فلسطين على مفترق طرق
كلما تعددت الخيارات واختلفت، وكما تروي الجدات في حكايتهن، نصل دائمًا إلى مفترق حاسم تتشعب عنده الطريق إلى واحد للسلامة، وآخر سمّينه في مروياتهن "طريق الندامة"، وهو طريق الهلاك "اللي بتودي وما بتجيب". وفي كل مرّةٍ، يتحتم على شخوص الحكاية اختيار ما يعتقدون أنه قد يوصل إلى بر الأمان، فمنهم من يصل إلى مبتغاه، ومنهم من يضل.
تتذكّر تلك الحكايات، وأنت تتأمل حال الشعب الفلسطيني، وقد وصل إلى مفترق طرق حاسم منذ اتفاق أوسلو، وصولًا إلى صفقة ترامب - نتنياهو، وتأليف حكومة إسرائيلية جديدة أعلن رئيسها نيته فرض السيادة الإسرائيلية على "أرض إسرائيل"، وقرار الرئيس محمود عباس التحلل من جميع الاتفاقات التي تربط منظمة التحرير والسلطة الفلسطينيتين بالولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل، بما فيها الاتفاقات الأمنية. ما يعني أنّ مرحلة جديدة تتشكّل، وقد تفرض إقامة وحدة وطنية واسعة، إذا اتضحت ملامح القرار الذي لم يزل غامضًا، ما يدفع إلى التساؤل عن هذا التوقف الاضطراري للرئيس عباس، والذي تأخر كثيرًا وطال انتظاره، وعن حقيقة الطريق الذي سيسلكه.
يشكّل القرار تطورًا إيجابيًا في موقف السلطة الفلسطينية، إلا أنّ العبرة في مآلاته، وما إذا كان هناك مفارقة للطريق الذي سارت عليه منذ اتفاق أوسلو، ووقف فعلي للتنسيق الأمني، وتشجيع لجميع أشكال المقاطعة والمقاومة الشعبية السلمية، وعدم معارضتها أو الوقوف في وجهها، والتصدّي لاعتداءات المستوطنين، وحماية القرى والمدن الفلسطينية، وفي مقدمة ذلك كله توحيد البيت الفلسطيني، ليتمكّن من الصمود والمواجهة والمقاومة.
ثمّة خوف مشروع من تشابه هذا القرار مع تكرار مملّ له على مدى الأعوام الثلاثة الماضية،
بحيث بتنا لا نصدق جدّيته، إلا إذا لمسنا فعله على الأرض، وانعكاسه على سلوك السلطة كلها. كما وثمّة تساؤلات محقّة حول آلية إعلانه، لكن هذه المرة، وقد بلغ السيل الزبى، فإنّ حبل المناورة قصير، والحقيقة ستتضح سريعًا إذا ما كان ثمّة نكوص عن مسار أوسلو، أم أنّ الأمر كله لا يعدو أن يكون حراكًا ضمن السياق ذاته، للخلاص من صيغة ترامب الوقحة، أو ملاقاتها في منتصف الطريق مع صيغة الرباعية الدولية (الولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة)، الممزوجة بالرباعية العربية، تحت مظلة جلسة افتتاحية لمؤتمر دولي، وفق تصريحاتٍ تناقلتها وكالات الأنباء لمسؤولين فلسطينيين وأوروبيين وروس. ويعزّز هذه المخاوف منطوق خطاب الرئيس، حيث تنعدم المعلومات، وتختفي الكلمات، عند الحديث عن تفصيلات التحلل من الاتفاقات، أو عند تناول المصالحة وترتيب البيت الفلسطيني لمواجهته، أو وسائل المقاومة وأساليبها، لتنطلق الجمل بعدها داعية إلى العودة إلى المفاوضات بإشراف الرباعية الدولية، وإطلاقها عبر مؤتمر دولي.
موقف جيد أن ترفض السلطة التفاوض وفق منطوق رؤية ترامب - نتنياهو التي لم تدع لها شيئًا لتتفاوض عليه، ولكن الاستعداد للعودة إلى المفاوضات في حال تنوع رعاتها لا يغيّر من واقع الأمر شيئًا، فتفصيلات صفقة ترامب، وواقع الاستيطان وتمدّده، تعزّز خلال المفاوضات الماراثونية التي استمرت منذ اتفاق أوسلو وبرعاية الرباعية ذاتها.
