عربي عواد ملفحٌ بالبرد والصقيع مات
د. مصطفى يوسف اللداوي
قد يستغرب البعض مني أن أكتب رثاءً في شيوعيٍ قديم، حمل الماركسية وآمن بها، واعتقد بالشيوعية وعمل في ظلها، ونادى بأفكارها وبشر بها، وبقي رافعاً رايتها وحاملاً لواءها وقد تخلى عنها آباؤها وروادها، وأصحابها الأولون ومنظروها الأصليون، وأنا الإسلامي الفكر والمنهج، والإيمان والعقيدة، الرافض للشيوعية، والمحارب للماركسية، والمنكر لمبادئها، والمعارض لأفكارها، ومع ذلك أجد نفسي راضياً وأنا أكتب عنه، ولا أشعر بالضيق وأنا أرثيه للقراء العرب، ولا يخالجني شكٌ في أن له علينا حقاً يجب الوفاء به، وعنده من المواقف ما تجعلنا نذكره بعد مماته، ونحفظها له بعد رحيله، ونذكَّر بها غيره، رغم أنني أعلم أن البعض لن يروق لهم ذلك، ولن يعجبهم ما أقول، وسيرون فيما أكتب نشوزاً غريباً، وكلاماً غير مستساغ، وموقفاً لا يحمد عليه كاتبه، ولا يشكر بسببه قائله، وقد الامُ عليه وأُنتقد.
لكن عربي عواد الفلسطيني المناضل، المتمسك بالحقوق، والمحافظ على الثوابت، والذي بقي حتى آخر أيامه يحلم بالقدس ويتمنى العودة إليها، ويفكر في فلسطين التاريخية ويتمسك بها، ويدعو إلى الوحدة ويعمل من أجلها، وينادي بالمقاومة والحفاظ على نهجها وإن قصر باعه، وضعف ذراعه وضاقت به السبل، وتآمرت عليه الأمم، إلا أنه كان يرى في المقاومين عوضاً، وفي المجاهدين بدلاً، وفي الأجيال الطالعة أملاً، يمدحهم ويشيد بهم، ويشجعهم ويدافع عنهم، ويتمسك بحقهم ويصر على ضرورة استمرارهم، ووجوب نصرتهم والوقوف معهم، ليستحق منا هذا الرجل وبهذه المواقف أن نذكره ونشيد به، وأن ندعو الله له بالرحمة والمغفرة، وأن يقبل منه توبته وأوبته، وأن يغفر له ذنبه وحوبته.
عربي عواد، لا ننكر شيوعيته، ولا ندافع عن أفكاره، ولا نقبل بمعتقداته، ولكنه مات ولا نعلم ما بينه وبين الله عز وجل غير أنه زار بيته الحرام معتمراً، وسعى بين الصفا والمروة متعبداً، ولبس إزار الإحرام معتقداً، وزار قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم متشوقاً، ووقف إلى جواره وبالقرب منه، وطرح عليه السلام والتحية، وعاد من الحج يستقبل الزوار والمهنئين، يقولون له، حجٌ مبرورٌ، وسعيٌ مشكور، وذنبٌ مغفور، فلا نملك إلا أن نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلها منه توبةً مقبولة، وعودةً صادقة، فيغفر له ويرحمه، وما ذلك على الله بعزيز، فهو غفارٌ لكل ذنب، وقابلٌ لكل توبة.
لأبي الفهد الحق في أن نكتب عنه وهو والد شهيدٍ، كغيره من أبناء الشعب الفلسطيني الذين قدموا فلذات أكبادهم، وضحوا بزهرات عمرهم، ولم يبخلوا على وطنهم بأغلى ما يملكون، وأنفس ما يقتنون، وأعز ما كان عندهم من ولدٍ، فقد قدم عربي عواد ابنه البكر فهد الذي به يكنى، فكان والداً لشهيدٍ سبق، قدم وضحى ولقي الله شهيداً دفاعاً عن شعبه، وإيماناً بحقوق أهله، واصراراً على استعادتها والعودة إليها، فرفع به والده رأسه، وصبر على وجعه، واحتسبه شهيداً به يفخر ويباهي، ويقول للآخرين أنني عليكم مقدم، فأنا والد الشهيد المقدم، فإكراماً للشهداء نذكر والد الشهيد، وحفظاً لقدرهم نشيد بوالده، فما الشهيد إلا شافعٌ لأهله، وسابقٌ لهم إلى جنان الخلد، ينتظرهم ويأخذ بأيديهم.
