فلنحذر أن لا يكون حصاد ربيعنا شوك القتاد
طالب عوض الله
بليت الأمّة - أفراداً وجماعات - حديثاً بمرض قاتل متمثل باختلاق تعليلات واهية لتبرير الفشل الذريع في أعمالهم وما يمر بهم أحداث ومتغيرات.
وأمثال تلك التشخيصات التي تمثل الهزيمة المحتوية على الفشل الذريع وتبريراتها الواهية تتكرر كل يوم وفي كل الأقوام المختلفة، تتكرر في الحياة السياسية، وتتكرر في الحياة العملية، وتتكرر داخل البيوت، وأكثر ما تبرز في الانتخابات بأنواعها، وفيها كلها لا بد من تبريرات واهية للفشل، والمشكلة الكبرى في أنّها تبريرات تعتمد على الكذب أو سوء الظن أو الحسابات الخاطئة أو التقدير الخاطئ للمواقف، وربما تبريرات يصدق عليها أنّها تأخذ وصف أنها كتعلق الغريق بين الأمواج في البحر المحيط بقشّة، ونادراً ما تكون التبريرات صادقة
المرأة التي تضع قدر الطعام على الموقد لينضج، وتذهب للتلفاز لتشاهد فيه فيلم درامي وتنسجم معه، ولا تفطن لأنّ طعام أطفالها قد احترق وأصبح فحم أسود، فتبرر ذلك أنّ بالموقد خللاً أدى لاشتعال النار وحرق الطعام، والتاجر لا يخطط كيف يشتري وكيف يبيع وبماذا يتعامل في تجارته من أنواع الموجودات بمراعاة معادلة عامل الندرة النسبية في تقدير إرتفاع وانخفاض الأسعغار فيخسر وتفشل تجارته فيبررها بخطأ عاملوه وموظفوه
والخطورة البالغة فيها المنازلة الغير متسمة بالتقوى، بل استعمال الميكافيلية في النزال، معتمدين على المثل العامي ( ألعب بما تستطيع أن تغلب به ) وفي أمثال تلك الحالات يُعتمد على الكذب والتجريح الشخصي والادعاءات الكاذبة بعيدا عن شرف النزال ومراعاة الزمالة والدين
وأشد أنواع التبريرات الواهية تفاهة والتي لا تغني عن الحق شيئا وجود نفر من الناس ينْكِر مُنْكَرَ الأوضاع السيئة الذي يعيشها باللسان في حين كان باستطاعته العمل لتغيير ما أنكر من المنكر بغير الدعاء واللسان- بغض النظر عن نوعية هذا المنكر - وحين يجابه بأنّ تغيير المنكر منوط بالاستطاعة وواقع الحال القدرة على إنكار أكثر جدية وأبلغ أثرا، وربما فيما يتعلق بالمنكر الخاص القدرة على التغيير، فيهز رأسه آسفا حزينا بحجة أنه لا يريد العمل فيغضب أحد أو يعادي أحد، أو يواجه يجابهه بأن التغيير من عمل الله وليس من عملنا فنسأل الله الفرج وتغير الأحوال
والأصل في من فشل في مهمة أن يقوم بإعادة نظر في عمله يفتش فيه عن مواطن الخطأ والصواب، وايجابيات العمل من سلبياته، لتكون نتيجة إعادة النظر موجهاً ومرشداً ودليلاً لإتقان أعمال بعدها من مثل سد فراغات وتصحيح أخطاء واستحضار منسيات، معللا الأمور بوقائعها، مسترشداً بنتائج ذلك ومتعالماً منه. فبعد إعمال ربط الأسباب بمسبباتها لو اتقت المرأة ربها في معاملتها مع زوجها فستفلح وسترضى،ولو اتقى المسلم ربه في عمله التجاري ولم يعمل بالحرام فسيجد له مخرجا من كل ضيق، ولو اتقى حامل الدعوة ربه فسيملؤه اليقين أن الله لن يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفِسهم ...فيدفعه هذا الى العمل وتغطية مسؤوليته أمام ربه وأمته.
