهات. وخلال حوار مع قناة ‘روسيا اليوم’، الناطقة بالعربية، بدا الزميل سلام مسافر وقد وقع في حيص بيص وهو يحاول تفكيك اللغز الفلسفي العويص الذي اكتشفه الأسد العمّ: ‘المعارضة اليوم هي الوجه الذي ليس له شكل وليس له مضمون’! ولعلّ الحياء، وربما اللباقة المهنية الزائدة عن اللزوم، وبعض الاستمتاع أيضاً، هي الأسباب التي حالت دون قيام المحاور بتنبيه ضيفه إلى أنّ جورج صبرة ليس رئيس الائتلاف، سواء صدقت رواية أدائه فريضة الحجّ، أم كذبت؛ وأنّ الفتى الشهيد حمزة الخطيب لم يكن شرارة انطلاق الانتفاضة، لأنه استُشهد تحت التعذيب بعد أكثر من ثمانية أسابيع أعقبت تظاهرات مدينة درعا؛ وأنّ آل الأسد (على عكس ما يزعم العمّ) متشبثون بالسلطة، بالنواجذ والأسنان، بالقاذفات والبراميل والصواريخ والأسلحة الكيميائية، حتى إفناء آخر سورية وسوري من غير آل بيتهم ومواليهم. 

لكنّ هذا العبث الجديد لا يخلو من مغزى، على وتيرة ما يحمله مسرح العبث من دلالة ظاهرة أو مبطنة، في أنّ العمّ يبدو اليوم أكثر قلقاً على ابن أخيه؛ وبالتالي أكثر استعداداً للدفاع عنه، وعن العائلة الأسدية جمعاء، رغم الخلافات التي عصفت بالأخوة الثلاثة، حافظ وجميل ورفعت، وبأبنائهم من بعدهم. ففي تشرين الثاني (نوفمبر) 2011، طالب العمّ برحيل ابن أخيه بشار، ولكن دون انتزاع السلطة نهائياً من أيدي آل الأسد؛ ودعا إلى ‘تحالف عربي دولي’ يتفاوض مع الأسد الابن، حول صفقة تتضمن تنحيّ الأخير عن الحكم، مع ضمانات له ولأقاربه، وألمح إلى إمكانية تسليم السلطة إلى العمّ نفسه، أو ‘أحد أفراد العائلة’. أمّا اليوم فإنّ العمّ يكاد يقترب من تنزيه ابن أخيه عن كلّ ذنب: الأسد لم يتمسك يوماً بالسلطة لا هو ولا والده ولا عائلته، وبشار الأسد مستعد أن يعيش كمواطن، لكنه لا يستطيع أن يتحمل مسؤولية ما جرى وبعدها يعطي الحكم لغيره!

وفي صدد المغزى وراء كلّ ظهور للعمّ، في مرحلة مفصلية من الأخطار التي تتهدد حكم العائلة الأسدية، استرجع يقيناً شخصياً سبق لي أن ساجلت فيه، وحوله؛ مفاده أنّ أرصدة العمّ السياسية والأمنية والعسكرية والمالية، سواء داخل صفوف الضباط أو المدنيين، في الحزب أو الدولة أو المجتمع، ليست محدودة، وليست مجمدة البتة؛ وهي بالتالي قابلة للتوظيف الفوري، سواء جرى استثمارها من داخل سوريا لكي تعطي ثمارها في الداخل السوري وتُرحّل إلى الخارج في آن معاً؛ أو جرى العكس: استثمار من الخارج إلى الداخل، حيث تكتسب من اسباب القوّة ما يجعلها قابلة للتصدير مجدداً إلى الخارج. إنه، حتى الساعة، يتمتع بولاء شرائح واسعة من كوادره القديمة (السياسية والعسكرية، الرسمية وغير الرسمية) التي صعدت منذ أوائل الثمانينيات على يديه، بفضل منه، وحين كان الرجل الثاني في البلاد. وتلك الكوادر اضطرت ـ بعد تقليص سلطاته، وإبعاده خارج سوريا إثر صراعات عام 1984، وحلّ ‘سرايا الدفاع، ذراعه العسكرية الضاربة ـ إلى التقاعد أو الانزواء أو التأقلم مع الأوضاع الجديدة. وهي، أيّاً كانت مواقعها الراهنة، في شُعب التجنيد أم في فروع المخابرات المختلفة أم في ألوية الفرقة الرابعة، مستعدّة إلى الانضواء من جديد في أيّ ترتيبات جديدة تردّ الاعتبار لشخص ‘القائد’، أياً كانت ملابساتها ومستوياتها.