ليس الوقت وقت سعي نحو حلول متوهمة تنتظر مجيء بيني غانتس، أو تغيير الحكومة الإسرائيلية، وتترقب نتائج الانتخابات الأميركية، لعل الديمقراطي جو بايدن يكون قادرًا، في حال انتخابه، على وقف الصفقة، في حين يتلاعب العدو بالمسميات القانونية، من "ضم" إلى "فرض القانون الإسرائيلي" و"تطبيق السيادة"، لإبقاء نافذةٍ مفتوحةٍ على وهم المفاوضات، في ظل تمدّد الاستيطان، وتكريس الضم، وتحويله إلى أمر واقع، فهل تدرك السلطة الوطنية الفلسطينية أن استجداء المفاوضات، وطرح الحلول التي أنهتها إجراءات المحتل، إنما هو استمرار في طريق الندامة الذي ساروا عليه منذ 30 عامًا أو يزيد؟
ثمّة طريق آخر واضح المعالم، مقاومة المشروع الصهيوني على أرض فلسطين كلها، وليس الدخول معه في دوامة الحلول على أجزاء منها. ويقتضي ذلك توحيد الشعب الفلسطيني في أماكن وجوده كافة، في الضفة الغربية، وقطاع غزة، والأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام 1948، والشتات، ضمن إطار سياسي موحد، هو منظمة التحرير الفلسطينية، بعد استعادتها من أسر السلطة الفلسطينية، وفصلها عنها تمامًا، من أجل إعادة بنائها على قاعدة التمسّك بالسردية التاريخية الفلسطينية، في مقابل الرواية الصهيونية التوراتية، وبحيث تعود منظمة التحرير إلى ممارسة دورها قيادة سياسية للشعب الفلسطيني كله.
على السلطة الفلسطينية، إن كانت جادّة في قراراتها الأخيرة، أن تتخلى عن أي دور سياسي، فهي
ليست القيادة السياسية للشعب الفلسطيني الذي يُفترض أن تكون قيادته منظمة التحرير، وعليها أن تغيّر دورها الوظيفي السابق، إذا كانت فعلًا قد تحللت من الاتفاقات مع إسرائيل، وفي مقدمته التنسيق الأمني، لتقوم مؤسساتها بدور خدماتي فقط، والاستعداد لتحمل تبعات ذلك في مواجهة العدو الصهيوني، وأن تبادر إلى تفعيل الإطار القيادي الموحد كقيادة سياسية مؤقته، إلى حين انتخاب لجنة تنفيذية جديدة، وتشكيل لجنة تحضيرية، لإعادة تأليف المجلس الوطني الفلسطيني الذي سينتخب اللجنة التنفيذية. ولتحقيق هذا الهدف، يجب ممارسة كل أشكال الضغط الشعبي المترافق مع تصعيد النضال ضد الاحتلال والحصار والاستيطان والأسرلة ومصادرة حق العودة للاجئين، والتي تمثل جميعها معالم نظام الأبارتهايد الصهيوني. وكلما تصاعد هذا النضال، اقترب الشعب الفلسطيني من إعادة بناء منظمته وتحقيق وحدته.
إذا لم تفلح تلك الوسائل في فك أسر المنظمة، وبقي بعضهم مصرًّا على انتزاع صلاحياتها، وشلّ دورها ومصادرته، لحساب استمرار الانخراط في مشروع المفاوضات العبثية، فعلى كوادر حركة فتح الرئيسة، وعلى الفصائل المنضوية تحت لواء منظمة التحرير، وتحديدًا الجبهتين الشعبية والديمقراطية، أن تبادر إلى نزع الغطاء الذي تقدّمه لهذه الأطر. ولعل هذا يستدعي من المبادرات الوطنية والشبابية والمهنية، وروابط الجاليات والملتقيات الفلسطينية، في الداخل والخارج، أن توحّد جهدها، وتدعو إلى حوار وطني شامل، يضمها مع الفصائل المركزية والشخصيات الوطنية في ملتقىً وطني فلسطيني، تتمخض عنه لجنة تحضيرية تتولى الدعوة إلى مجلس وطني فلسطيني جديد على أسس تمثيلية ديمقراطية.
لم يعد ثمة مجال لمزيد من المناورات، والأبواب يجب أن تكون مشرعة لأوسع وحدة وطنية على قاعدة مواجهة صفقة ترامب - نتنياهو، وسدّ الذرائع أمام المفاوضات، والبحث عن حلول، والمضي على درب مقاومة المشروع الصهيوني في فلسطين التاريخية. كما لم يعد من المجدي توجيه الاتهام لأي مبادرة وطنية أو شبابية تسعى إلى إطلاق طاقات قطاعاتٍ واسعةٍ من الشعب الفلسطيني، بأنها سعي إلى إيجاد بديل من منظمة التحرير، فالمسؤول عن شلل المنظمة وتجميدها هو الذي يمنع انعقاد مجالسها الوطنية منذ أكثر من ثلاثين عامًا، ويعمل على تذويبها في مؤسسات السلطة الفلسطينية تحت حراب الاحتلال. والكل الفلسطيني الآن على مفترق الطرق، فإما أن يسلك طريق الندامة، عبر مواصلة السعي نحو مفاوضات عبثية، واللهاث خلف حلول وهمية، أو يذهب إلى طريق السلامة، عبر تصعيد النضال ضد المشروع الصهيوني، وتوحيد شعبنا كله تحت راية منظمة التحرير الفلسطينية التي ستشكّل القيادة السياسية الموحدة لعموم شعبنا في مناطقه كافة، منهية حالة الانقسام والتشرذم، وقائدة لنضاله الموحد.
وسوم: العدد 879