الاستعباط في عصر الانحطاط

أبو هشام

الحلقة 1

حدثني عيسى ابن هشام قال : بينما كنت مع بعض الأصحاب نسير , ووجهتنا قرية تدعى ( نمير ) , لنا فيها بعض الديون , مضت عليها الكثير من السنون , و أصحابها يماطلون , و في كل زيارة لهم عن أحوالهم يبالغون , و من الفقر و الجوع يشتكون , ثم إننا و قبل أن نصل إلى هذه القرية بيوم من المسير , خف ما عندنا من ماء و زاد , و فاجئنا قبل المغرب وحش خطير , فاستجرنا من كل معتد شرير , و تشاورنا في أمرنا على عجل و قررنا أن نطعمه ما بقي لدينا مـــــن آخر( جمل ), فالتهمه بشراهة على عجل و هو ينظر إلينا على وجل , ثم غادرنا مبتعداً بارتياب , ثم إننا قمنا إلى صلاة المغرب , و نحن في ذهول من أن يعود إلينا أو يأتي إلينا رفيقه ( الغول ) , فأسرعنا إلى القرية في النزول , علنا نجد فيها المأوى و نأمن ( الغول ) , و ما إن وصلنا إلى غدير ( نمير ) , لنشرب من الماء و نتزود بالسقاء , حتى فاجأتنا عجوز شمطاء تستند إلى عصاً غليظة , و أنفاسها تشبه فحيح الأفاعي فصرخت : من هنـــــــــاك ؟ فقلنا بصـــــــــوت واحد ( ضـــــــيوف ) فقالت ضيوف و أنتم ألوف ؟ فقلنا بل تسعة أو ما دون و لنا على أهل قريتكم ديون , فقالت : وهل تظنون أن في قريتنا واحد غير مفلس أو مجنون ! فقال واحد منا : سلامتكم من الجنون , عهدنا بكم عقل و تدبير , و ما عهدنا على أهل قريتكم إلا البخل و التقتير , فقالت : تعال يا هذا ’ فتقدم منها على وجل , و كأنما يقترب من الأجل , فوضعت عصاها على رأسه و صاحت , فقلنا مات صاحبنا أو ماتت ! , ثم إنه انتفض قليلاً ثم قال نعم أنا من أكلت تلك الأموال و حق علي أن أعيدها إلى أصحابها في الحال, وبدأ يخرج ما في جيبه من مال و يدفعه إلى العجوز الشمطاء و هي تقهقه من الفرح وتقول : هذا أول مجنون من التسعة, فعرفنا أنها ساحرة و سوف تسلبنا أموالنا بخطة ماكرة , فتحيرنا في أمرنا و قلنا إنها عجوز ماكرة و مع أنها شاطرة إلا أننا تسع رجال ولا بد أن نستعيد هذا المال , فتغامزنا فيما بيننا وتدافعنا نحوها بكل قوة و اقتدار , وأخذنا منها عصاها بعد إجبار وقلنا لها بعد أن وضعنا عصاها على رأسها : و الآن هات ما عندك من أموال ! و ما أن مست عصاها رأسها , حتى انقلبت إلى صبية فاتنة جميلة , أحلى من كل خميلة , وقالت في رقة و حياء : ضيوف ولا زلتم في العراء ! أسرعوا فالدار قريبة و فيها الطعام و الشراب , و كل ما لذ لكم و طاب , فأكلنا و شربنا ثم نمنا مذهولين و إلى ما ينتظرنا في الغد منتظرون , و خائفون و مترقبون , و قبل أن تشرق شمس الصباح سمعنا صوت صياح , فنظرنا فإذا بجمع غفير من الرجال و كأنهم يتبادلون بينهم كثيراً من المال , فقلنا في أنفسنا اقترب الفرج ! و هذه الصبية الحسناء تجد لنا المخرج , ثم إنها صاحت فيهم و كأنها العجوز الساحرة و لكن بشكل الصبية الفاتنة : أن اسكتوا و بأموالكم ادفعوا , فدفعوا لنا جميعهم ونحن ندور بينهم , و بعد ذلك التفتت إلينا و قالت و الآن هل وصلكم حقكم كاملا قلنا نعم يا فاتنة قالت إذاً أعيدوا لي عصاي فأنا عليكم غير نادمة , قلنا هذه عصاك و الشكر لك و لأبيك , فقالت شكراَ شكراً يا أحبائي و إذا كنتم تريدون وفائي إذن فليدفع كل واحد منكم بشعرة من رأسه كتذكارة لكم عن هذه الزيارة , فقلنا : و ما ضير ذلك إذا عادت الأموال إلى المالك ؟ , وما أن حصلت على ما تريد حتى وضعت هذه الأشعار على الأرض ثم ضربتها بعصاها فأصبحت الأموال و الدنانير تخرج من جيوبنا و تتدحرج بسرعة إلى حجرها , فتحيرنا في أمرنا من جديد و قلنا: صحيح إن أهل هذه القرية مجانين و لكنهم زادوا بعد مجيئنا إليهم تسعاً آخرين , و عندها هربنا بأنفسنا ناجين ومن مسها لعصاها من جديد محاذرين , ونحن بالله نستجير من كل وحش خطير , أو أي معتد شرير .

