الآثار الإيجابية لإجراء الحجر وهي نعم من الله عز وجل تستوجب الشكر الكثير
مما هو ثابت في عقيدتنا الإسلامية أن الله عز وجل منزه عن إرادة الشر للخلق ، ولذلك أجرى سنن الكون على الصلاح الذي به يتحقق الخير لهم . وأساس الشر إنما هو فساد يصدر عنهم . ولقد كان أول ما حيّر الملائكة حين خلق الإنسان وأمرهم بالسجود له تعظيما لما خلق الله عز وجل بيده، هو نزوعه إلى الفساد المسبب للشر كما جاء في قول الله تعالى :
(( وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون)).
وواضح من هذا النص القرآني أنه من طبيعة الناس أن يفسدوا في الأرض التي جعلها الله تعالى صالحة ، وأن يسفكوا دماءهم ، فهم بذلك يلحقون الضرر بأنفسهم مرتين حين يفسدون في الأرض بالإساءة إلى ما فيها ، وحين يعرضون حياتهم للزوال .
ومن رحمة الله عز وجل كما هو منصوص عليه في عقيدتنا الإسلامية أنه ربما ظن الإنسان الشر بشيء ،وقد جعل فيه الله عز وجل خيرا ، وربما ظن به خيرا وفيه شر له مصداقا لقوله تعالى : (( وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون )) .
ومن الأقوال المأثورة قولهم : " رب ضارة نافعة ". وهذا ينطبق على الحجر الذي فرضته جائحة كورونا .
بهذا نمهد للحديث عن بعض فوائد هذا الحجر حتى نحمد الله عز وجل على ما جعل فيه من خير ربما ظنه كثير من الناس شرا .
وأول ما يلاحظ أن هذا الحجر أعاد كثيرا من الأمور إلى وضعها الصحيح كما أراد لها الله عز وجل منها تدبير الوقت كما قضت بذلك إرادته سبحانه وتعالى حيث جعل الليل للسكون، وجعل النهار للسعي مصداقا لقوله تعالى : (( وجعلنا نومكم سباتا وجعلنا الليل لباسا وجعلنا النهار معاشا )) ، وصلاح حياة الناس إنما يكون بالتزام هذا القانون الإلهي الذي لا يعرف فوائده إلا الخالق سبحانه.
ولما فرض الحجر على الناس في ظرف الجائحة ،اختفت مظاهر الحركة التي كانت ليلا ، وسكن الناس في بيوتهم ، وهذه نعمة تستحق الشكر الكثير، لأن كثيرا من الناس كانوا يصرفون الليل الذي خلق للسكون في الحركة ، وكان بعض ما يقومون به مما لا طائل من ورائه بل منه ما كان فسادا عبارة عن تسكع وسكر وعربدة وقد اختفى ذلك بإغلاق الخمارات وعلب الليل وأماكن اللهو ... وغيرها.وهذه من أكبر النعم المستوجبة للشكر .
ومن الإيجابيات الملاحظة أن المدن قد بدأت أجواءها تصفو من أنواع التلوث المختلفة كعديم السيارات التي قلت حركتها وهدير محركاتها وزعيق أبواقها ، كما قلت حوادثها وضحاياها وخسائرها المادية ، ومن أدخة الأماكن التي كانت تنبعث منها من مطاعم ومقاه وحمامات ... وغيرها ، وتذوق الناس لأول مرة لذة السكون المهدىء للأعصاب التي كانت معرضة للتوتر ليل نهار . وبدأ الناس يسمعون من بعيد صوت الأذان يرفع ، وكان من قبل لا يسمع بسبب ما يحدثونه من جلبة وضجيج ، كما بدءوا يسمعون أصوات العصافير التي لم تكن من قبل . وهذه نعمة أخرى تستوجب الشكر الكثير .
ومن الإيجابيات أيضا أن الناس لم يعد يخرجهم إلا قضاء حوائج ضرورية ، الشيء الذي يعني أن الخروج العابث الذي لا طائل من ورائه قد اختفى من حياتهم . وهذه نعمة أخرى تقتضي الشكر الكثير أيضا .
ومن الإيجابيات أيضا سيادة الأمن حيث ضيق الخناق على الذين كانوا يعترضون السابلة ، ويسلبونهم ما عندهم، ويعتدون عليه ، كما ضيق على اللصوص والنشالين الذين كانوا يعيثون فسادا وسط الزحام . وهذه من أكبر النعم المستوجبة للشكر أيضا .
ومن الإيجابيات أيضا أن معاصي النظر إلى ما حرم الله عز وجل قد قلت ، كما قلت معاصي اللسان ،ذلك أن الصراعات والخصومات ما يترتب عنها من سباب وشتائم وعنف والتي كانت شيئا معتادا قد قلت بشكل كبير إن لم نقل قد اختفت . وهذه من أكبر النعم أيضا .