إنه من المفهوم بداهة أن الأمة الحية تسعى في طريقها للنهضة للعمل على إيجاد الإرهاصات التي تساعد وتدعم وتسهل الوصول للهدف، وتستبشر بالبشائر، وتعمل جاهدة على تحطيم العقبات التي تعيق الوصول للهدف، أو تمنع تحققه.أي تربط وتوازن بين الأسباب والمسببات، وقد كان هذا هو حال الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته والخلفاء من بعده، وكان هذا حال كل الرسل والأنبياء، وكذلك كل الحركات التي عملت على تغيير أوضاع مجتمعاتهم
في السيرة النبوية الشريفة كان أبرز عمل الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة المكرمة منصب على عملية إيجاد الإرهاصات التي تدعم العمل وتحقق نجاحه، من عمله لتركيز العقيدة عند المسلمين والحرص على تثقيفهم المركز بالثقافة الإسلامية، إلى العمل لإيجاد الوعي العام ومن ثمّ العملية الصهرية، والانتقال إلى مباشرة الاتصال بوفود العرب في موسم الحاج لطلب النصرة والعمل الجاد لتحققها، من مثل ذهابه إلى الطائف لدعوة ثقيف ومحاولة الحصول على نصرتهم، كل ذلك كان من وسائل وأساليب الوصول للهدف التي تفرضها الطريقة وتلزم بها، ومن ثمّ ايفادة مصعب بن عمير إلى يثرب لتعليم المسلمين أمور دينهم وتثقيفهم بثقافة الإسلام. وتلقى البشائر وأذاعها بين المسلمين، منها فتح القسطنطينية وروما والقدس، ومنها بشائر زوال كيان فارس، ومنها آيات النصر والفتح.وعمل على تحطيم كل العوائق والعثرات التي تحول بينه وبين الوصول للهدف. إلا أنه لم يكن من طريقته أبداً الاعتماد على الآمال والأوهام والأحلام والخزعبلات، لا بل قد حارب ذلك وحال بين أتباعه وبين ألأخذ بها، رابطاً بين الأسباب ومسبباتها، ويظهر ذلك جلياً في حادثة موت ولده إبراهيم الذي صادف كسوف الشمس حيث ربط بعضهم بين الحادثتين فما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا اعتلاء المنبر واستنكار ذلك في خطبة له في المسجد.
في حرب الخليج الثانية ( غزو العراق ) كانت مشاعر المسلمين ملتهبة، وكان الأمل يعصف بهم أن يخسف الله الجيش الصليبي المستهدف المسلمين ومقدراتهم وأعراضهم.منهم من توجه لله تعالى تائباً مستغفراً مستعيناً بالصبر والصلاة، رابطاً الأسباب بمسبباتها،باذلاً أقصى جهد مستطاع متلبساً بالعمل الجاد لعودة صادقة للمسلمين لأوامر الله ودعوته وإقامة دولة الخلافة الراشدة فرض الفروض وتاجها ، مستبشراً ببشائر النصر التي وعد الله ورسوله، ملتمساً التقيد بالحكم الشرعي في كل تصرفاته، نادماً مستنجداً وضارعاً لله آملاً نصراً من عنده، وما ذلك على الله بعزيز إن شاء، وهؤلاء هم الفرقة الناجية الذين أنعم الله عليهم بالسداد والتوفيق
ومنهم فريق استسلم للأحلام والأماني والخزعبلات، ومنهم من عقد الجلسات الطويلة مع الجان لأخذ البشرى منهم أن الله سيرسل على الجيش الغازي سخطا من السماء يأخذ أولهم وأخرهم، ومنهم من استعان بالمنجمين والكهان والعراف وكتب التنبؤات.وكان أكثرهم تيهاًقد ذهب بعيدا في تناول أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم المحتوية على البشائر مثل أحاديث: الرايات السود والعمائم السود، وأحاديث إهلاك الجيش الغازي للكعبة، وأحاديث المسيح المنتظر قدومه والمهدي المنتظر، ومنهم من تناول سورة " الفيل " وحاول تطويعها لتتوافق مع المناسبة. وحاولوا تطويع تلك الأحاديث والآيات الشريفة لِما يتفق مع المناسبة، وطفقوا يقلبون كتب الأحاديث صحاحها وضعافها والكتب القديمة ذات الصفحات الصفراء علهم يجدون بها البشائر التي يفسرونها على هواهم وحسب أوهامهم، وقسم التجأ للإسرائيليات وتنبؤات التوراة وكتب الكفار مثل " تنبؤات فوستر أداموز". وكان أتفههم قسم ادعى المعرفة والعلم وعلم الجبر والحساب فاستنجد بالأرقام والرقم 19 بالذات لاستلهام البشائر منه بإعماله في عمليات حسابيه ساذجة على آيات القرآن الكريم ليصل من خلال ذلك إلى ما افترضه من نتائج مُسْبَقة. ويحضرني في هذا المقام قول الشاعر
وما هو إلا كفارغ بندقٍ =خلِيٌ من المعنى ولكن يُفرْقِعُ
كل هؤلاء وأولئك لم يأخذوا الأسباب بمسبباتها، ولم يتنبهوا إلى ضرورة تحقق شرط الصلاح فيمن يمن الله عليهم بالنصر، مما ورد صراحة في آيات القرآن الكريم كقوله تعالى :( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) ، فخالفوا طريقة الإسلام في التفكير والعمل، وضلوا السبيل وأضلوا عباد الله ممن انبهر بمعلوماتهم وظنهم رسلاً وملائكة مبشرين، لذا فعندما وضعت الحرب أوزارها بهت وصعق هؤلاء وأولئك وظهر غباؤهم، ولم يبقى إلا إرسالهم للمصحات النفسية، وقسم قلب يديه مطلقاً الآهات والزفرات والسباب واللعنات والكلمات الجوفاء التي ربما قادته للكفر أو كاد، والسبب في ذلك أنهم أعموا أنفسهم عن الالتزام بطريقة الإسلام الوحيدة في التفكير والعمل، وأطلقوا لأوهامهم وأحلامهم وأرقامهم الحسابية العنان.