*****************

الحلقة 2

حدثني عيسى إبن هشام قال : بينما كنت و صاحبي نسافر في بعض الأقطار, نساير أهل البر و نخشى الشطار , حتى ولو كانوا من كبار التجار, و صلنا إلى بلدة يقال لها ( الباب ) , و هي من أعمال حلب ياعالي الجناب , و بعد أن دخلناها و جدناها مدينة صغيرة جميلة , فيها الكثير من الشباب مع أن بعضهم قد هر شعره أو شاب , و إذ نحن بثلة من هؤلاء الشباب , فأقسموا علينا أن نوافقهم على الذهاب و الإياب , قلنا نعم و لكن إلى أين قالوا إلى سهل الغاب , قلنا و ما سهل الغاب ؟ وهل نعود قبل الغياب ؟ قالوا نعم إذا إجتهدنا و أخذنا بكل الأسباب , فإنطلقنا بخطىً حثيثة وكأننا إلى حتفنا سائرون , و حسبناهم قوماً ماهرون , إلى أن أعيانا التعب , وهد جسمنا النصب , فقلنا لهم : أين الطعام و الشراب ؟ قالوا : فأين همة الشباب ؟ حتى أشرفنا على سهل فسيح , فيه ماء غير شحيح , أشجاره باسقة معمرة , و أطياره تشدوا مغردة فقلنا لهم وهل هذا هو الغاب ؟ و هل يخلو من كل سن و ناب ؟ فأشاروا إلى نهر صغير و قالوا الغداء الغداء خلف هذا البناء , و أسرعوا يسبحون في هذا النهر و كأنما أعطيت عليهم أمر , و بقيت أنا و صاحبي خلف ذاك النهر , نشم الشواء , و نسمع العواء , إلى أن داهمنا الليل فقلت لنفسي : الجوع نصبر عليه ! أما السن و الناب فلا يعرف الجندب من عالي الجناب , ثم إنني نمت على غصن أحد الأشجار كما ينام الأطيار , ولم أفق إلا على صفير طير صغير , فنزلت عن الشجرة , و تحيرت كيف أعود إلى حيث بدأت , ولا أدري أي وجهت إتجهت , هذا و بعد أن بحثت , و في كل الأنحاء فتشت , عن صاحبي الذي ضاع , ولم أدر إن أكله بعض السباع , فسبحت و حوقلت و حمدت , أن مد الله في عمري يوماً و ما مت , و بعد أن صليت و دعيت , ومن الكريم طلبت , و من عطائه ما مللت , ثم إنني تلفت فإذا ظبية جريحة , أحلى من كل مليحة , يفوح من جرحها أطيب ريحة , تقول عيناها أبلغ كلام بلا شفة و لا لسان , فإقتربت منها على وجل , خوف أن تهرب مني على عجل , فما هربت بل إقتربت , و كأنها عن يقين عرفت أنني لن أؤذيها , بل سأساعدها و أداويها , وهكذا كان , حيث مضت بعض الأيام , فصرت و إياها وكأننا صحبة من زمان , و كنت خلال تلك الأيام آكل بعض الحشائش و الأعشاب , و أسب من قلبي كل من سكن مدينة الباب , إلى أن جاء يوم تغيبت فيه الظبية اللطيفة عدداً من الساعات, تذكرت فيها كل ما حصل معي و فات , و فاجأتني الظبية من جديد بإلتفاتتها المعهودة , ولكن بشفة ممدودة و فيها ورقة مطوية , فأختها فإذا فيها خريطة لكنز مهجور , بحثت عنه دون فتور حتى و جدته بين الصخور , فنسيت عندها تعبي و جوعي , و مسحت كأساً من دموعي ,ثم إنني حملت من هذا الكنز ما أقدر على حمله , و توجهت شرقاً إلى الجبال , بعد أن تركت الظبية في أحسن حال , وحمدت الله أن نجاني من الموت الحقق , و أسعفني بمال وفير , و حظ كبير جزاء ما قدمته للظبية الجريحة , حتى وصلت أخيراً إلى الطريق العام , مبتعداً ما إستطعت عن إتجاه مدينة الباب , إلى أن رحمني أحد السائقين , و نجاني من وادي الجحيم , فشكرته و ركبت جنبه , فنمت من كثرة التعب , و ما إستيقظت إلا على جعير بعيد كل البعد عن صوت الأدب يقول : ده وصلنا خيٌو ! ده كنِي ما معك شنتاية ؟فعلمت أنني إنسرقت ! فشلحت من رجلي و بالصرمايه و ضربت ! فإستيقظت على صراخ أم العيال و هي تصيح ومن ضربي لها تستغيث .

