ما مصلحة إيران في دعم حفتر ليبيا؟
فجّر مندوب إسرائيل الدائم لدى الأمم المتّحدة داني دانون مفاجأة من العيار الثقيل أوّل من أمس عندما كشف عن إرسال إيران أسلحة متطورة إلى الانقلابي خليفة حفتر في ليبيا. دانون كان قد وثّق ذلك في رسالة بعثها بشكل مسبق إلى مجلس الأمن في 8 أيار (مايو) الحالي ويقول فيها إنّ إيران خرقت قرارين لمجلس الأمن هما القرار 2231 الصادر عام 2015 والمتعلق بمنع نقل أو تصدير أو تزويد أو بيع أسلحة من إيران إلى جهات أخرى، والقرار 1970 الصادر في عام 2011 والمتعلق بحظر تصدير السلاح إلى ليبيا.
دعم إيراني قديم لحفتر
في رسالته يوثّق دانون وجود أسلحة إيرانية الصنع من طراز "دهلاوية"، وهو سلاح موجّه مضاد للدروع تمّ تقديمه في العام 2012 ويعد بمثابة نسخة عن "الكورنت" الروسي، ويشير إلى أنّه تم التقاط صور لأربعة قطع من هذا السلاح وهو يُستخدم من قبل قوات موالية لحفتر في ليبيا. تسببت هذه المعلومة بصدمة لدى متابعي الشأن الليبي، إذ لم يُعرف سابقاً عن وجود دور لإيران في الحرب الدائرة منذ مدّة بين حكومة الوفاق الوطني المعترف بها من قبل الأمم المتّحدة والانقلابي حفتر.
أنصار النظام الإيراني والمتعاطفون معه أنكروا هذا الأمر على الفور، ولم يكلّفوا أنفسهم عناء البحث فيه، فبما أنّ المعلومات تأتي من الجانب الإسرائيلي فلا داعي للتمحيص أو تقديم الدلائل التي تُثبت عدم صحّتها أو بُطلانها فهو مصدر "غير ذي مصداقيّة" ولا يعتد به. بعضهم ادّعى أنّه لا يمكن لإيران أن تدعم طرفاً داعموه هم في صف إسرائيل في الأساس، بدليل ما تورده الصحف الإيرانية عن حفتر وداعميه.
البعض الآخر استعان بما نشرته بعض المواقع ومراكز الدراسات الإيرانية ليشير إلى أنّ السياق العام للموقف الإيراني يقول إنّ طهران تهدف إلى منع تفوّق الأطراف المعادية لها في ليبيا وإنّ العلاقة مع الوفاق أفضل من سيناريو حفتر في ليبيا، لأنّ للأولى علاقات مع تركيا وقطر. لا بل ذهب البعض للقول إنّ إيران تواصلت مع حكومة الوفاق وعرضت عليها دعماً.
عادةً ما تعتمد مثل هذه القوالب الجاهزة من المواقف على أدوات تحليل بدائية وسطحية يغلب عليها التأثّر بالمكان والمحيط والدعاية، وهي مواقف انفعالية تتناقض بشكل قطعي مع تاريخ السلوك الإيراني من جهة، ومع حقيقة سعي إيران إلى تحقيق مصالحها بأي ثمن كان حتى لو تطلّب ذلك التعاون مع الشيطان نفسه.
التعاون الإيراني-الإسرائيلي.. شهادة جاك سترو
لدينا العديد من النماذج في هذا السياق، بعضها يعود إلى بدايات الثورة الإيرانية، حيث كان الجانب الأيديولوجي والثوري بقيادة آية الله الخميني أقوى بأضعاف مما هو عليه الآن، ولم يمنع ذلك تعاون إيران مع النظام الصهيوني على مستوى عسكري واستخباراتي وسياسي واقتصادي سواءً ضد العراق أو في مسائل أخرى لاحقاً.
في أحدث شهادة تاريخية لأرفع مسؤول يتحدّث عن الموضوع وثّق وزير خارجية بريطانيا الأسبق جاك سترو في مذكّراته "المُهمّة الإنكليزية" الصادر حديثاً تفاصيل التعاون الإسرائيلي بقيادة شارون والإيراني بقيادة الخميني. سترو بالمناسبة هو من الساسة الغربيين الذين يُتّهمون عادة بميلهم إلى إيران، وبحبّهم للثقافة للفارسية، وهو أول مسؤول بريطاني رفيع المستوى يزور إيران بعد أحداث أيلول (سبتمبر) 2001 منذ اندلاع الثورة الإيرانية عام 1979.
يقول سترو بأنّ إسرائيل كانت المورّد الغربي الأوّل والوحيد الموثوق للأسلحة لإيران في الفترة منذ العام 1980 و1988. وفقاً لسترو، فإنّ آرييل شارون كان قد أبلغ المسؤولين البريطانيين بأنّ إسرائيل تزوّد نظام الخميني بالأسلحة، فطلب البريطانيون من إسرائيل التوقّف عن ذلك وكذلك فعلت المخابرات الأمريكية، لكن الإسرائيليين رفضوا واستمروا في تزويد إيران بالسلاح.
يؤكّد سترو بأنّ هناك تعاونا غير مسبوق على المستوى الاستخباراتي والعسكري حصل بين إسرائيل وإيران، وقد أدّى ذلك إلى تدمير جزء مهم من القوّة العراقية. إسرائيل منحت إيران معلومات عن أهداف عراقية، وبعد أن فشلت إيران في تدمير المفاعل النووي العراقي، قامت بالاستعانة بإسرائيل ومررت لها معلومات عنه لتُنفِذ الأخيرة مهمّة تدمير المفاعل النووي العراقي.
ويشير سترو إلى أنّ صفقة أخرى سمحت لإيران بسفر اليهود الإيرانيين إلى إسرائيل للاستيطان هناك، وأنّ إيران استضافت لديها شخصاً كان بمثابة سفير إسرائيلي غير معلن. وقد أكّد سترو هذه المعلومات أيضا في مقابلة له مع التلفزيون العربي في حلقة نشرت بتاريخ 14 شباط (فبراير) 2020.
هناك أمثلة كثيرة على مثل هذا التناقض في السلوك الإيراني بين الأقوال والأفعال، فبالرغم من لعن الولايات المتّحدة ليل نهار داخل إيران، إلا أنّ ذلك لم يمنع طهران من القيام بمفاوضات سريّة مع مسؤولين أمريكيين في سلطنة عُمان وهي المفاوضات التي أفضت لاحقاً إلى اتفاق تاريخي أيضا (الاتفاق النووي). إذا كنّا سنستند إلى ما تقوله الصحف الإيرانية أو المسؤولون الإيرانيون لما كنّا عرفنا أيّاً من هذه الأسرار التي نعرفها اليوم عن إيران وسلوكها.
العلاقات الليبية-الإيرانية منذ أيام القذافي
بالعودة إلى الملف الليبي، فإنّ علاقات النظام الإيراني مع الديكتاتور القذافي قديمة، وبالرغم من أنّها كانت تتهمه باختطاف موسى الصدر، إلا أنّ ذلك لم يمنع من أن تتحول ليبيا إلى واحدة من أكثر الأنظمة دعماً لنظام الخميني لاسيما على الصعيد العسكري، وهو تناقض آخر يضاف إلى تناقضات السلوك الإيراني.
صحيح أنّ إيران ليس لها مصلحة في أن تظهر بشكل مباشر في الساحة الليبية وليس لها القدرة أصلاً لفعل ذلك الآن لأسباب كثيرة، إلاّ أنّ ذلك لا يمنعها من أن تكون حاضرة بالوكالة وهو الأمر الذي تتّبعه طهران عادة خاصة في البلدان التي لا تتواجد فيها أقليّة شيعية.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه، ما هي مصلحة إيران في التواجد في ليبيا ودعم حفتر؟
الساحة الليبية تشهد صراعاً بين عدد كبير من القوى الإقليمية والدولية، ولإيران مصلحة حيوية في أن يستمر هذا الصراع لأكبر قدر ممكن من الوقت لسببين: الأوّل أنّه يعدّ عاملاً إشغالياً للقوى المشاركة فيه ومن بينهم أعداء ومنافسون لإيران في الإقليم؛ أمّا الثاني، فهو أنّه يجذب انتباه المجتمع الدولي والمنطقة بعيداً عن التصعيد الإيراني الحاصل مؤخراً في العراق وسوريا واليمن ولبنان.
لذلك، فانّ مصلحة إيران لا تكمن في انتصار طرف على آخر، لكن إذا كانت ستدعم طرفاً لتُساهم في المعادلة أعلاه فهذا الطرف سيكون حفتر بالتأكيد. لماذا؟
حفتر اليوم يمثّل حالة أسديّة في ليبيا، والقذّافيون هم جزء من تحالفه والميليشيات التي تقاتل معه حتى الأمس القريب. تقوية حفتر من شأنها أن تقوي نظام الأسد أيضاً، فكلاهما في تحالف معلن تدعمه في المجمل مجموعة من الدول غير المعادية لإيران عملياً على رأسها روسيا ومصر والإمارات.
إنّ استبعاد إمكانية دعم إيران لحفتر استناداً الى التفسير القائل بأنّ الإمارات ومصر تدعمانه يتناقض مع حقيقة أنّ إيران تدعم الأسد في سوريا في الوقت الذي تدعم فيه الإمارات ومصر الأسد أيضاً! فضلاً عن ذلك، فإن الإدّعاء القائل بأنّ أطرافا معادية لإيران هي من يدعم حفتر أمر يتناقض هو الآخر مع حقيقة دعم روسيا والأسد لحفتر وكلاهما حليف لإيران في سوريا.
أمّا القول بأن إيران أقرب إلى حكومة الوفاق بسبب تركيا وقطر، وأنّها عرضت الدعم عليها، فهذا تكذّبه تصريحات المسؤولين في حكومة الوفاق أنفسهم، وآخرها تصريحات وزير الداخلية التي تتّهم إيران وميليشياتها بدعم حفتر. علاوةً على ذلك، ليس لإيران مصلحة في أن تدعم حكومة الوفاق ضد الأسد وروسيا، فهي في نهاية المطاف تدخلت في سوريا وطلبت تدخل روسيا من أجل حماية الأسد وليس من أجل محاربته عبر دعم طرف آخر. كيف يمكن لمؤيدي نظرية أن طهران عرضت دعماً على حكومة الوفاق أن يبرروا مثل هذا الادعاء؟
في حقيقة الأمر، فإنّ دعم إيران لحفتر من شأنه أن يفتح آفاقاً لعلاقاتها مع مصر والإمارات وهو شيء تحاول طهران فعله منذ مدّة. هناك تصريحات إيجابية إيرانية-إماراتية متبادلة خلال الأشهر القليلة الماضية وهي تشي بوجود انفراجة وتقاطع مصالح بينهما في أكثر من ملف إقليمي. هذه الدول الثلاث يجمع بينها رابط آخر وهو محاولة تحجيم تركيا إقليمياً على اعتبار أنّ دور تركيا الصاعد في المنطقة يأتي على حسابهم، وهو عنصر آخر يُفسّر لماذا تدعم إيران حفتر .
المؤشرات المتعلقة بدعم إيران لحفتر تتزايد مؤخراً. على المستوى السياسي، لا يمكن أن يكون تحالف الأسد-حفتر قد تمّ رغماً عن إيران أو بمعزل عنها، وهذا يعدّ بمثابة موقف سياسي إيجابي من حفتر وإن لم تكن طهران حاضرة في الصورة. على المستوى العسكري، يجري توثيق المزيد من الأسلحة الإيرانية الصنع لدى الميليشيات الموالية لحفتر سواء مضادات الدروع أو الطائرات من دون طيّار (مُهاجر-2) أو الذخائر.
لا يشترط ذلك أن تنخرط طهران بشكل مباشر في العملية، إذ يمكن لمثل هذاه الأمر أن يتم عبر نظام الأسد أو حتى عبر شركات خاصة متمركزة في دبي، وهو تقليد اتّبعه النظام الإيراني وأذرعه في المنطقة لسنوات طويلة حيث تجري عمليات تبييض الأموال والحصول على أسلحة أو تكنولوجيا عبر دبي.
أخيراً، فإنّ ليبيا وكما سبق وذكرت في مقال "هل تدعم إيران حفتر في ليبيا؟" من الممكن أن تكون بالنسبة إلى إيران بمثابة أرض خصبة لعمليات للتجارة الإيرانية غير المشروعة وتبييض الأموال ولصادراتها من السلاح أيضاً، وما السفن التي تنطلق من ميناء اللاذقية الذي يسيطر عليه الحرس الثوري وتصل إلى ميناء بنغازي الذي تسيطر عليه قوات حفتر إلاّ دليل على ذلك.
لكن هل من مصلحة إيران أن تلعب هناك بشكل مكشوف؟ بالطبع لا، وهي بغنى عن ذلك في ظل حضور نظام الأسد. هل يمنعها دعم حفتر من تغيير موقفها لاحقاً لاسيما مع تدهور وضع الأخير؟ بالطبع لا، فإنّ إيران تدور حيثما تدور مصلحتها، مصلحتها الأمس أو اليوم مع حفتر، وربما غداً مع طرف آخر.
وسوم: العدد 878