يحق لأبي الفهد الأسير الفلسطيني الذي قضى في السجون الإسرائيلية اثنا عشر عاماً من عمره، أن نكتب عنه وفاءً للأسرى، وتقديراً للمعتقلين، وحفظاً لتضحياتهم ومعاناتهم وهو أحدهم، وقد لقي على أيدي سلطات الاحتلال صنوفاً من العذاب شتى، وقد كانت السجون الإسرائيلية قديماً أسوأ بكثيرٍ مما هي عليه الآن، رغم سوئها وقسوتها هذه الأيام، فقد كانت وسائل التعذيب الجسدية وحشية وقاسية، ومفرطة في العنف والأذى، وكان له منها نصيبٌ كبير، كحال اخوانه ورفاقه في السجون الإسرائيلية، الذين عبدوا الطريق بتضحياتهم لآلافٍ جاؤوا من بعدهم، فعاشوا على تضحيات السابقين، واستفادوا الكثير من صمودهم ونضالهم.
يحق لنا أن نكتب عن المبعد الفلسطيني عن أرض وطنه، وعن المطرود من مدينته، والمرحل على أيدي سلطات الاحتلال بعيداً عن شعبه، فقد أُبعد عربي عواد قسراً عن فلسطين، وانتزع قهراً من أرض وطنه، وقذف به بالقوة رغماً عنه إلى الأردن، ولكنه بقي يتوق إلى الوطن، ويتطلع إليه، ويبذل أقصى ما يستطيع لأن يعود إليه هو وبنوه، فلا تكون فلسطين إلا وطناً لنا نسكنها وتسكننا، نعيش فوق ترابها، وندفن في ثراها.
عربي عواد المسكون بالقدس والمبعد منها، العاشق لها والمتيم بها، وقد عاش فيها سنين من عمره، وتلقى فيها علومه الدراسية، كان يصر على أنها مدينةٌ فلسطينية، واحدةٌ موحدة، عاصمةٌ سياسية، ومدينةٌ دينية، ليس لليهود فيها حق، ولا ينازع الفلسطينيين فيها أحد، تعلق فيها، وتمسك بالعودة إليها، وعانى كثيراً بسبب ما تلاقيه من عنتٍ وضيقٍ على أيدي سلطات الاحتلال الإسرائيلي، الذين لا يألون جهداً في تهويدها وجعلها يهودية الهوية، وإسرائيلية الوجه، ولكنه كان يرفض حتى أيامه الأخيرة أن تكون القدس لغير الفلسطينيين وطناً وعاصمةً وأقصى ومسرىً ومدينة، أياً كانت قوة العدو وقدراته، ومهما بلغ العرب في ضعفهم وانكسارهم، فإن فلسطين بقيت في قلبه حرة، والقدس عاشت في ضميره عاصمةً مطهرة.
ليس غريباً أن نكتب عن فلسطينيٍ مناضل، تزينه الأسمال العربية، وتجمله المفاهيم الوطنية، وتسكنه الثوابت العروبية، وريث شيوخ سلفيت، وابن أحد علمائها القدامى، الذين كان لهم فضلٌ في التأسيس، وأساسٌ في البناء، فلا عيب أن نرثيه بأجمل الكلمات وأصدق العبارات، بل إن العيب أن ننساه ونهمله، وأن نتجاوز وفاته ولا نهتم برحيله، فهذا رجلٌ قد كانت لفلسطين في قلبه مكانةٌ، وللوطن في حياته قيمة، وللقدس في قاموسه ألف معنى ومغزى، قد رحل عنا في زمهريرٍ يودع الشتاء برداً، ويغادر العواصف صقيعاً، ويشكو الحاجة فقراً، في وقتٍ تعصف بفلسطين أنواءٌ، وتتهددها صعابٌ ومخاطر، عل الله يرحمه، ويغفر له ويقبله، إنه على ما يشاء قديرٌ، وبالإجابة جديرٌ.