كذلك فإنّ العمّ قادر على مصالحة النقائض، وتقريب الهوّة بين شيوخ السلطة وكهولها وشبّانها، وبين الخاسرين منهم والرابحين، وحيتان الفساد إسوة بالقطط السمان، والجوارح التي تقتات على الجيف مثل تلك التي تستأثر بالطرائد الأدسم. وهو عسكري سابق امتهن الـ’بزنس ذا العيار الثقيل، واستثماراته داخل سوريا وخارجها تُحسب بالمليارات، وتحالفاته وثيقة مع التجّار ورجال الأعمال حتى جاء زمن عُدّ فيه ‘حامي التجّار’ بامتياز. وحين كان قويّاً، على رأس جيشه الخاصّ، النخبوي تماماً في تسليحه وامتيازات أفراده، يقود تحالفاً عجيباً من العسكر والتجّار والأكاديميين (إذْ لا ننسى أنه ‘دكتور’ في العلوم السياسية، ورئيس سابق لـ’رابطة خرّيجي الدراسات العليا’)؛ أشاع العمّ ثقافتَين متلازمتين: ‘عسكرة التجارة’، التي تجعل العسكر شركاء دون رساميل في أيّ وكلّ تجارة؛ أو ‘تَجْرَنة العسكر’، حيث ينقلب الضباط إلى تجار في كلّ وأيّ صنف، وسط ابتهاج مختلف فئات البرجوازية السورية الطفيلية، واستسلام أو استقالة البرجوازية الكلاسيكية.

وليس من المستغرب أن يبلغ تحالف مافيات النهب العسكرية ـ التجارية، أو ما تبقى منها اليوم في ظلّ اهتراء النظام المضطرد، ذلك الطور المأزوم الذي يحصر قشة الخلاص في شخص العمّ، لأنه حامي الفاسدين وسيّد الناهبين، منحاز إلى الليبرالية الاقتصادية، الرثة اللقيطة، أو التي بلا هوية؛ عسكري التكوين والمزاج، مستعدّ دائماً للبطش والضرب بيد من حديد؛ تحالفاته العربية (التي تشهد عليها زياراته واتصالاته وصداقاته وشراكاته) لا يُستهان بها، بل هي تؤهلّه لأداء دور صمّام الأمان في المراحل القادمة من تطوّر الحياة السياسة والاقتصادية السورية.

من جانب آخر، كانت برامج ‘التغيير’ التي اقترنت بصعود وتوريث الأسد الابن، خصوصاً تلك التي اندرجت تحت مسميات ‘الليبرالية الإقتصادية’ و’تحديث المؤسسات’ و’محاربة الفساد’، و’إحكام الرقابة’، و’تقديم الكوادر الشابة’… اقتضت، بالضرورة، إنقسام بنية النظام إلى فريقين: رابح، وخاسر. المشكلة، مع ذلك، أنّ المرشّحين للخسارة لم يكونوا على هوامش السلطة بل في قلبها أو ربما في قمّة هرمها، وأنّ وتائر ‘التغيير’ لم تتكفل أصلاً بإقصاء هؤلاء إلى الهوامش. وهكذا، في ضرب مثال عملي: كيف سيجري توليف توأمة مسالمة بين أعمال رامي مخلوف، ابن الخال، وأعمال سومر الأسد، ابن العمّ، ولكلّ منهما أتباع في صفَّيْ الربح والخسارة؟ 

