قدوة القيادة في الإسلام 8
قدوة القيادة في الإسلام
الحلقة الثامنة : التربية والبناء 1
د. فوّاز القاسم / سوريا
لقد كانت عملية التربية والبناء من أهم معالم مرحلة الاستضعاف المكية . ولئن كانت الدعوة ، إنما عنيت بالامتداد الأفقي للجماعة ، فان البناء قد عني بالارتفاع العمودي لها …أي بناء الأشخاص الذين يدخلون في هذا الدين ، بناءً يتناسب مع أهميّة الدور الذي ينتظرهم ، في الدعوة إلى الإسلام ، وتحمل أعبائه ، والجهاد في سبيله …
وهم الذين شكلوا ما أطلق عليه ب(القاعدة الصلبة ) .
ترى فما هي أهم الأركان التربوية التي اعتمدها المنهج القرآني في مرحلة الاستضعاف ، لإنشاء هذه القاعدة الصلبة ، وذلك الجيل القرآني الفريد . !؟
أولاً _ العقيدة الراسخة :
لقد ظل القرآن المكي يتنـزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثلاثة عشر عاماً كاملة ، يتحدث فيها عن قضية واحدة لا تتغير ، وإن كانت طريقة عرضها لا تكاد تتكرر ، ألا وهي قضية العقيدة .
وهي التي تفسر للإنسان سر وجوده ، ووجود هذا الكون من حوله ، وتقول له : من هو .!؟ ومن أين جاء .!؟ ولماذا جاء .!؟ وأين يذهب في نهاية المطاف.!؟ من ذا الذي جاء به من العدم والمجهول .!؟ ومن ذا الذي يذهب به .!؟ وما مصيره هناك .!؟
وتقول له : ما هذا الوجود الذي يحسه ويراه .!؟ والذي يحس أن وراءه غيباً يستشرفه ولا يراه .!؟ من أنشأ هذا الوجود المليء بالأسرار !؟ من ذا يدبّره !؟ من ذا يحوّره .!؟
وتقول له كذلك : كيف يتعامل مع خالق هذا الكون .!؟
وكيف يتعامل مع الكون نفسه ، ومع ملايين الخلائق المبثوثة فيه .؟
وهكذا انقضت ثلاثة عشر عاماً كاملة في تقرير هذه القضية الكبرى .
ولم يتجاوز القرآن المكي هذه القضية الأساسية إلى غيرها من القضايا ، إلاّ بعد أن علم الله أنها قد استوفت ما تستحقه من الشرح والبيان ، وأنها استقرت استقراراً مكيناً ثابتاً في قلوب ( العصبة المختارة ) و ( القاعدة الصلبة ) التي قدر الله أن يقوم هذا الدين عليها ، وأن تتولى هي إنشاء المجتمع الإسلامي ، والنظام الواقعي الذي يتمثل فيه كل ما يريد أن يقرره الإسلام ..
لقد شاءت حكمة الله أن تكون قضية العقيدة هي القضية الأولى التي تتصدى لها الدعوة منذ اليوم الأول للرسالة ، وأن يبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم، أولى خطواته بدعوة الناس أن يشهدوا أن لا اله إلا الله وأن محمداً رسول الله . وهو يعي تماماً تبعات وتكاليف هذه الكلمة ، والتي عبر عنها المتحدث باسم آل شيبان عندما قال : إن هذه كلمة تكرهها الملوك .!
لأن الله تعالى يعلم أن التربية والبناء على هذه العقيدة ، هي الخطوة الأولى التي لا بد منها ، ثم تتلوها لاحقاً كل متطلبات إنشاء المجتمع المسلم ، والدولة المسلمة ، من أوامر ، وتكاليف ، وتوجيهات ، وتشريعات ...
ولذلك فقد رأينا أنه منذ اللحظة التي تقررت فيها العقيدة –بعد الجهد الشاق – في نفوس العصبة المؤمنة التي مثلت القاعدة الصلبة لهذه الأمة ، وتقررت معها السلطة التي ترتكن إليها هذه العقيدة ، فقد صنع الله بها وبأهلها المعجزات .
حيث تطهر المجتمع ، وسمت الأخلاق ، وزكت القلوب ، ورفّت الأرواح ، وارتفعت البشرية بعد ذلك ، في نظامها ، وفي أخلاقها ، وفي حياتها كلها ، إلى القمة السامقة ، التي لم ترتفع إليها من قبل قط، ولن ترتفع ، إلا في ظل نفس هذه العقيدة الراسخة ، وظل نفس هذا الإسلام الخالد .
ولقد تم هذا كله لأن الذين أقاموا هذا الدين –فيما بعد – في صورة دولة ، ونظام وشرائع ، وأحكام .
كانوا قد أقاموه –من قبل – في ضمائرهم وفي حياتهم ، في صورة عقيدة ، وخُلُق ، وعبادة ، وسلوك ...
ولما أن علم الله منهم هذا الصدق ، وهذا الإخلاص .
وعلم أنهم قد أصبحوا أمناء على العقيدة ، وأمناء على السلطان الذي يقوم عليها ، وأمناء على كل ما يتصل بهذا السلطان من معاني . عندئذ ، وعندئذ فقط … أنزل الله عليهم فرجه ، وأمدهم بنصره ، ومنحهم تمكينه وتـثبيته …
ثانياً _ العبادة الخالصة :
العبادة هي صلة الداعية مع ربه ، وهي الزاد الذي يمده بالطاقة والقوة في طريق دعوته الشاق والطويل ، والمليء بالأشواك والعقبات ، لكي لا يضعف ويفتر عن أداء دوره ، في الدعوة لهذا الدين ، والجهاد في سبيله ، والتضحية من أجله ..
ولقد كانت أهم أشكال العبادة في مرحلة الاستضعاف المكية هي :
الصلاة ، والذكر ، وقراءة القرآن ، والإنفاق في سبيل الله ، وغيرها ..
كما كانت أهم وظائف هذه الأشكال التعبدية هي :
تربية المسلمين حتى يصبروا على تحمل أعباء الدعوة وتكاليف الرسالة ..
من أجل ذلك فقد رافقت هذه العبادات الدعوة منذ أيامها الأولى .
فقد جاء في تفسير سورة المزمل ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان يتحنّث ، قبيل البعثة ، في غار حراء .
وكان تحنثه صلى الله عليه وسلم ، شهراً من كل سنة ، وهو شهر رمضان . فيقيم هذا الشهر في الغار ، يطعم من جاءه من المساكين ، ويقضي وقته بالعبادة والتفكير فيما حوله من مشاهد الكون ، وفيما وراءها من قدرة مبدعة ، وهو غير مطمئن لما كان عليه قومه من عقائد الشرك المهلهلة ، وتصوراتها الواهية.
وكان اختياره صلى الله عليه وسلم ، لهذه العزلة ، طرفاً من تدبير الله له ، ليعدّه لما ينتظره من الأمر العظيم .
وكان في هذه العزلة يخلو إلى نفسه ، ويخلص من زحمة الحياة وشواغلها ، ويفرغ لموحيات الكون، ودلائل الإبداع فيه ، وتسبح روحه مع روح الوجود ، وتتعانق مع هذا الجمال وهذا الكمال ، وتتعرف على الحقيقة الكبرى ، وتمرن على التعامل معها ، في إدراك وفهم عميقين .
وهكذا دبّر الله لمحمد صلى الله عليه وسلم وهو يعدّه لحمل الأمانة الكبرى ، وتغيير وجه الأرض ، وتعديل خط التاريخ .
فلما أن أذن وشاء سبحانه ، أن يفيض من رحمته على أهل الأرض ، جاء جبريل عليه السلام ، إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في غار حراء ، في القصة المعروفة ببدء الوحي .
ثم فتر الوحي مدة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، إلى أن كان بالجبل مرة أخرى ، فنظر فإذا جبريل ، فأدركته منه رجفة ، حتى جثا وهوى إلى الأرض ، وانطلق إلى أهله يرتجف وهو يقول :
(( زمّلوني ، دثّروني )) ففعلوا ، فأنزل الله تعالى ، جبريل عليه السلام ، بقوله تعالى : (( يا أيها المزمل ، قم الليل إلا قليلا ً، نصفه أو انقص منه قليلاً ، أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلاً ، إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً ، إن ناشئة الليل هي أشد وطأً وأقوم قيلاً، إن لك في النهار سبحاً طويلاً، واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلاً، رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلاً )).
الظلال ص3741 ، الرازي 30 /171
ولنـتفكر ملياً في هذه الحقائق الهائلة منذ الأيام الأولى للدعوة .
فالرسول صلى الله عليه وسلم يكلف بأمر الرسالة الهائل ، ويقال له قم ، ويظل قائماً بعدها قرابة ربع قرن ، إلى أن يلقى ربه .
لم يسترح ، ولم يهدأ ، ولم يعش لنفسه ولا لأهله.
وظل قائماً على دعوة الله ، يحمل على عاتقه العبء الثقيل ، الذي تنوء به الجبال ولا ينوء هو به . عبء الأمانة الكبرى في هذه الأرض . عبء البشرية كلها ، وعبء العقيدة كلها ، وعبء الكفاح المرير ، والجهاد المضني . وهذا هو زاده لهذا التكليف العظيم :
الصلاة ، والقيام ، وترتيل القرآن ، والذكر الخاشع ، والتبتل إلى الله، والاتكال عليه وحده ، والصبر على الأذى ، والهجر الجميل للمكذبين ، والتخلية بينهم وبين القهار الجبار …
روى الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها قالت : إن الله افترض قيام الليل في أول سورة المزمل ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حولاً كاملاً ، حتى انتفخت أقدامهم ، وأمسك الله خاتمتها في السماء اثني عشر شهراً ، ثم أنزل التخفيف في آخرها ، فصار قيام الليل تطوعاً بعد فريضة .
قال الخازن : ولما أمره الله بقيام الليل ، أتبعه بترتيل القرآن ، أي تلاوته أثناء القيام بتؤدة وتمهل وتفكر ، حتى يتمكن المصلي من حضور القلب ، والتفكر والتأمل في حقائق الآيات ومعانيها . فعند الوصول إلى ذكر الله ، يستشعر بقلبه عظمة الله وجلاله . وعند ذكر الوعد والوعيد يحصل له الرجاء والخوف .
وعند ذكر القصص والأمثال يحصل له الاعتبار بمن قبله ، فيستنير القلب بنور معرفة الله . تفسير الخازن 4 /165 .
وبعد أن أمره الله بإطراح النوم ، وقيام الليل وتدبر القرآن وتفهمه .
انتقل إلى بيان السبب في هذه الأوامر العبادية ، ذات التكليف الشاق ، فقال : (( إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً )) ..
جاء في التفسير الكبير للرازي : ( ووجه النظم عندي ، أنه لما أمره الله بصلاة الليل فكأنه قال : إنما أمرتك بصلاة الليل لأنا سنلقي عليك قولاً عظيماً ، ولا بد وأن تصير نفسك مستعدة لذلك القول العظيم ، وذلك بصلاة الليل . فان الإنسان إذا اشتغل بعبادة الله في ظلمة الليل، وأقبل على ذكره والتضرع بين يديه ، استعدت نفسه لإشراق الله وجلاله فيها ).
وقبل أن أتجاوز هذه الفقرة ، أود أن أذكّر بالحقيقة الهامة التي سبق لي أن أشرت إليها عن الصلاة : وهي أن فرضيتها في هذا الوقت المبكر من مراحل الدعوة ، وهذا المستوى من أهميتها ، كأهم زاد في طريق الداعية ، لا يتعارض مع ما قررناه سابقاً من عدم وجود أولوية في إظهارها كشعيرة جماعية في مرحلة الاستضعاف المكية . فلقد كانت الصلاة في هذه المرحلة ، ركعتين في أول النهار وركعتين في آخره . وكانت سرّية في المرحلة السرّية الكبرى ، ثم أصبحت جهرية في حق الرسول صلى الله عليه وسلم، ابتداءً من نزول قوله تعالى : (( فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين )).
ثم صارت جهرية بالنسبة للمسلمين أيضاً ابتداءً من إسلام العملاقين ، الحمزة والفاروق رضي الله عنهما . ولكنها لم تؤد بشكل جماعي ، في مسجد جامع إلا بعد الهجرة الشريفة ، وابتداء مرحلة التمكين في المدينة المنورة . تصديقاً لقوله تعالى : (( الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة )). الحج (39)
أي أن خصيصة إقامتها وإظهارها بصورة عزيزة وجماعية في مسجد جامع ، هي من اختصاص مرحلة التمكين ، وهي غير مطلوبة في مرحلة الاستضعاف .
جاء في المنهج الحركي نقلاً عن المقريزي : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يخرج إلى الكعبة أول النهار فيصلي صلاة الضحى، وكانت صلاة لا تنكرها قريش ، وكان إذا صلى في سائر اليوم بعد ذلك ، قعد علي بن أبي طالب ، أو زيد بن حارثة ، رضي الله عنهما يرصدانه . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم ، إذا جاء وقت العصر تفرقوا في شعاب الجبال فرادى وجماعات . وكانوا يصلون الضحى والعصر . وكانت الصلاة ركعتين ركعتين قبل الهجرة .