ومن الإيجابيات أيضا أن الأسر أتيحت لها فرص بقاء أفرادها بعضهم إلى جانب بعض أطول مدة ممكنة خلال أوقات لم يكن بإمكانهم أن يجتمعوا فيها ، وقد أدركوا أهمية ذلك . فكم من الرجال كانوا يقضون تلك الأوقات في المقاهي وينفقونها على أصدقائهم ومعارفهم وأفراد أسرهم في أمس الحاجة إلى وجودهم معهم ، ومما ترتب عن ذلك ترشيد الإنفاق حيث كان كثير منهم يهدر المال الذي يحتاج إليه فيما لا يجدي بل في العبث عوض صرفه فما هو أهم وأجدى وأنفع . وهذه نعمة كبرى أيضا يجب أن تشكر .
ومن الإيجابيات أيضا أن الأبناء انشغلوا بالتعلم والتحصيل في بيوتهم عوض قضاء أثمن الأوقات في الشوارع والأزقة في اللهو واللعب والعبث ، وصارت لهم برامج يومية للتعلم عن بعد ، وصار كثير من أولياء الأمور ينخرطون معهم في هذا التعلم ، ومنهم ما اكتشف لأول مرة محتويات البرامج والمقررات والكتب ، ووقف على ما يبذله المدرسون من مجهودات كان كثير منهم يستخف بها . وكثير من الآباء شاهدهم أبناؤهم لأول مرة يطالعون كتبا . وهذه من أكبر النعم المستوجب للشكر الكثير أيضا .
ومن الإيجابيات أيضا أن عرف الناس قيمة قطاع الصحة ، وقيمة القائمين عليه الذين كان غيرهم يوصفون بالأبطال والنجوم ... وغير ذلك من الألقاب ويكرمون مع أنهم لا يفيدون الناس في شيء ، ومع ذلك تصرف لهم أموال خيالية تبين أنها كان من المفيد أن تصرف على قطاع الصحة وعلى القائمين عليه . وتبين أنه كان من الأفيد أن تكون أعداد الأسرة في المستشفيات والعناية بها بأعدادها في الفنادق ، و في حجم العناية بها ، ولأول مرة حصلت قناعة لدى الأصحاء بأهمية قطاع الصحة الذي كان لا يشعر بها إلا المرضى والمصابون . وهذه نعمة من أكبر النعم أيضا واجب شكرها الشكر الكثير .
ومن الإيجابيات أيضا أن عرف الناس قيمة الأمن ، وقيمة القائمين عليه الذين غالبا ما كانوا ينظرون إليهم نظرة لا توفيهم حقهم من التقدير ، وصار الناس يقدرون دورهم في حماية أرواحهم تماما كما يقدرون دور الأطباء في ذلك . وهذه نعمة كبرى يجب أن تشكر كثيرا .
ومن الإيجابيات أيضا أن عرف الناس قيمة الصلاة اليومية في بيوت الله عز وجل التي كان الكثير منهم لا يبالون بها ، كما عرفوا قيمة خطب الجمع التي كان الكثير منهم لا يحضرونها ، وكثير منهم يستثقلونها إذا حضروها ، ويستعجلون الانصراف عنها لالتهام صحون الكسكس ، و عرفوا قيمة تلاوة الحزب الراتب، وكانت قلة قليلة منهم هي التي تنصت إليه ، و لقد صارت العيون تدمع عند سماع الأذان، و في ساعة الجمعة شوقا إلى لقاء الله تعالى في بيوته ، وهذه النعمة هي أعلى مراتب النعم على الإطلاق ، ووجب أن تشكر شكرا بلا انقطاع .
ومن الإيجابيات أيضا رقة حلت بقلوب الناس، فجعلتهم يجودون على المحاويج ، ويحسون بحرمانهم ، ويخشون أن يكون خروجهم لكسب قوتهم سببا في استفحال الجائحة ، وأدركوا أن لهم صلة بهؤلاء، وأنهم جميعا يركبون سفينة واحدة يجب ألا تغرق . وهذه نعمة أيضا تستوجب الشكر من المنفقين والمنفق عليهم على حد سواء .
ولو شئنا أن نعدد إيجابيات الحجر، وهي نعم جعلها الله عز وجل فيه لما انتهينا إلا بعد هدر حبر كثير، ولكننا نكتفي بما ذكر ليتأكد لنا صدق قول الله عز وجل : (( عسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون )) .
والسؤال المطروح في الأخير هو : هل سينتبه الناس بعد زوال كابوس الجائحة إن شاء الله تعالى إلى شكر هذه النعم بالمحافظة عليها أم أنهم سيعودون إلى حب ما فيه شرهم ، والإعراض عما فيه خيرهم ؟
وسوم: العدد 871