كذلك تجدر الإشارة، هنا، إلى أمرَين جوهريين: أنّ ائتلاف النظام، أو مجمّعه العسكري والأمني والتجاري والاستثماري، كان نخبوياً على الدوام، أو بالأحرى استنخابياً، مقتصراً على فئات محدودة للغاية سواء في داخل السلطة أو خارجها؛ وأنه بدأ، وما يزال، ائتلافاً عابراً للتصنيفات السوسيولوجية التقليدية (الطبقية أو المهنية أو الطائفية)، ومتمحوراً في الأساس على ما يسمّى ‘مصالح المجموعة’، أكثر بكثير من مصالح الطبقة أو المهنة أو الطائفة. فإذا تعارضت المصالح بين الشطر العسكري والشطر التجاري من الإئتلاف النخبوي هذا (كما يحدث بقوّة في الأطوار الراهنة من عمر الانتفاضة)، فإنّ خطوط التحالف القديمة لن تتمكّن من الصمود طويلاً، والعاقبة المنطقية هي انكشاف التناقضات داخل تلك الخطوط، وانقلابها إلى تفكك وانهيار، قبيل التناحر والتصارع.

والحال أنّ تحالفات ائتلاف النظام سارت على وئام حتى ساعة الانتفاضة، حين بدأت الأعمال تتعطّل، وظهرت آثار العقوبات الأوروبية والأمريكية المباشرة، فتوجّب على العسكر أن يختزنوا ما لديهم من سيولة وعملات، تتناقص حتماً لانها لم تعد تزداد؛ وتوجّب على كبار التجار والمستثمرين أن يدفعوا رواتب الشبيحة ونفقات القمع اليومي للانتفاضة، من رساميلهم السائلة التي أخذت تشحّ يوماً بعد يوم. هل من ‘منقذ’ هنا، في شخص العمّ، الذي يملك مليارات في الداخل ومثلها في الخارج، كما ينعم بمرونة عالية في تحريك تلك المليارات، سائلة أو صيرفية، بالنظر إلى أنه خارج العقوبات، فضلاً عن كونه من آل بيت السلطة، بل هو العمّ فيها، والعميد؟

فإذا لم يكن المنقذ، فهل هو قشّة لا مفرّ للغرقى من التشبث بها؟ وهل أنّ هذه الاعتبارات، وما يدانيها في الدلالة والمعنى، هي حافز العمّ لتأييد ابن أخيه في الآونة الأخيرة، خاصة بعد اشتداد أزمات النظام، وضيق الخيارات، وافتضاح جرائم الحرب؟ أم أنّ لقاءات العمّ مع ميخائيل بوغدانوف، نائب وزير الخارجية الروسي، دغدغت أحلامه في أن يكون هو المقصود بتلك الفكرة ـ الغوغائية، بقدر ما هي ركيكة وغامضة ـ حول الحاجة إلى ‘شخصية علوية’ تقود المرحلة الانتقالية’؟ في كلّ حال، تقول حكمة التاريخ البليغة، وتطورات الحاضر بما تنطوي عليه من جدل وجدل مضادّ، إنّ القشّة ذاتها يمكن أن تقوم بالدور النقيض تماماً: أن تقصم ظهر هذا الديناصور، الثقيل المتهالك المترنّح، المضرّج بالدماء والأشلاء، الذي انتهى إليه النظام السوري؛ بعد قرابة 44 سنة من الاستبداد والفساد والنهب، وبناء شبكات الولاء والاستزلام والاستخبار، واعتماد أقصى السياسات التمييزية والطائفية والعنصرية.

الأرجح أنّ إدقاع اللغة لم يكن المبرر الوحيد وراء إصرار العمّ على اختيار مرجعية شعبوية لتبرير انقضاض آل الأسد على السلطة، مفادها أنهم لم يأتوا للحكم من فراغ، بل أتوا من الفقر والجوع والسجون؛ وكأنّ العزف على وتر ‘المظلومية’ صار مدخلاً لا غنى عنه، أسوة بالمال والأعمال والاستثمار، لاستثارة المخاوف ودغدغة الرهاب الطائفي. وكذلك لأنّ هذا المسرح، تحديداً، يقتضي العبث بالعقول بعد استلاب وقائع التاريخ البيّنة، ويتطلّب الترهيب بعد الترغيب! 

‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس