شاهِد شاف كُلَّ حاجة

شاهِد شاف كُلَّ حاجة

د. بلال كمال رشيد

[email protected]

ما من مُشاهدٍ عربيِّ على مساحة العالم العربي وغير العربيِّ إلا وشاهد المسرحيةَ المصريةَ الكوميديةَ ( شاهد ما شافش حاجة ) وبتكرارٍ مُملٍ حتى تعاقبت على حضورها الأجيالُ المختلفةُ و حُفِظت غيباَ ، وأصبحت من التراث .

المسرحية عبارة عن مشاهد كوميدية متعددة ،تروي قصة مواطنٍ طيبٍ بسيطٍ، يُقحمُ في قضيةٍ لا يَدَ له فيها ولا لِسان ، ويُطلبُ شاهداً   على قضيةٍ لا يَعرفُ فيها القاتلَ ولا القتيلَ ، وتمضي المسرحيةُ تنتقد أوضاع المجتمع المصري أو العربي المختلفة بالتلميح حيناً وبالتصريح أحياناً وبالأسلوب الكوميدي الساخر ، وتعددت مشاهد المسرحية وأماكنها من حديقة الحيوانات إلى البيت إلى المحكمة ، وابتدأتْ مسرحيةً وانتهت مسرحيةً ، تنتمي إلى الأدب المسرحي ، لها مؤلف ومخرج ، يؤديها ممثلون على خشبة المسرح ،ولها جمهور اتحد باكياً من الضحك على حاله !!!

من المفارقة أن نجد مشاهد تلك المسرحية التي مُثلت وقُدمت على خشبات المسارح في زمنٍ غابر تٌمثلُ وتقدم  الآن في كل المطارح والميادين المصرية ، وأن نجد القضية نفسها تتفاقم على أرض الواقع ، وأن الأماكن التي مُثلت نراها رأي العين ابتداء من حديقة الحيوان لنراها غابةً يأكل قويُّها ضعيفَها ، وأن نرى الراقصة  التي غيبتها تلك المسرحية وتكلمت عنها بضمير الغائب لإنها القتيلة ، نراها اليوم حيةً تسعى ، ونجدها حاضرةً راقصةً في كلِّ المشاهد والميادين ،مع أخواتها الراقصات ،يكتبن بخصورهن الدستورَ الجديد!!

كما نجد الجمهور كلَّه يعتلي الخشبةَ ليشهد ويُشاهد كلَّ حاجة ،  وينقسم عليها وهويتقاسم أدوار الممثلين حقيقةً لا تمثيلاً ، ويُقحمُ بعضُهم ليكون قاتلاً أو قتيلاً أو شاهداً أو شهيداً ، ونجد المحكمةً  محاكمَ تحقيقٍ وتجريمٍ  وتحريمٍ ، فاختلط الحابلُ بالنابل، ولم يعد هناك تأثير للمؤثرات الصوتية ، الكلُّ يتكلم ويصرخ ،الأصواتُ تأتي طبيعيةً : بُكاءً ونواحاً وعويلاً ، واللون  الأحمر القاني أصدق الألوان صراخاً وتعبيراً ، ضاع الطيّبُ مع الخبيث ، وضاع الأصيلُ مع العميل ،والطاهر مع العاهر ،لا تعرف رئيسَ المحكمة من النادل ، يخافُ رئيسُ المحكمة من رئيسِ الدولة ، الكلُّ يريد أن يكون رئيساً ،ما أكثر الرؤساء والزعماء !!، لا تفرقُ بين رئيس دائرة ورئيس محكمة أو دولة ، هي المسرحيةُ ذاتها وقد تغير فيها كلُّ شيء ، لكن المؤلفين قد تعددوا ولم يأتلفوا، وتعدد المخرجون واختلفوا ، وكلُّ الممثلين يخرجون عن النص ، و ما زال "سرحان  عبد البصير" هو ذلك المواطن الطيب البسيط ، لكنه اليوم يقف شاهداً ومشاهداً ومشدوهاً وهو( يشوف) كلَّ حاجة ، ويخاف من كلِّ حاجة ، ويسير سارحاً على غير هَدْيِ وبصيرة ،وقد سُلِبتْ بُطولته ومكانته ،تهمش دوره وارتعش ، اختفى صوته أمام سوط الجلاد ، لم تعد مسرحيته كوميدية ، بل تراجيديا سوداء ، فاق واقعها الخيال ، الدم أصدق إنباءً من الكتب ،لا لعب ولا كذب،هنا الجدُّ والحدُّ، والندُّ والقيد ، هنا يرى بأمِّ عينيه القاتلَ والقتيلَ، أنهكته البراءةُ والسؤالُ يوماً ، واليوم تهلكه كلُّ الأسئلة ،  لم تعد المسرحيةُ تُفرحُ من العرب الغيورين  أحداً أبداً ، لم تعد المسرحيةُ هزليةً بل أصبحت هزيلةً مخزيةً مبكيةً لكلِّ العرب ،لم تعد مصرُ أمَّ الدنيا كما كنا نقول أو نسمع ، بل غدت أمَّ الأيامى واليتامى والثكالى والجرحى والقتلى ، وفي كلِّ يومٍ ثمة مشهد مفجع ، كان الناس يبحثون عن "عادل إمام" في أية مسرحية ليضحكوا ، لكنهم اليوم يبحثون عن إمامٍ عادلٍ ليعدل بين الفرقاء ، ويكون العدلُ أساس الحكم ومصدر الحكمة ،  لينهي هذه  المقتلة وهذه المهزلة !!