ثلاث مستويات 

عبد الحليم حافظ نموذجًا

ثلاث مستويات 

محمد جلال قصاص

أم كلثوم من أبرز الشخصيات السادية المتسلطة؛ وقفت وحاولت أن تمنع غيرها أن يقف بجوارها، فانتشر مطاريد الغناء الطامحون في السيادة وبعد فترة جاءوا خلف عبد الحليم حافظ يحاولون من خلاله هدم هذا الصنم أو مزاحمته، وكانت معركة في إطار الفن؛ شَقُوا بها وشقت بهم، طردتهم حينًا وناوشوها أحيانًا.

أخذت منهم كبار المؤلفين والملحنين، فداروا في نواحيها يبحثون عن كلماتٍ تغنى لمغمورين وعن لحن جميل من إبداع مبتدئين، فأخرجوا للناس نزار قباني بعد ثلاثين عامًا –كما يذكر هو- قضاها وحيدًا يقرأ لنفسه، وأخرجوا الأبنودي من قرى الصعيد ..جاءوا به من عند أبو زيد سلامة فالبسوه وعلموه وأسكنوه وقالوا له: أكتب فكتب..وأخرجوا الموجي... وتكررت التجربة بقصد أو بدون قصد...

والتصقوا بقضايا ينصرونها أملًا في مساحة يحتلونها، فاصطفوا تحت أقدام العسكر، ينصرون حركة الضباط (والتي وصفت بعد أكثر من عام من قيامها بالثورة)؛ راح ابن شبانه يغني للعبد الخاسر، ول"الثورة"؛ وحين هزمت الثورة أخس وأسوأ هزيمة في التاريخ لم يتوقف هذا الفريق فكتب الأبنودي وصاح عبد الحليم (عدَّى النهار).. كان الهدف هو الغناء... وحصل عبد الحليم ومن معه على ما يريد: فقد استطاعوا المزاحمة والصعود، وبرزوا في أعين الناس؛ وكانت الثمرة دفع الجماهير في اتجاه التغيرات المجتمعية التي قادها العسكر؛ وكانت النتيجة مزيدًا من دفع المجتمع تجاه الانحلال الخلقي وتبنى معاني رديئة خلقيًا، وكانت النتيجة الأعمق هي توطين مفاهيم غربية لا تمت لحضارتنا بصلة، تلك التي تبنى على الفكرة الرئيسية للحضارة الغربية وهي "الصراع"، أو تفتيت الأسرة ثم المجتمع.. صراع بين أم الزوج أو أم الزوجة (الحماة) والزوج أو الزوجة، والجار يحب بنت جاره، والطالب يعشق زميلته في الدراسة، والعم يأكل حق ابن أخيه، والقبيلية شيء مذموم من أعراف الجاهلية وملتصق بالبداوة والجهل؛ واستجاب المجتمع فنشب صراعٌ أسري.. مجتمعي: هذه هي ثمرتهم: تفتيتٌ للمجتمع .. غرس لقيم الحضارة الغربية.

والجماهير تسمع.. وتتفاعل .. وتشرب ثقافة القوم حتى صاروا مثلهم.. أو وسطًا لا إلى ثقافتنا ولا إلى ثقافتهم... مسخ جديد تائه في دروب الحياة لا يعرف الدين ولم يعد يريده.. هو يحب المتدينين لظنه أنهم قد يأتونه بما يحب من متع الحياة.

ربما لم ينتبه عبد الحليم وأم كلثوم لشيءٍ من هذا، أو أكاد أجزم أن أحدهم لم يفهم شيئًا من هذا.

هناك مستويات من الفعل:

أولها: مستوى الإطار الخارجي، وهذا يفعله شياطينهم، مَن يسمون بفقهاء الحضارة، دورهم وضع أطر رئيسية؛ مثلاً: تلك الوصية التي صاغها كبير المستشرقين في زمانه "جب" حين لاحظ بَعد بحث طويلٍ منه هو ومن حوله من المستشرقين أن الناس تتبع أشخاص (رموز)،وأن عليهم أن يصنعوا رموزًا وهمية يتحرك الناس خلفها، مستغلين الأدوات 

الحديثة كالفن، والصحافة، مع مراقبتها كي لا تثمر معاكسًا.. إذ هي أدوات.

وثانيها: مستوى النخبة (الكوادر) المتخصصة:

عملت النخبة المتخصصة على هذه الفكرة الرئيسية، فاستخدمت هذه الأدوات في تنفيذ هذه الوصية الشيطانية التي أوصى بها فقهاء الصراع، فأنتجوا رموزًا كثيرةً في شتى المجالات.. في الفن، والكتابة، والدين، ومن خلال "الرموز" المزيفة –أو الموافقة لهم- نشروا الفكرة الرئيسية التي تتكئ عليها حضارتهم من خلال تلك الأدوات وتيك "الرموز"، وهاجموا حضارتنا وقوضوا ما تبقى في المجتمع من ثقافتنا بتلك "الرموز"، وأربكوا المصلحين بهذه الضوضاء المنتشرة في كل مكان، واقتصر دورهم على حراسة فكرتهم وأدواتهم كي لا يستعملها المصلحون لإنتاج رموز حقيقية ونشر مفاهيم ربانية. وكل ما حولك يشهد لي لو أنك أعدت النظر فيه مرة بعد مرة؛ فلا تحسب أنه من قبيل الصدفة أن يسود فينا أمثال: "طه حسين"، و"عباس العقاد"، و"عبد الحليم حافظ"، و"أم كلثوم"، و"عمرو خالد"، و"محمد حسان". ويُغمر "رفاعي 

سرور"، و"عبد المجيد الشاذلي".

المستوى الثالث: المنفذون:

هؤلاء يبحثون عن ذواتهم، ولهم في هذه الضوضاء مآرب خاصة، يبحثون عن لذة حسية أو نفسية، أو كلاهما، ولكنهما في القاع لا يدرون عما يحدث، أو يدرون ولا يستطيعون تغيير شيء، وإن حاولوا أخرجتهم كلاب الحراسة خارج منظومة الفساد.