****************************

الحلقة 3

حدثني عيسى إبن هشام قال : بينما كنت في الصحراء أسير , و إذ أنا بشيءِ في الأرض يلمع فقلت لمن معي إسمع ! و عندما لمسته قلت : لا بد أنه شيء جدير , فخرج مارد كبير من قمقم كان إلى جنبه صغير , و قال لبيك يا هذا لبيك , أمرك يحضر فوراً بين يديك , فأذهلني هذا الموقف و تحيرت ما ذا أفعل أو اقول ! فتململت قليلاً ثم قلت ( مليون ) فقال ليرة أم دولار قلت بل دولار قال إذن إطلبها من الواحد القهار , فهذا فوق طاقتي بمقدار , ثم إنه عاد كما كان إلى القمقم الصغير بعد أن ملأ المكان بالصفير , و هو يقول أهلكتني ...أهلكتني .... و إلى حتفي أوصلتني , فتحيرت و قلت سبحان الواحد القهار , الذي قهر عباده بالموت , و يارب ياجبار أعطني سؤالي وحقق لي مطلبي, فأنت أكرم مسؤول و بجميع العباد تعول , ثم إنني سرت سيراً حثيثاً حتى أخذني المسير إلى مكان قريب من الأنهار , فيه الكثير من الأشجار , و بينما كنت من النهر اقترب , شاهدت شيئاً يبتعد , ثم إني سمعت صوتاً ضعيفاً فخمنت أنه صوت جدي أو غزال وهذا لا يغني عما كثر من المال , ثم تراءت لي من بين الاشجار صبية كالشمس في رابعة النهار , عليها ثياب جميلة و لها من كل جانب جديلة , قالت : يا أيها الشيخ الوقور ساعدني ولك الأجر مدى الدهور , قلت بماذا أيتها الصبية قالت أنا في ملمة صغيرة وهي عليك ليست عسيرة , هنا بعض الأزرار إشبكها لي تسقط عنك الأوزار , فإقتربت منها على وجل و خفت أن تكون هنا نهاية الأجل , قالت : إنها هنا خلف الإزار , و قبل أن تصل يدي إلى ما أرادت , ظهر شاب بلحية سوداء و شارب , وتقدم بطوله الفارع , و بيده سيف لامع قال : من هذا يا ملعونه ؟ و قبل أن تجيب أو أجيب إلتقطت من الأرض خشبة , وهويت بها على رأسه الكبير .... فوجدت نفسي على بعد أمتار من السرير , فحمدت الله أن نجاني من شر المصير و أبعد عني شبح الموت , فقمت إلى صلاة الصبح قبل الفوت