التراويح بعد الكورونا
صليت عِشاء اليوم وتراويحه في جماعة بنكهة جديدة، وروح مختلفة، ومزاج خاص، صليت إماماً بابني وزوجي وبناتي الخمس، في جو عائلي بهيج، وإن كادت ابنتي الأصغر أن تفسد على البعض صلاته فكانت تسأل أختها المجاورة بصوت عالٍ عن بعض الأمور في الصلاة ومن ذلك سألت عن دعاء الركوع لأنها خلطت بينه وبين دعاء السجود، وفي الجلوس بين السجدتين كانت تدعو بصوت عالٍ فتقول ما يخطر ببالها فتقول تارة: ربِّ اغفر لي، وتارة أخرى: ربِّ اغفر لوالِدِيْ، وتقول أحياناً: ربِّ اغفر لوَلَدَيَّ، وتارة: ربِّ اغفر لأمي وأبي وأنا وبس بتلقائية وفطرية، ممّا أدى إلى كتم بعض الضحكات، وحينها تذكرت الأعرابي الذي دخل إلى المسجد والرسول صلى الله عليه وسلم بين أصحابه فقال: (اللهم اغفر لي ولمحمدٍ ولا تغفر لأحدٍ معنا فضَحِك رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وقال لقد احتظرتَ واسعًا) وبعد أن قُضيت الصلاة أطرقت ملياً مفكراً أقلب الصفحات الخوالي، وأقارن بين ما كان وبين ما هو كائن، فأدركت مدى تفريطنا بأوقاتنا، وتقصيرنا في أعمالنا وعباداتنا، أصبحنا نشتاق وتتوق نفوسنا لزيارة المساجد والصلاة فيها بينما تهاونا في ذلك عندما كان الأمر متاحاً بين أيدينا، وحينها تذكرت حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اغتنمْ خمسًا قبل خمسٍ شبابَك قبل هرمكَ وصحتَك قبل سَقمِكَ وغناكَ قبل فقرِك وفراغَك قبل شغلِك وحياتَكَ قبل موتِكَ)، وحمدت الله تعالى على ما نحن فيه من البلاء، ودعوته أن يرفع عن أمته الشقاء والعناء، وتذكرت قول الله تعالى: (وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ)، وتذكرت قول رسولنا الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ).
قلت في نفسي ما أعظم هذا الدين وما أحسنه يحول المحن إلى منح، ويُخرج لنا الأمل من لُجّةِ الهمّ والألم، ويسعد المكلوم ويجلو الحُزْنَ ويبعد الحَزَن، فتعلو البسمة الوجوه ويلهج اللسان بذكر الله وشكره دلالة على القناعة والتسليم لقضاء الله وقدره، وعظيم حكمته.
فالمسلم الحق يوظف أوقاته وعلمه وماله وجهده فيما ينفعه وينفع مجتمعه وأمته من خلال ما يتوفر بين يديه من أدوات، فعندما جلسنا في بيوتنا وحيل بيننا وبين الناس، اتجهنا لاستخدام برامج التواصل الحديثة، ومنصات التعليم العديدة، وهناك من أنشأ منصته الخاصة، فكان فتحاً جديداً في الوصول إلى أعداد أكبر فوصلنا إلى أكبر عدد من الشرائح المستهدفة في كل نشاط بالإضافة إلى أسرهم الفاضلة الكريمة.
فالمسلم الذي نريده هو ذاك المنتج المعطاء الذي يفيد من حوله، ويسعى دائماً لخدمة غيره والأخذ بيد الضعيف والمحتاج، ذاك الرجل الذي يبني ويضيف في كل يوم عملاً جديداً وعلماً نافعاً.
أخي المسلم انطلق من جديد ولا تلتفت إلى الماضي، واغتنم وقتك وصحتك وما تملكه من وسائل، رتب أمر أسرتك، توجيها وتأديباً وتعليماً وتحفيظاً للقرآن الكريم، وتعاهد جيرانك من حولك، وتلمس حاجتهم في هذه الظروف الصعبة، وتذكر أنك قادر على البذل والعطاء مهما اشتدت الأمور وأختم في هذا المقام بقول شيخ الإسلام ابن تيمية: ما يفعل أعدائي بي؟ إن جنتي وبستاني في صدري.. إن قتلي شهادة، وسجني خلوة، ونفيي سياحة" وقد ألف ودرس وهو محبوس في الجب، ولم يمنعه سجنه من البذل والدعوة إلى الله.
وسوم: العدد 874