ومن لم يربط الأسباب بمسبباتها في عمله، ولم ينتبه إلى ضرورة تحقق شرط الصلاح في العامل (الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) ، فالنتيجة المنتظرة لعمله هي الفشل الذريع، وفي هذه الحالة يبدأ الفصل الجديد من فصول مسرحية الفشل، فيبررها بتبريرات واهية لكي يغطي على الناس فشله، وفي حالات لكي يخدع نفسه هو بتلك التبريرات، وربما بحث عن كبش فداء لكي يسلط عليه جام الغضب، ولكي يلقي عليه وزر الهزيمة والفشل الذريع، وفي هذه الحالة قد يكون ختام المسرحية نصر مآزر موهوم، يصفق له الواهمون التائهون الحالمون. وعندما يفيقون من هول الصدمة ( بعد خراب البصرة ) يبدأ فصل جديد من فصول التشخيص الأحول ،والتفاخر بعنتريات الهزيمة، وتكثر التبريرات الواهية ويكثر اطلاقها، وفي واقعها ليست سوى تعليلات واهية لفشل ذريع في الأمة أفرادا وجماعات.
( خربانه .... خاربه ..... لا أمل.) أي تشخيص عاجز للداء يتسم بالارتجالية وعدم الجدية.
نعم أيها الناس:
إنّ الأمّة الإسلامية تمر بأدق وأصعب مراحل تاريخها، فبعد أن تكوّن لديها القناعة التامة المكونة رأيا عاماً ناجم عن وعي عام بأن لا خلاص لها ولا أمل إلا بعودتها لتطبيق شرع الله وشرعت بإشعال ثورات تحقق لها ذلك ،وما أن قارب ربيع تلك الثورات أن يُزهر تحركت محافل الكفر تنشر بين الأمة بواسطة عملائهم فرضيات ومخترعات وفتاوى شيطانية ليست من دين الله وليست من الإسلام لا فكرة ولا طريقة ألبستها صفة الضرورة الزائفة، ومنها المطالبة بتحكيم الديمقراطية بدل تحكيم الإسلام، ولكي تخلق قناعة بتلك الردة الفكرية أتت بقواعد شيطانية كالتدرج في تطبيق الأحكام والرضا بأنصاف الحلول أو حتى الحلول العرجاء والحولاء مما حول ربيعهم المنتظر لتكون من نتائجها حصولهم على شوك القتاد ليس إلا. وحتى لا نفاجأ بتحول أملنا بربيع مثمر لصحراء قاحلة لا زهر بها ولا ثمر ( لا سمح الله ) وجب علينا الحذر والحيطة والانتباه فطريق النصرة واضح المعالم لا لبس به ولا خفاء. طريق سار عليه سيد الأنام في سيرته الشريفة من البعث حتى الهجرة وما بعد الهجرة ليس لنا أن نخالفه ولا البحث عن غيره في قواميس من لا يتقي الله. ولنتذكر أن أخر أمر هذه الأمة لن يصلح إلا بما أصلحه أولها.
عن أبي نجيح العرباض بن سارية قال : وعظنا رسول الله موعظة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون , فقلنا يا رسول الله كأنها موعظة مودعٍ فأوصنا , قال - أوصيكم بتقوى الله عزوجل , والسمع والطاعة وإن تأمر عليك عبد , فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً . فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ , وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة - رواه أبوداود والترمذي وقال : حديث حسن صحيح .